قرّر الجنرال شارل ديغول عام 1968 حظر بيع فرنسا إسرائيل السلاح بعد اعتدائها على مطار بيروت. وفي العام 2012 بدأ الرئيس فرنسوا هولاند أوّل جولة له في الشرق الأوسط بزيارة بيروت، وحذّر من زعزعة استقرار لبنان.
وكرّت سُبحة الأحداث ما بين التاريخين، وشهد لبنان ولا يزال كل أنواع الاختبارات والاهتزازات، فماذا ينفع إذاً الخط الأحمر الذي رسمته باريس لحماية كيان أسهمَت بإنشائه وتحصين بلد ذي تجربة تعددية بحسناتها وعلّاتها؟
قبل قرن من الزمن عند انهيار الإمبراطورية العثمانية، كانت فرنسا في قلب الحدث وأقامت اتفاق “سايكس ـ بيكو” واقعاً يعتبره البعض مسؤولاً عن كل المصائب، لكنّ الطامة بالنسبة إلى لبنان كَمنت في تحوّله إلى ضحية شبه دائمة لمحيطه الجغرافي السياسي عند هبوب العواصف الإقليمية.
إزاء هذا الواقع، سَعت فرنسا إلى حماية الخصوصية اللبنانية لاعتبارات تتعلق بمصالحها أوّلاً، كون لبنان الفرانكوفوني من أبرز جسورها مع عرب المشرق والخليج.
وبالطبع، هناك الوفاء لعلاقة تاريخية مع مسيحيّي الشرق، إذ كانت فرنسا “الأم الحنون” لموارنة لبنان منذ حقبة سان ـ لويس في القرن السادس عشر، وكانت لها اهتماماتها بمصير الأماكن المقدسة المسيحية في القدس، وبالوجود المسيحي في سوريا والعراق ومصر، وفي ما يتعدى ذلك نحو تركيا وأثيوبيا… ومع تغيّر وجه المنطقة تغيّرت أولويات فرنسا.
وفي لبنان سَعت، عبر علاقاتها مع النخَب السياسية والاقتصادية والثقافية من كل الفئات، لاستمرار تدعيم نفوذها. وفي غالبية مراحل التاريخ المعاصر، كان لبنان من نقاط الخلاف الأساسية بين فرنسا وسوريا، وأيضاً بين فرنسا واسرائيل.
حالياً، تعتبر الاوساط الديبلوماسية الفرنسية أن مهمة حماية لبنان من المخاطر الكبرى معقدة، بعد “هجمة المحور الإيراني ـ السوري ووكلائه المحليين التي تفاقمت مع اغتيال اللواء وسام الحسن”، والخشية من وجود مصالح أخرى، وبينها مصلحة إسرائيل في التحرّك على الساحة اللبنانية، ناهيك عن سَعي البعض إلى تحويله أرض نصرة أو جهاد متصلة بالوضع السوري.
منذ بداية الحراك السوري، دأب الجانب الفرنسي على تنبيه كل محاوريه من امتداد الأزمة السورية إلى لبنان، انطلاقاً من معرفة طبيعة التركيبة والتوازنات، حيث من الأفضل بقاء لبنان أنموذج عيش مشترك مسيحي ـ مسلم وسنّي ـ شيعي، في ظل صعود العامل الديني ونغمة الإلغاء.
لكن بين التمنيات والوقائع هناك بون شاسع، إذ إن العلاقة الفرنسية ـ السورية نفسها كانت تدهورت قبل الانفجار الداخلي السوري. ويجدر التذكير بأن كل جهود الثنائي ساركوزي ـ غيان مع الحكم السوري ذهبت هباء، إذ تأكد الالتصاق السوري بإيران والانغماس في الشأن اللبناني.
بعد زيارته الأخيرة إلى باريس في كانون الأول عام 2010، لم يتوانَ الرئيس بشار الأسد عن الاتصال بـ ساركوزي وإبلاغه ببساطة إنه استغنى عن خدمات سعد الحريري الذي جرى إبعاده عن رئاسة الحكومة اللبنانية بعد سقوط تسوية سين – سين (السورية ـ السعودية) التي أتاحت إجراء انتخابات 2009.
وبما أنّ للدول ذاكرتها، سرعان ما اصطفّ ساركوزي إلى جانب الشعب السوري، ليس فقط لاستدراك تأخّره عن مجاراة حركَتي تونس ومصر، او سيراً على النسق الليبي، بل لأنه كان هناك حساب مفتوح بين الإليزيه وحاكم دمشق في ما يخصّ الملف اللبناني وغيره.
ومع طول أمد الأزمة السورية، حاولت بعض القوى ابتزاز باريس عبر هجمات على قواتها العاملة في “اليونيفيل” في جنوب لبنان، لكن فرنسا الموجودة منذ تأسيس هذه القوة عام 1978، والتي فتَشت على حماية لبنان بأكبر قدر من القرارات الدولية (من 425 إلى 1701)، ليست في وارد السماح بانقلاب مستمر على شرعية لبنان والدولة فيه. ولذا، حرصت باريس على إبراز تقديرها لدور الرئيس ميشال سليمان في هذه اللحظة الصعبة.
وكانت محطة هولاند في قصر بعبدا التي رتّبت في آخر لحظة، بعد اغتيال الحسن، تهدف إلى توجيه رسالة للجميع بأنه ممنوع اغتيال لبنان وممنوع العودة الى مسلسل الاغتيالات فيه.
يبدو بديهياً القول إنّ هذا الخط الأحمر المرسوم لا يعني تحصين لبنان بشكل تلقائي من تداعيات لعبة أمم محتدمة في محيطه، ولا شيء مضموناً من
عدم امتداد دورة العنف إليه. لكن فرنسا العاجزة، كما غيرها، عن التخفيف من المأساة السورية، تجزم أوساطها المطّلعة بأنها قادرة مع حلفائها ومع المجموعة الدولية (ليس هناك تجاذب مع روسيا والصين حول هذه النقطة) على منع أيّ استباحة للبنان.
المسألة ليست في شخص رئيس الحكومة وتركيبتها بحسب الأوساط نفسها، وهذا الموضوع اختصاص داخلي لبناني، بل الأهم يكمن في عدم السماح بأن يدفع لبنان أغلى الاثمان. من هنا، تستقبل باريس رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في التاسع عشر من هذا الشهر بناء على موعد مسبق، ليس لدعم حكومته بل لاستمرار التشاور حول لبنان، ولأنه صدق بوعد قطعه حول تمويل المحكمة الدولية.
إلا أن فريق هولاند لا يسلّم بأن الوضع السياسي في لبنان مغلق، ويعتبر ان الرئيس سليمان ستقع عليه مسؤولية بلورة توافق حد أدنى يضمن التغيير الحكومي وديمومة المؤسسات وسط الانقسام اللبناني الحاد. بيد انّ أوساطا عليمة تعتبر ان المهمة شبه مستحيلة، لأنّ “حزب الله” يريد الحفاظ على الوضع القائم. ولا تتردد هذه الاوساط بوَصف دوره بالسلبي على غير صعيد.
باريس التي رفضت طلب رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وضع “حزب الله” على لائحة الإرهاب التابعة للاتحاد الأوروبي، انكَبّت مع حلفائها على مراقبة سلوك هذا الحزب لاتخاذ الخطوات المناسبة وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالسعي إلى تهديم ما تبقى من دولة لبنانية.
إن الاختبار الحقيقي لفاعلية الدور الفرنسي يكون في عدم السماح بحذف لبنان او تحجيمه وفق قاموس المصالح الجديدة أو أيّ سايكس ـ بيكو جديد في الاقليم.
لكن المسؤولية الأولى تقع على عاتق اللبنانيين، وفق ما قاله لهم الكومندان شارل ديغول في احتفال تخرُّج طلاب الجامعة اليسوعية (بيروت 3 تموز 1931): “يا شبابَ لبنان، فَلْيَكُنِ الإخلاصُ لبلدِكُم دَأْبَكُم الأعلى… واعمَلوا بروح لبنانية وطنيّة جماعية تتطلّب منكم تضحيات بالـ”أنا”، فإنما بمثل هذه التضحيات تكوَّن تاريخُ لبنان”.
التعليقات
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني – باريس
جريدة الجمهورية البيروتية