وسط معْمعات المرحلة الإنتقالية المفترض انها ديموقراطية، نسينا الذين أوصلونا اليها: شباب متعولم، متعلم، مندفع لإسقاط نظام الطاغية، وإقامة الديموقراطية في بلاده، ومن دون أيديولوجيا محددة. هؤلاء الشباب، فاجأوا الجميع بوثبتهم الثائرة، وعَدونا بآتٍ عظيم، روافده نداوتهم، حيويتهم، جديدهم؛ خصوصاً «جديدهم»، إذ بدوا، يوم إندلاع ثورتهم، وكأنهم يضمرون ما يسرّنا…
وما أن ولَجنا، بعد هذه الثورة، الى المرحلة الإنتقالية، حتى بدأوا، شيئاً فشيئاً، ينزوون، يتفرّقون، ينقسمون، يكادون يتلاشوا….. أين هم الآن هؤلاء الشباب؟ آخر ما وصلنا منهم، الصوت الخافت جداً لوائل غنيم، أحد رموزهم الأشهر، ينادي المسلمين بالكفّ عن الإحتجاج على الاساءة للرسول بالطريقة إياها، لأنها تصيب صورتهم أمام العالم، أو الغرب.
نسينا الشباب وسط ذهولنا مما بتنا نسميه «تقيّحات» طفحت على سطح مجتمعات ما بعد ثورة، هم الذين أطلقوها. كنا نتوقع، نتأمل، بأن شيئاً إيجابياً سوف تطلع به هذه المجتمعات بعدما مشت جموعها خلف هؤلاء الشباب للمطالبة باسقاط النظام؛ ولكننا لم ننل غير المفاجأة البائسة.
بعدما أسقطت الطاغية، أوصلت هذه المجتمعات الى السلطة، أو هي في طريقها الى إيصال، ممثلين عن إسلام سياسي ظلامي، حرفي، لا يعترف بالتاريخ، يوجد بداخله مروحة واسعة من فروع «وسطية»، «متطرفة»، سلفية، إخوانية، جهادية بتنويعاتها، كلها مجمعة على إقامة الدولة (أو الخلافة) الاسلامية وتطبيق شريعتها، وإن بطرق ومهل مختلفة، كلها مجْمعة على قصر الشريعة بالحدود، أي العقوبات الجسدية؛ «ليس الآن….» يرد الاخوان المسلمين، على الملحّين بتطبيقها في هذه اللحظة، من جهاديين أو سلفيين…. (هؤلاء يزيد من حماستهم ما حصل في شمال مالي، الواقعة في قبضة نظرائهم الاسلاميين، الذين سارعوا، فور سيطرتهم العسكرية عليها، بتنفيذ «أحكام» الشريعة، بأن قطعوا أرجل أيدي رجال قاموا بسطو مسلح…).
إسلام «هوياتي»، يقوم «الجهاد» على أساسه… ومستعد ان يخوض، من حيث المبدأ طبعا، اذ ان مستلزمات السلطة تقتضي «براغماتية» تتلاعب على «المبدئي» هذا…. مستعد ان يخوض حرباً ضروس على الذين يقفون ضد معتقداته… فقط معتقداته. ولكن التقيحات الأقوى مستوطنة في المسائل التقليدية الثلاث التي كان دائما للإسلام السياسي ما يعيدنا بواسطتها الى قرون للوراء، وها هو الآن يتقدم حثيثاً نحو هذه القرون: النساء والأقليات الدينية، والمذهبية، وحرية الخيال والتفكير والتعبير. هذه المجالات الثلاث هي موضع «الاهتمام» الخاص من قبل الاسلام السياسي؛ إهتمام تشوبه كراهية متأصلة، قديمة، تحتاج الى من يفككها. في النساء، الوجهة العامة تسير بين خطيّ سحب ما بلغنه من مكتسبات، قليلة، في ظل نظام الطاغية، وتسريب مناخات ضاغطة نحو إعادتهن الى المكان «الأصلي» الذي وجدن فيه، أي البيت، حيث كنّ مرابطات قبل أن تطالهن الثورة النسوية وتخرجهن إلى رحاب أوسع منه؛ النساء ومعهن الأطفال أيضاً، ويتمثل أحد أهم الأخطار التي تهددهم بمشروع القانون الدستوري الذي اقترحه أعضاء في الجمعية التأسيسية المصرية، والقاضي بتخفيض سن زواج البنت الى عمر التاسعة. ثانياً، الأقليات الطائفية والمذهبية، بالعودة الحثيثة والخبيثة نحو ما كانت عليه، في تصور الاسلام السياسي، أيام عزّ الاسلام الكلاسيكي، عندما لم تكن هذه الأقليات سوى «ملل» ينتمي ابناؤها «الصاغرون» الى فئة الدرجة الثانية، أو الثالثة من المجتمع. أما حرية الخيال والتفكير، وبالتالي التعبير، فببناء محاكم تفتيش ستالينية على الضمائر، وما قد ينضح عنها، الى العلن خصوصاً، بما يخالف الشريعة الاسلامية التي يفهمون.
