يحلو للبعض من أصحاب القرار أو من نُخب الرأي العام تبرير التقاعس أو العجز عبر ترداد مقولة: “اتفق العرب على ألّا يتفقوا”، ويحمّل البعض الآخر جامعة الدول العربية مسؤولية عدم إعادة بناء نظام إقليمي عربي فعّال في زمن التجمّعات الكبرى.
وأخيراً أتحَفنا الرئيس السوري بشار الأسد (في حديث أو دردشة مع مجلة مصرية) بنظرية عن “مثلث الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط” الذي لا يضمّ حسب تصوّره “مصر والسعودية وسوريا” بل هو حسب رأيه “كان دائماً وسيظلّ يشمل مصر وسوريا والعراق”. ويتحدّى رأس النظام في دمشق دول الخليج العربي قائلاً: “هم يتصوّرون أنّ بإمكان أموالهم شراء الجغرافيا والتاريخ والدور الإقليمي”.
هناك تصورات أخرى وأقاويل واعتبارات مرتبطة بالمصالح المباشرة أو التحالفات الظرفية، لكنّ نظرة تاريخية تبين لنا أنّ تجربة العمل العربي المشترك مخيّبة للآمال. فجامعة الدول العربية تأسّست في العام 1945 وهي من أقدم المنظمات الإقليمية في العالم وأكثرها انقساماً وأقلها فعالية. على الصعيد العملي، تجدر الإشارة إلى أنّ فكرة إنشاء سوق عربية مشتركة طرحَها أعضاء في جامعة الدول العربية عام 1953، وحينذاك كانت أوروبا تمتحن فكرة التعاون بين بعض بلدانها في مجالات إنتاج الحديد والصلب.
يبدو الفارق جلياً بين أوروبا التي بدأت تجربتها بالخطوات الاقتصادية الملموسة ومن تحت إلى فوق حتى غدت اليوم من كبار الأقطاب الاقتصاديين في العالم. بينما ضاع النظام العربي في السعي إلى التوحيد السياسي من فوق والشعارات، من دون إيلاء الاهتمام المطلوب إلى الاقتصاد وديناميكية المصالح المتشابكة الكفيلة بتطويع الانقسامات السياسية.
في الأساس، لم تدُم الفترة الذهبية لنواة نظام إقليمي عربي إلّا خلال الفترة الممتدة بين أزمة السويس عام 1956 وحرب حزيران 1967، وحينها تمكّن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من قيادة مشروع عربي بدأت انتكاساته مع سقوط الوحدة في سوريا وكانت نهاياته مع الهزيمة أمام إسرائيل والغرق في حرب اليمن. إذاً ترتبط بدايات سقوط النظام العربي الوليد مع تهاوي المشروع الناصري، واكتمل التصدّع العربي مع تداعيات الحقبة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان واتّفاق كامب ديفيد عام 1978 إلى أن كانت الضربة القاضية مع سقوط بغداد في نيسان من العام 2003.
إذا تمعّنا عن قرب في مسار اتّفاق أوسلو والأداء العربي الرسمي في تسعينيّات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي وتبخّر حلم الدولة الفلسطينية، لاستنتجنا بسرعة أنّ مَن لا يُحسن القيام بالحرب لا يُحسن صناعة السلام. وإذا أردنا أن نكون مُنصفين في توزيع المسؤوليات عن مصائب الشعوب العربية بين معسكر ما سُمّي بالاعتدال ومعسكر ما سُمّي بالصمود والتصدّي سابقاً والممانعة حالياً، لكان الحكم القاسي على مزايدات جميع الذين اتّخذوا قضية فلسطين شماعة ولم ينجحوا في محاربة إسرائيل ولا في التنمية الحقيقية وبناء دول الاستقلال والقانون، بل حجزوا شعوبهم في سجن كبير وحجزوا أيضاً الإبداع العربي والعقل العربي.
بالطبع لا يمكن شراء التاريخ والدور الإقليمي، لكن لا يمكن أبدا تزوير التاريخ وتناسي المسؤولية أو نسيانها عن سقوط الوحدة السورية ـ المصرية أو هزيمة 1967 وتضييع الجولان (بعد الهزيمة المرّة خرجت إحدى الصحف الرسمية السورية لتقول إنّ الثورة ـ أي النظام البعثي الجاثم على الصدور ـ أهم من الأرض) ناهيك عما جرى من عدم نجدة الفلسطينيين في الأردن والتفرغ لضرب القرار الفلسطيني المستقل والسيطرة على لبنان (… ذكر علها تنفع الذكرى).
إنطلاقاً من المراقبة الواقعية، لا يمكن تحميل دول الخليج العربي مسؤولية عثرات دول ما كان يُسمّى المواجهة في المشرق العربي، وللإنصاف نقول إنّ الملك الراحل فيصل وقف بقوة إلى جانب الثنائي السادات ـ الأسد في الإنجاز اليتيم والمحدود في العام 1973. وللمزيد من التذكير تدفقت طويلا العطاءات السعودية والكويتية، وحديثاً القطرية، إلى سوريا التي كانت تقول إنّها تتصدى لإسرائيل وتشكّل الوسيط بين عرب الخليج وإيران الإسلامية.
ليس إذاً من محور استقرار إقليمي مكرّس بالفعل، بل إنّ النظام العربي الرسمي كان دوماً رهينة أو نتاج تعاون أو تجاذبات القاهرة والرياض وبغداد ودمشق، لكنّ المسألة لا تنحصر بين المشرق وشبه الجزيرة العربية، ومَن يستطيع إنكار المغرب العربي والسودان. والأهم الآن أنّ جامعة الدول العربية التي أدّت دوراً في مساندة القرار الدولي حول ليبيا والقرار الإقليمي حول اليمن، عادت إلى دائرة العجز حول سوريا.
هذا التوصيف لتهاوي النظام الإقليمي العربي يستند إلى معطيات ما بعد حرب العراق التي أدّت إلى تغييب العرب وصعود ثلاث قوى إقليمية غير عربية، وهي إسرائيل وتركيا وإيران. وحتى الآن ما زال من المبكر الحكم على التحوّلات مع ما يُسمّى بالربيع العربي. من دون العودة إلى المسلّمات واستكمال التحوّل الديموقراطي وتجميع عناصر القوة لن تكون هناك قيامة لنظام إقليمي عربي وستبقى العربُ على هامش العولمة ودوائر صُنع القرار الدولي.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني
الجمهورية