كانت كلمة مدوية، تلك التي خرجت من حناجر اللبنانيين الساخطين على تفجير الأشرفية الإرهابي: «لا تصوتوا بعد اليوم…في الانتخابات المقبلة! لا تنتخبوا أحداً…!» قالتها والدة الطفلة الجريحة جنيفر شديد، الى من سألها عما يراودها من أفكار وهي تسهر على إستفاقة ابنتها من الغيبوبة التي أوداها فيها الانفجار. قالتها أيضاً أعداد غفيرة من المواطنين، عبر الشاشة، في السرفيس، عبر الوقفات الحزينة أمام الحيّ المنكوب، ومسيراتهم الليلية الداعية الى تجاوز نطاق الحاكمين، 14 و 8 آذار. بل تفوّه بمعانيها جنبلاط في آخر مقابلته المتلفزة، حين رثى حظ اللبنانيين بالزعامات الحاكمة في بلاده: تلك هي عبقرية وليد جنبلاط، الذي يوفّق دائما، وبقدرة قادر، بين «نبض الشارع» و»الحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني»، وبين متطلبات تجديد زعامته… وصرخة مقاطعة الانتخابات القادمة كانت ابنة لحظات ما بعد التفجير، وقد نقلها جنبلاط على طريقته متلبّساً الأمانة، ولم يغب عن وعيه ان المقصود بها كل الطبقة السياسية، أو ما يسمى بالـ»مسؤولين»، أو «الزعماء»… أي تلك الفئة الممتازة من بين اللبنانيين التي تخوض صراعا مريرا اليوم محورها الانتخابات النيابية المقبلة، حول الحصة، أو الغنيمة التي سـ»تطلع» لكل واحدة منها. وجنبلاط ليس بالطبع من الصعاليك الذين تضيع أصواتهم في الأودية السحيقة، إنما هو من صميم هذه الطبقة. الفرق مع غيره، هو مزاولته ذاك التمرين السحري الذي ينطوي على إقامة المسافة بين كل كينونته السياسية المرتجاة، خصوصاً في ذروات الخطر، وبين كل كينونته «الواقعية». مسافة لا تدوم، لأن ليس هناك من يحاسبه عليها، هناك من يهجوه فحسب.
ذاك هو العطب المركزي في ممارستنا أو مواقفنا السياسية: اننا لا نعرف المحاسبة. صحيح اننا أطلقناها، تلك الصرخة، ووجدنا من يتحمس لها ويروّج لها. ولكن عندما «تحزّ المحزوزية»، لن يمتنع الا النادرين من بيننا على الذهاب للتصويت لكل المثبتين من المسؤولين والزعماء. هكذا… أوتوماتيكياً، من دون تفكير، في الإهمال أو اللامبالاة أو الإرتكابات أو البهورات أو الميليشيات أو الفساد أو التعطيل او إنعدام الكفاءة أو الإضرار بالمصلحة العامة، أو… أو… باختصار، لا محاسبة. بالضبط كما يحلّ على شاشة إحدى الأقنية متكلم عن تفجير الأشرفية ليدلو بدلوه، بعد أيام معدودة من قيام هذا المتكلم نفسه على شاشة أخرى بتهديد محاوره صراحة بالقتل…! هل يوجد قانون يحاسب على التهديد بالقتل؟ هل يوجد إنذار؟ أو تنبيه؟ أو غرامة؟ ربما، هو بنظر القانون جنحة، أو ربما لا يوجد قانون يحاسب، معنويا على الأقل، بالتهديد بالقتل. وفي كلتا الحالتين نحن في صميم ثقافة مجتمعية معممة، ترنو الى عدم المحاسبة على أقوال أو أفعال تنال من أمننا أو مصلحتنا بشيء؛ ثقافة لا تقتصر على المستويات المتدنية من الخائضين في القضايا التي تهم الناس، إنما هي صاعدة متسامية الى مستوى أعلى، «المسؤولين»… اللغة واحدة من بين ضحايا هذه الثقافة المعادية للمحاسبة: كيف تسمي «مسؤولين» من تعفيهم هذه الثقافة من المحاسبة؟ أليسوا، على الأقل مسؤولين عن افعالهم؟ أم انهم اطفال يحْبون، ما زالوا في خطواتهم الأولى، يتمرنون ببراءة… وذنوبهم مغفورة؟