إذن نحن بإزاء مفارقة، نظرياً على الأقل. لدينا شباب وشابات مثل الورد، يطلقون ثورة تسقط رأس الحكم، ومجتمع يستجيب له بإندفاع جارف. ثم بعد ذلك، هذا المجتمع يصوّت نفسه، بغالبيته، لحكم ديني، يعيده الى ما قبل سقوط هذا الرأس بقرون.
العديدون من بين الذين يتابعون الثورات لاحظوا ذلك، وثمّرها آخرون ممن يمقتون الثورات العربية، وحجتهم لا يستهان بها: «انظروا…!» يقولون… «تريدون ثورة؟» ها هو ما تفضي اليه: ملتحون وكراهية وتخلف…. صديد يطفو منه الى السطح كل هذا القدر من التخلف والإهتراء… هل هذا ما تريدون حقا؟ هل هذا ما كنتم تتصورون، بحماوة رؤوسكم وسذاجة أحكامكم؟ وللغرابة، فان الشامتين بالثورات من هكذا «نتائج» يتوزعون بين قطبين نقيضين: اليساريون التقليديون، الذين لا يتصورن ثورة من غير نظرية ولا تنظيم مركزي ولا قائد تاريخي، كلها مثار إعجابهم، كما كانت عليه الثورتان البلشفية والماوية… هؤلاء السوبر ثوريون يتداخلون مع حَفَظة الأنظمة المستبدة، بالشروط «الثورية»… والإثنان يعزّزان الدعاة الصرحاء للأنظمة المستبدة، أو الواقفين على أطلال ما إنهار منها.
في الإجمال، الضمنية المحرّكة لفئتي أولئك الشامتين تقول بأن مجتمعات ما قبل الثورة مثل الصنادق المغلقة بإحكام، كانت تتسرّب منها أحيانا تعبيرات ظلامية لا تلبث السلطة الاستبدادية أن تقمعها، أن تمعن في إغلاق صندوقها؛ فتنقذ بذلك الوطن من موتوريه. ولكن هذه الضمنية لا تذهب أبعد من ذلك. لا تقول مثلا كيف «تعالَج» مكوّنات هذا الصندوق المغلق بغير القمع، كيف «تصلح»، أو لليساريين من بينهم، كيف «تجذّر»… تكون أكثر جذرية. طبعا، التاريخ لم ينتظر عناية ورقّّة الحريصين على إبقاء الصندوق مغلقاً بإحكام. التاريخ نفخَ في الصندوق فانفجر. كانوا يفضلون ان لا ينفجر؟ للأسف…. انفجر، ودموعهم على الأيام الخوالي التي كنا ننعم فيها بضبط محتوياته كدموع التماسيح… لا تؤثر ولا تتأثر.
