تلقى الإعلام والمعلومات الضربة القاضية في هذه الحرب السورية المروعة. قلة مصداقيتهما كانت نتيجةً، في المقام الأول، للجهل العميق لنظام كالبعث كان قد كرَّس دائماً نمطاً بوليسياً وحشياً، مطارِداً ومروِّعاً شعبه خلال أعوام، ولميلِه للتعذيب والسرية. لكنه أيضاً امتلك في أصله برنامجاً اجتماعياً، تعليمياً، مجدداً، “ثورياً” وفق مؤسِسَيه المنسِيَّين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، ودعوة اجتماعية، عروبية، علمانية، كانت تسعى إلى رفع المهانة عن المجتمع العربي الجريح في كرامته. كانت أزمنة سياسية مختلفة جداً في الشرق الأوسط، مع زعيم مصري كاريزمي، شعبوي، مناهض للاستعمار، هو ناصر، وحزب ذي طبيعة تقدمية، عقائدية، علمانية، هو البعث، الذي استولى على السلطة في انقلابات عسكرية في سوريا والعراق.
سقوط الناصرية بطابعها التسلطي والبوليسي والبعث المتحول إلى بنية فوقية ايديولوجية يُتَلاعَبُ بها من قِبَل العلويين الأقلويين السوريين، ومن قِبَل الجيش، غيَّر اتجاه التاريخ لهذين الشعبين.
إن سوريا، بسبب تكوينها المعقد من الجماعات الدينية والاثنية مع توازناتها الصعبة، مثل لبنان والعراق، وبسبب تاريخ استعماري مهين حديث أثناء الانتداب الفرنسي الذي اقتطع منها، على سبيل المثال، منطقة لواء اسكندرونة، التي سلمها حكام باريس إلى جمهورية أتاتورك التركية الفتية، كانت بلداً يصعب فهمه، وغالباً ما كان محبوباً قليلاً. ومن المفيد هنا أن نتذكر الكتاب الجيد الذي كتبته “روسا ريغاس” تحت عنوان “نور الشام”.
عناد النظام الدمشقي، ذو المظهر السوفييتي، المنقوع بروح قبلية وعصبية كما وصفه جيداً ميشيل سورا -سوريا كان لها دائماً سمعة سيئة في الغرب- زاد من عجزه عن الانفتاح على الصحافة الأجنبية المُعتبَرة عدائية أو مشبوهة، والخاضعة منذ زمن طويل لرقابته ومراقبته القاسية. وعندما جاء زمن المظاهرات السلمية الثورية المناهضة للحكومة، وبعدها الثورة المسلحة، لم يعرف كيف يفسر، ولا كيف يتواصل مع الخارج، مكثراً من صوره النمطية عن كونه ضحية مؤامرة دولية غادرة.
دمشق، بخلاف بيروت، لم تكن قطُّ مقراً لوكالات الأنباء العالمية ولا للمراسلين صحفيين، بسبب غياب الحرية. لقد كتبتُ في مناسبة أخرى أن بداياتي كمراسل في الشرق الأوسط في خريف عام 1970 اتسمت بالإحباط من عدم الحصول على تأشيرة سورية تمكنني من الكتابة عن انقلاب القصر العسكري الذي قام به الفريق حافظ الأسد، والد الرئيس الحالي، مطيحاً بالقادة البعثيين ذوي الاتجاهات الايديولوجية المتشددة، نور الدين الأتاسي وصلاح جديد، اللذين كانا في الحكم.
كان دخول الصحفيين أمراً صعباً على الدوام -كنت أتقدم بصفتي محامياً في طلبات التأشيرة- في الأوقات العادية، لذا فلا غرابة في هذا الفصل التاريخي المؤثر أن يزداد صعوبة، أمام صحافة اتخذت، بوجه عام، جانب الثوار المعدودين أبطال ثورة عفوية وشعبية، ضد دكتاتورية وراثية دموية وفاسدة، معتمدة على أقلية من شعبها.
كان يجب أن تنقضي شهور دامية حتى تظهر، شيئاً فشيئاً، الحقيقة المعقدة لهذه الحرب، الحيوية لسوريا والشرق الأوسط. قادة المعارضة عرفوا منذ البداية كيف يفتحون أبوابهم للموفدين الصحفيين الخاصين الذي استطاعوا ويستطيعون رواية قصص حياة ونضال الثائرين، وزيارة جيوبهم، والشهادة على حدوث المجازر والفظائع وعمليات القمع العسكرية، في جو غالباً ما يكون مثيراً على نمط رائج للإعلام بوصفه عرضاً show.
كنا قلة نحن الصحافيين الذين استطعنا الحصول على تأشيرة للدخول إلى سوريا، حيث نطاق عملنا، بدون الفضول المرَضي ومغامرات زملائنا، ضيوف الثوار، هو أكثر تقييداً بسبب استحالة الخروج من العاصمة. وعليه، فإن أصوات الجنود والمقاتلين، وقبل كل شيء، السكان المدنيين بأقلياتهم، بالكاد تجاوزت ما هو أبعد من حدودها. من يقيِّم، على سبيل المثال، المعارضة الداخلية للنظام؟ المعلومات الواردة من الناطقين باسم المعارضة المستقرين في الخارج، ومن الرسائل التي لا تُحصى على اليوتيوب أو الفيس بوك، تم تقييمها بشكل دائم تقريباً على أنها موثوقة، بينما الأخبار الصادرة عن المراكز الحكومية تم نعتها، برمتها، بأنها دعاية محضة.
هذه الظاهرة من التضليل والإرباك، غير القابلة للقياس، حجبت بشكل أكبر التاريخ الحقيقي لصراع حوّلته التدخلات الأجنبية على هذا الجانب أو ذاك إلى أحجية دولية متفجرة. كل نوع من التكهنات، من التحليلات المبكرة المعلنة عن سقوط الأسـد، عن انشقاقات كبار مسؤولي النظام، من الأخبار التي تؤكد الانتصارات الحاسمة للثوار، تعزز المعلومات السلبية حول سوريا. إن وجود الشبكات الاجتماعية التي لا قدرة لأحد على السيطرة عليها فاقم من خطر فصام هذه الأمة المختارة ككبش فداء في المشاريع المعقدة حول الشرق الأوسط. وكائنة ما كانت مشاعرنا، وآراؤنا، فإننا يجب أن نبكي لموت ولدمار هذا البلد. من الشائع القول إن الضحية الأولى للحرب هي المعلومة. أما في سوريا، ولترقد في سلام، فقد حفروا قبرها.
ترجمة: الحدرامي الأميني
صحيفة “لا بانغوارديا” الإسبانية