هذه من عجائب حياتنا السياسية: لا نتوقف عن كيل المديح بـ»ذاكرة» بانية «هويتنا»، ولكننا عند الحساب، ننسى كل شيء، نريد ان ننسى، لأن حمل تذكر أفعال المسؤولين واقوالهم وبرامجهم… ثقيل، ثقيل… مستحيل، مستحيل…
تصور مثلا لو خالفنا القاعدة الذهبية التي قام عليه «سلمنا الأهلي» عام 1990، عندما «اتفقنا» في الطائف، وقررنا، بناء عليه، أن ننسى: نردد في كل مناسبة سنوية لاندلاع حربنا الأهلية «تنذكر وما تنعاد» (نتذكرها ولا نعيدها الحرب الأهلية). نرددها بحسرة، لجروحنا التي لم تندمل بعد، ونرتوي بلذتها، أي الحسرة. لا نغوص في أبعد منها. فعل الذاكرة العزيزة هنا يقتصر على العواطف فحسب. أما العقل، أما المحاسبة، فنطاقها العموميات: «الطائفية»، «الميليشيات»، «ضعف الدولة»، وهي عبارات حاضرة على لسان من خاضوا غمار القتل والقتل المضاد الأهليَين، على الهوية، من دون هوية، من كل نوع وصنف.
وعندما حوسب أحد اقطاب الحرب، كان حساباً كيديا. أعفي أرباب الميليشيات السابقين مقابل محاباتهم للسلطة الوصائية الجديدة، فيما قبع هو في السجن عقدا واكثر، ولم يخرج منه الا بعدما اختل الميزان القديم. فبادر الى الاعتذار العلني الى كل اللبنانيين عن أعماله الماضية. حسنا فعل طبعاً، وتميز بذلك عن بقية «المسؤولين». ولكن الاعتذار، هل تجاوز حدود الكلام؟ هل تحمل الزعيم مسؤولية أفعاله حقا وخضع للحساب في إطار زعامته، فخرج منها شباب جديد يقود المسيرة؟ و»المسيرة»، ما معناها عندما يصيبها صدأ كل هذا الزمن؟
يمكنك الخلوص بسهولة، عبر هذا المثل، الى نوعية الشروط المتوفرة للقيام بمحسابة «المسؤولين»، ليس دافعها الحق، القانوني أو الانساني، إنما دافعها هو منطق القوة، منطق ميزان القوة: إذا اختل الميزان الذي قامت عليه «مسؤولية المسؤول»، ينهشه خصومه، إما حبسا او قتلا أو تجفيفاً، أو معايرة أو عزلا، انتخابيا خصوصاً… ويكون بذلك الضحية المسكين «حوسب» على ارتكاباته وأعماله. هذا النوع من المحاسبة ينسب للقدر، للتاريخ. يحاسب المسؤول لو شاء حظه العثر ان تنقلب الموازين… وهي محاسبة لا يقتصر نطاقها على المستويات العليا، مستوى الكتل او التحالفات المتطابقة. انما يتعداها الى المستوى الاهلي، الافتراضي منه والمرئي والواقعي: فأنت لو دققتَ بمستوى ما يعتبره، مثلاً، إفتراضيو مواقع التواصل الالكتروني «محاسبة» للـ»مسؤولين»، فلن تلاحظ الا وقاحة وتلطيخ سمعة وشتائم وتقزيم وسخرية، غير مضحكة. «الحرية المطلقة» التي يعتقد المحاسبون الالكترونيون انفسهم انهم يتمتعون بها، خدمتهم في إفلات ألسنتهم عن حصانتها، وخلطوا بين المحاسبة السياسية وبين الهجاء الرث. ليس إلا.