الإسلام السياسي هو إرث أنظمة الاستبداد. تأسلمت المجتمعات في ظلها بالحيلة والتلاعب والغذاء الطقوسي اليومي للتطرف الديني، إما مزايدةً أو مسايرةً أو ديماغوجيةً…. سبق ان نبّهنا الكثيرون الى ذلك؛ من ان السلطة المنتزعة عنوة، متلهفة لغرف الشرعية من بطون إحباطات من تنظر اليهم على انهم رعاياها، لا مواطنيها. حسنا، هذه السلطات كانت تغمس في رصيد عصر التنوير الاوروبي ما تقدمه للخارج، للغرب خصوصا، تضحك عليه، بكم مكسب أو تبديل سطحي… والغرب عارف ومتواطىء. وفي الداخل، تشهر السيف بوجه الاسلام السياسي على أساس انها «علمانية»، وتوسع دائرة أنصاره على اساس ان رجالاتها من «المؤمنين».
لمَ هذا الاستخدام النفعي للإسلام السياسي؟ لأن هذا الأخير، ببساطة، أصبح مع الوقت ايديولوجيا مكتملة المقومات؛ انه تحول بجهد الأنظمة الاستبدادية والفضائيات وتراكم الاخفاقات الى صاحب منظومة تفكير محددة، ذات ديناميكية خارقة، تعرَّف به شخصيته السياسية والثقافية والسلوكية، وحتى «الهندامية». أكثر من ذلك، الاسلام السياسي هو الايديولوجيا الوحيدة الباقية بعد انهيار كل سابقاتها. وهو ايديولوجيا مهيمنة، بالمعنى الغرامشي للكلمة، لم تعفِ العقول «الفاترة» أو «المسترخية»… تسلّلت الى وعيها بغفلة منها.
ولكن ما نلاحظه ان تحت سقف هذه الايديولوجيا، يوجد تيارات، متفاوتة التمسك بحرفيتها، أو مختلفة حول مهل وطرق تطبيقها، بين «إخوانية» و»جهادية» و»سلفية»؛ من فروعها الثلاثة هذه تتفرع غصون، وشيوخ ودعاة ونجوم تلفزيون. تتفاعل في ما بينها بقانون الأواني المستطرقة: يكون المرء إسلامياً من الفرع الاخواني، يتحول نحو السلفية أو الجهادية، وبالعكس، يدخل هنا ليخرج الى هناك… تماما مثلما كانت الايديولوجية الشيوعية ذات فروع، روسي وصيني («ماوي»)، يعود ويتفرع منها مجموعات ثقافية أو قتالية، هي التي أردفت الفرع الأصلي بمتطرفيها؛ من غيفاريين ودعاة حرب التحرير الشعبية المسلحة المتمردين على «إنتهازية» الشيوعية الرسمية و»تحريفيتها»، كما يتهم الآن السلفيون الاخوان بالـ»تفريط بالدين الصحيح»… وعندما ينبّه مراقبو الثورة السورية الى مخاطر انزلاقها نحو التطرف، نتيجة وحشية النظام، فهم لا يقصدون إلا «تطرفاً» إسلاميا، لا تطرفاً علمانيا أو يساريا أو ماوياً. أن يكون الاسلام السياسي صاحب الايديولوجيا الوحيدة الآن، والايديولوجيا المهيمنة فوق ذلك، يفسر الى حد كبير إخفاق خصومه الليبراليين أو الحداثيين من التغلب عليه؛ ليس لأنهم تفرقوا بين مئة حزب وشخصية، انما هم تفرقوا الى هذا الحدّ لأنهم لا يملكون ديناميكية الايديولوجيا.
ليصبح السؤال: هل هذا يعني بأن على الليبراليين وأشباههم أن «يبنوا» ايديولوجيا ليصلوا الى الحكم؟ هل هم مستعدون للحكم أصلاً، لو وصلوا، كليبراليين؟ غير متخفين وراء أفعال إيمان دينية تتوسل القبول الجماهيري؟ بأية تربة تنبت هذه الايديولوجيا؟ تربة النقد والملاحظة والشهادة والمسافة، أم تربة المشاركة السياسية؟ ما تكون هذه المشاركة؟ حزب؟ جمعية؟ جماعة؟ أم تراهم سوف يمررون العصر الديني بالتي هي أحسن، وهم خفيضو الرؤوس، لعلّ القرن المقبل يأتي بما يثلج قلبهم؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل