يعيش العالم وخاصة مناطقه الملتهبة على وقع الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكأن العالم ينتخب زعيمه كل اربع سنوات… على خلاف انتظار غودو بطل مسرحية بيكيت، الغائب الذي ينتظره الجميع ولا يأتي ابداً، يعوّل الكثيرون على مفاجآت أو أوامر عمليات ستأتي من وراء الأطلسي تعيد ترتيب الاوراق أو تغير موازين القوى في بعض الملفات الدولية حتى لو بقي اوباما سيّد البيت الأبيض.
حيال الصراع داخل سوريا وحولها تعطلت المجموعة الدولية بالفيتو المتكرّر للثنائي الروسي ـ الصيني، أما “غودو” الامريكي فقد أمعن في تردده وملاحظاته وأولوياته في مواجهة ما يشبه الحرب الباردة المتجددة.
إزاء الحصيلة المروِّعة للمأساة السورية من حيث عدد الضحايا والجرحى والمعاقين والمفقودين ومئات ألوف اللاجئين داخل الديار وخارجها، ناهيك عن حجم التدمير للبنية التحتية والنسيج الاجتماعي، تبدو الحسابات الاميركية والدولية لا صلة لها بحق الانسان في الحياة وأحقية مقاومته لطبائع الاستبداد وممارساته. ومن هنا اصبح الانتظار ثقيل الثمن وأخذ النزاع يتخطى الحدود السورية وغداً الاهتراء ينذر بمزيد من التفتيت والتدمير والحرب الطويلة.
من أجل فهم السياسة السورية لواشنطن لا بد من الاحاطة بالكثير من العوامل بدءاً من المصلحة العليا للولايات المتحدة التي تفضل أن تطبق نظرية التدخل الإنساني و تحمل المسؤولية الاخلاقية تحت سقف الشرعية الدولية، ولذا فإنها لا تريد الانغماس في حرب جديدة بعد حربي العراق وافغانستان حيث يبقى الانخراط في ليبيا الاستثناء وليس القاعدة.
ويأتي العامل الاسرائيلي في المقام الثاني. بالنسبة لإسرائيل لا تعد خسارة “الكنز الاستراتيجي” خسارة النظام المصري السابق لوحده، بل يأتي القلق الاساسي من احتمال سقوط النظام السوري بسبب الواقع الجديد والغامض في مجمل المنظومة الاقليمية وتغير الوضع على الحدود الشرقية مع إمكانية تواجد قوى راديكالية متشددة
أو قيام انظمة تحسن الدفاع عن مصالحها بشكل أفضل وأجدى. تبعاً لذلك، نفهم سبب عدم تسريع الجهد الأمريكي لإسقاط نظام الاسد، وعدم السماح بوصول أسلحة نوعية للقوى الثائرة حتى لا تتغير المعادلات قبل اتضاح صورة البديل في دمشق.
بالطبع تطول لائحة الموجبات أو الذرائع التي ردعت أو أخرت الانخراط الأميركي وأولها عدم وحدة المعارضة وثانيها الخوف على الأقليات وثالثها مخاطر صعود التطرف على ضوء التجربة الليبية وغيرها. لكن القطبة المخفية في الأداء الأميركي توجد في تطورات المسألة الايرانية ورغبة واشنطن في عدم حرق المراكب مع موسكو فيما يخص الأزمة السورية، بحيث تبقى روسيا لاعباً غير صدامي في موضوع الملف النووي الإيراني.
وفق ذلك ستكون الشهور القادمة حتى صيف 2013 شهوراً ترسم المشهد الاقليمي وربما تكون حاسمة لناحية الفوز في لعبة الصراع الاقليمي أو لجهة الدخول في لعبة امم معقدة ومفتوحة على كل الاحتمالات من طرطوس إلى انطاكية واصفهان.
ليس من الوارد تسليم واشنطن بخسارة اختبار القوة، والتضحية بمصالحها الكثيرة في الاقليم، ومنها صلاتها الحيوية مع تركيا ودول عربية في الخليج.
أياً كان الفائز في السباق إلى سدة الرئاسة في واشنطن، علمتنا التجارب تأرجح السياسة الأميركية بين الرغبة في التدخل والرغبة في الابتعاد أو عدم التأثير في مشكلات دولية معينة.
إلا أن لعبة المصالح سرعان ما تفرض منطقها، فتدخل اميركا الصراعات من بابها الواسع، وسيطاً أو شريكاً أو طرفاً بمعنى ترك الخيارات مفتوحة وفق برغماتية فلسفية تربط النظرية بالممارسة العملية.
انطلاقاً من هذه المراقبة التاريخية ومن جردة الحسابات الحالية إزاء الوضع السوري، يمكن القول إنّ الكلام الأخير لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون عن تنظيم المعارضة السورية، يُعدّ بالفعل تدشيناً لمرحلة سيتسارع فيها الدور الأميركي في الاسابيع القادمة.
بغض النظر عن التنبيه الموجّه ضد التطرف أو أمر العمليات في خصوص المجلس الوطني السوري والحكومة المؤقتة، يبدو ان واشنطن ترتب أوراقها وتعيد توزيعها كي تتعامل بشكل فعال مع الملف السوري.
في جلسة خاصة له مع معارضين سوريين قال السفير الاميركي في دمشق روبرت فورد إن “الحسم ضد نظام الاسد سيكون أما عسكرياً بعد حرب استنزاف أو سياسياً في حال فرض الحل السياسي الملائم بعد استكمال حصار النظام واضعافه”. لكن مصدراً اوروبياً يعتقد أن الافضلية الاميركية هي “لتغيير موازين القوى كي يتم ارغام النظام على التفاوض”.
يرتبط الدفع الاميركي نحو تفاوض المعارضة مع جزء من النظام في سياق استخلاص للدرس العراقي فيما يخص الحفاظ على ما أمكن من مؤسسات الدولة. بيد ان هذه القراءة لا تعبر عن فهم دقيق لطبيعة النظام السوري وتركيبته، وربما يتم تسويقها لمراعاة الطرف الروسي أو للتحكم بالبدائل الممكنة.
في انتظار التفاوض او الحسم، تبقى المسألة السورية أسيرة الحسابات الاميركية حيث ان القرار الجدي بأسقاط النظام لم يصدر بعد على رغم كل الكلام المسال منذ اغسطس ـ آب 2011 .
لن تحصل المعجزة غداة الانتخابات الاميركية، لكنّ بداية الخروج من المأزق اخذت ترتسم في موازاة غزارة شلال الدماء.