ولكن الأمر لا يقتصر على التدني اللساني والأخلاقي. انه يتعدّاه الى أفظع: هذه المسماة «محاسبة» يتخندق كل عضو خلف متاريس معسكره السياسي، وتكون حريته المقدسة مصبوبة على الخصم السياسي؛ انها اسهل الحريات. أما أصغر الهفوات وأكبر المعاصي لـ»مسؤولي» القطب المنضوي تحته صاحب الحرية هذه، فلا تنهيدة واحدة، ولا دمدمة… يفترض بالمحاسبة ان تتجاوز الأخطاء بغية تحسين شروط العيش الانساني بما يتضمن من مصير ويوميات؛ وعندما تقتصر على مسؤولي الخصوم، فهي لا تقدم ولا تؤخر الا في تأجيج الانقسام وأدلجته والتفنن في اختراع عباراته الجوفاء، التي باتت تستحق، عن جدارة تامة، صفة «الخشبية». تماما مثل الأوصاف التي نشبع الاسرائيلي بها كلما تعرضنا لعدوان… نردّدها تعبيرا عن ايمان، لا عن يقظة عقل. العقل الذي أرسى شيطنة اسرائيل مضى عليه سبعة عقود، وما زال حيا؛ هو نفسه العقل الذي لا يعرف ان يحاسب من دون ان يشحذ ولاءه وحماسته، بدل عقله. هكذا انتصب الزوج العقلي، التكفير والتخوين، ليسدّ منافذ عقلنا الجمعي أمام خوض معركة داخل صفوفه أولا، بدل تجيير كل محاسبة لغير صالح المعسكر الخصم. ولا يكتمل نمو الزوج، تكفير وتخوين، الا بالـ»مؤامرة». عندما تكون المؤامرة هي الآلية التي تلخص رؤيتنا، فلا يمكن للمحاسبة ان تتم؛ بما أن منفذيها معروفين سلفاً، قبل أي حكم، هم دائما الخصوم، فلا يمكن للمحاسبة ان تتم، أيضاً.
عودة الى الانتخابات: الاشخاص انفسهم، الذين اعلنوا الاضراب عن التصويت، هل يفعلوها حقاً؟ هل يمتنعون فعلا؟ الأرجح انهم لن يفعلوا، أو لنقل ان فئة ضئيلة، هي المعتادة على عدم التصويت، لن تصوت. الباقون سوف يذهبون بقلوب ثقيلة أو خفيفة الى مراكز الاقتراع. لماذا؟ لأن معركتهم ليست من أجل هذه أو تلك من البرامج، إنما من أجل تعزيز قوة الطائفة بوجه أخرى، وفي حال إنقسام الطائفة، فمن أجل هذا او ذاك من المنضوين تحت جناح الطائفة الأكبر. بالإضافة طبعا الى اعتبارات الخدمات والمساعدات والتوظيفات وتاريخية البيوتات والزعامات…. وجميعهم تولى المسؤولية أثناء المصائب التي ألمّت بنا.
أي، بمعنى آخر، إن الفعل الديموقراطي، المتمثل هنا بلحظة الانتخابات، يصطدم بثلاثة حواجز: الاول بنيوي، قوامه التناقض العميق القائم بين فكرة الانتخابات، هي زمان محاسبة وتجديد، بناء على ما أنجز أو أقترف من اعمال، عمادها الجردة والمشاريع المضادة والارقام الخ. وعليه، نكتشف ان هناك تناقضاً بين الممارسة الديموقراطية من جهة، وبين البنى التقليدية التي ما زالت محافظة على نداوتها وبريقها اللامعين، على الرغم من أسلحتها الفتاكة. وهو تناقض يشبه براعتنا في تطويع التكنولوجيا الحديثة لأغراض ظلامية متخلفة. اما الحاجز الثاني فهو اخلاقي: المرشحون للإنتخابات هم أناس ينذرون أنفسهم للخدمة العامة، أو هكذا يُفترض. في حالنا، المرشحون يعدون ناخبيهم بأنهم سوف يستولون على ما يكفي من خيرات الدولة لكي يبقوا «مسوؤلين» فيها، أي فائزين بمقعد نيابي، فيشحذون بذلك تواطؤ المقترع. أما الحاجز الأخير، فهو الأكثر دراماتيكية: ما نفع الانتخابات اذا كان الأخذ بنتائجها خاضع لغلبة سلاح، يفرض نفسه بقوته الذاتية، بصرف النظر عن التصويت ونتائجه؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
[نوافد المستقبل->http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=82440
]