“الشفاف”- بيروت
لوقت طويل مثلت “معراب” في ذهن اللبنانيين مركزا ومقرا حزبيا لا يخلو من صبغة امنية فرضتها طبيعة الاوضاع السياسية في البلاد، والاستهداف المتتالي لرئيس الحزب الدكتور سمير جعجع.
كما مثلت “معراب”،مقرا لاجتماعات قوى ١٤ آذار، وسوى ذلك من الاجتماعات والاحتفالات التي لا تختلف في طابعها عن السياسي والحزبي.
“معراب” يوم الجمعة الماضي اختلفت مضمونا، بعد ان احتضنت ندوة حوارية بعنوان “دور لبنان في النهضة العربية الجديدة”، شارك فيها منسق الامانة العامة لقوى 14 آذار الدكتور فارس سعيد، والدكتور اكرم سكرية، والدكتور روك مهنا، مدير الاخبار في محطة “أم تي في” غياث يزبك، المستشرق الايطالي اندريا كما تخللتها مداخلة عبر تقنية برنامج “سكايب” الالكتروني” للاب باولو من روما، وكلمة الختام لرئيس حزب القوات الدكتور جعجع.
النائب السابق فارس سعيد تحدث عن دور المسيحيين في النهضة العربية مستشهدا بالوثائق المجمعية والكنسية وشرعة العمل السياسي التي اقرتها الكنيسة المارونية، في حين تحدث الدكتور اكرم سكريه عن تجربة “الاخوان المسلمين” في الحكم، ليعقبه الدكتور روك مهنا عن الدور الاقتصادي الذي يمكن للبنان ان يلعبه في النهضة العربية الجديدة، وغياث يزبك عن دور الاعلام، ثم القى إدي ابي اللمع ملخصا لكلمة المستشرق الايطالي اندريا الذي تعذر حضوره بسبب محاصرته في “حلب”، ثم الاب باولو.
كلمة الختام للدكتور جعجع حيث اوجز فيها نظرة “القوات” اللبنانية” لـ”الربيع العربي”، فقال كلام جديدا خرج عن ادبيات الموارنة التي خبروها وسمعوها منذ بداية العام 1975.
جعجع، وفي كلمته اعاد تأكيد موقف حزبه من ما يسمى “سيطرة الاصوليين او السلفيين او سواهم..” على مقاليد الحكم في دول الربيع العربي، مشيرا الى عدم إمكان رفض ما “نادينا به”، لجهة إحترام نتائج صناديق الاقتراع، من جهة، وعدم الحكم على “نوايا” الاشخاص والمسؤولين، بل إنتظار اقوالهم وافعالهم لنبني على الشيء مقتضاه، ناقضا أدبيات حزبية إلغائية وإطلاقية بلغت حد العنصرية المارونية، لجهة تفوق الموارنة على مواطنيهم من اللبنانيين.
كما تحدث جعجع عن ربط النزاع بين القضية الفلسطينية من جهة والربيع العربي من جهة ثانية، فكان كلام جديد اوضح فيه ان القضية الفلسطينية لطالما استعملتها الانظمة الشمولية البائدة والتي في طريقها الى الزوال “شماعة” تعلق عليها ازماتها على اختلافها، مضيفا ان إسرائيل سوف تواجه مأزقا جديا ووجوديا فعليا بعد ان تهدأ الثورات العربية وتجد طريق استقرارها، حيث ستواجه إسرائيل الشعوب والرأي العام العربي وليس اشخاصا على استعداد دائم للتنازل من اجل الحفاظ على مكتسبات شخصية.
في ما يلي الكلمات التي القيت في الندوة
دور لبنان في النهضة العربية الجديدة
كلمة الافتتاح للمحامي ندي غصن
أيها السادة..
موضوعُنا اليومَ هو “دورُ لبنانَ في نهضةِ العالمِ العربي الجديد” .
أزعُمُ أنْ لا مجالَ لمُقاربةِ هذه المسألة إلاَّ في ضوءِ ملامسة “دور لبنان في النهضة العربية” في بدايةِ انحلالِ السلطنة العثمانية. هذا الدور الذي تجلّى في إبداعاتِ المفكرينَ والأدباءَ والفنانينَ والموسيقيينَ والمسرحيينَ اللبنانيين، وسواهم من مُبدعين، شكَّلوا جِسراً عبرتْ فوقَه الحضارةُ الانسانية من الغرب الى الشرق وبالعكس.
اسمحوا لي أن أقول: إنَّ نهضة بيروت كعاصمة ثقافية بنكهةٍ عربيةٍ أوروبية ما كانت لتكون لولا نمو “الفكرة اللبنانية” و “فكرة العروبة العِلمانية الديمقراطية”، وما قدمته هاتان المدرستان الفكريتان منذ نهاية القرنِ التاسع عشر، من صيَغٍ واقتراحاتٍ لأنظمةِ حكمٍ جديد تراعي مكوِّنات الكيانات والهويات المختلفة… ولعلَّ أبرز تلكَ الصيغ: القومية بما هي بديلٌ عن الأوتوقراطية أو التوتاليتارية. وقد كان للمفكرينَ اللبنانيينَ الباعُ الطويل في إرساءِ ركائزِ تلك القومية (سواءٌ منها: اللبنانية أو العربية).
هذا فضلاً عن أنَّ لبنانَ كان من أوائلِ مَنْ أرسى مفهومَ “الدولة” بما هي مؤسساتٌ عصرية شكلت نواتُها نموذجاً يُحتذى به.
إذا كان مفهومُ الدولةِ قد أُصيبَ، خلالَ القرن العشرين، بأعطابٍ وتشوُّهات، فإنَّ التحوُّلاتِ الكبرى، والتغيُّراتِ الجذرية التي تجتاحُ المنطقة العربية تُشكلُ فرصةً حقيقيةً لإرساءِ الدولِ العتيدة على أسسٍ صلبة، قوامُها الديمقراطية وهاجسُها حقوقُ الانسان.
هذا التحدي مطروحٌ على الفرد والجماعة والكيانات . إنه تحدٍّ يومي، لا بل لعلَّه صراعُ إراداتٍ بينَ أصحابِ التطلعاتِ التقدمية المعاصرة وبين أهلِ الظلمة. فهل ينجحُ الأوَّلون؟ .
نقول: تختلف الآراء حولَ مستقبل المنطقة، وهذا الاختلاف طبيعي، ذلكَ أنَّ ما نَشهدُه، وما نَشهدُ عليه، هو من طبيعةٍ جديدة؛ إذْ إنَّه لم يسبِقْ لجيلِنا على الأقلّ، أنْ شَـهَـدَ لانتخاباتٍ حرةٍ في ليبيا ومصر، ولا لِثورةٍ شعبيةٍ بوجهِ نِظامٍ حديديٍّ كالنظام السوري.
هذا الاختلاف يُبيِّنُ أنَّ تأكيدَ البعض بأنَّ المستقبلَ سوفَ يكونُ زاهراً ربما يكونُ تأكيداً مُفرِطاً في التفاؤل.. وبالمُقابل، فإنَّ تأكيدَ البعضِ الآخر أنَّ التغييرَ المنتظَر إلغائيٌ ومصدرُ عنف، ربما يكونُ هو أيضاً تأكيداً مُفرِطاً في التشاؤم.
فهل هناكَ حقاً نهضة عربية جديدة يُمكن للبنانَ أن يُساهِمَ فيها؟ وكيف؟
أم إنَّ هناكَ نهضةً ما يستطيعُ لبنانُ صناعتَها؟ وكيف؟
ويبقى السؤالُ المركزيُّ الشامل: ما هو دورُ لبنانَ في هذا العالم العربي الجديد؟
عسى أن نُلاقي بعضاً من جواب في ما سوفَ نسمعُه ونناقشُه في هذا اللقاء الثمين.
فأهلاً وسهلاً بالجميع
كلمة : د.أكرم سكرية
“الإخوان المسلمون” في الحكم والنموذج اللبناني.
ما من مجتمع احادي الثقافة في هذا “الزمن العالمي”. انه التنوع الثقافي في إطار وحدة الإنتماء للثقافة العالمية (تقرير منظمة الأونيسكو الدولية حول “العرق والتاريخ” عام 1964) والذي أعده Claude Levi- Strauss.
وفي العام 1989 أُسقط جدار برلين. انتصرت الديموقراطية على حكم الحزب الواحد. إنه عالم “نهاية التاريخ” على حد تعبير فوكوياما. أي أن الديموقراطية هي الخيار النهائي للحكم في العالم.
يؤكد بيار بورديو في كتابه “Sur l’ Etat” ، على أولوية الثقافة العالمية على الثقافات الوطنية التي أصبحت ثقافات محلية متفاعلة حكماً مع هذه الثقافة العالمية ومسهمةً فيها.
ويقول عالم الإجتماع الكندي ويل كيملكا عام 2011، ان كلاً منا “مواطن متعدد الثقافات”.
وتقول هيلاري كلينتون، في إجتماع مؤتمر منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية OCDE في ايار 2012: “أن العولمة ليست خياراً أيديولوجياً بل مساراً لا رجعة عنه. انها مجموعة قيم مشتركة، أسواق مفتوحة وكفؤة، حقوق إنسان، حريات والتزامات، حكومات ومسؤولون يأخذون بعين الإعتبار، التنافس الحر العادل والشفّاف”.
وبعد أن أُقرت شرعة حقوق الإنسان المدنية والسياسية عام 1948 في الجمعية العامة لأمم المتحدة، يتم التداول اليوم عالمياً في إقرار وثيقة ثانية حول حقوق الإنسان الإجتماعية والإقتصادية.
“كانت المجتمعات العربية والإسلامية استثناءً على الحرية” في كتابات الكثير من الباحثين العرب والمستعربين، حتى جاءت الثورات العربية عام 2011 والتي يقول فيها Emanuel todd عام 2011: ” اسقطت الثورة العربية مقولة التفرد الثقافي والديني والتي كان يُزعم انها تجعل الإسلام غير متوافق مع الديموقراطية وانها تحتّم خضوع المسلمين لحكم طغاة متنورين في أحسن الاحوال”. ويضيف “التشنجات الإسلامية تمثل عناصر مرافقة تقليدية للتشوش الذي يميز أي إنتفاضة، وأن نقطة المآل الأخير للعالم الإسلامي هي بالأحرى نقطة مشتركة مع بقية العالم”.
ويقول Denis Bauchard عام 2012: “بعد ستة قرون من السيطرة العثمانية والإستعمارية، وبعد جيلين من الإستقلال، يشهد العالم العربي تحولاً ديموقراطياً تاريخياً لا رجعة عنه”. وهذا في كتاب:
Le nouveau monde arabe.Denis Bauchard. Bruxelles. 2012
ليس “الإخوان المسلمون” من قام بهذه الثورات. بل هو جيل ما بعد سقوط جدار برلين.
لكن “الإخوان المسلمون”، ولأسباب خاصة بكل من المجتمعين التونسي والمصري ربحوا الإنتخابات التشريعية. فما سيكون عليه حكم الإخوان؟ هل سيتخلى الإخوان في الحكم عن الديموقراطية؟ أم أن التجربة الديموقراطية نفسها ستكون حافزاً لهؤلاء لتطوير أشكال العمل السياسي وتطور المجتمع المدني؟
إن المعركة من أجل الديموقراطية لم تنجز بعد.
إن الإنتخابات الديموقراطية هي الخطوة الأولى والشرط الضروري على طريق الألف ميل في معركة الديموقراطية.
تقول السيدة مادلين أولبرايت: “الميزة الأساسية للديموقراطية هي قدرتها على تصحيح أخطائها”. وهذا في كتاب صادر عام 2008 بعنوان: مذكرة إلى الرئيس المنتخب.
لقد أقرّ “الإخوان المسلمون” في كل من تونس ومصر وسوريا بفصل الدين عن الدولة وبناء دولة مدنية فأسقطت بذلك مقولة “الإسلام دين ودولة”. كذلك فانهم تبنّوا ما ورد في وثائق الأزهر الشريف الثلاث والتي تؤكد، على:
أولاً: “لا دولة دينية في الإسلام بل دولة مدنية تأخذ بالمقاصد الكلية للشريعة”.
ثانياً: “حرية الرأي والتعبير”.
ثالثاً: “حرية المعتقد والإبداع”.
وبالتالي فإن مصطلح “الإسلام السياسي”، بما يوحي من مشروع بناء جمهورية إسلامية كما في إيران مثلاً وكما تقره الوثائق السياسية “لحزب الله” في لبنان و”لحزب النور” في مصر لا ينطبق على مشروع بناء دولة مدنية، فليس كل مسلم هو بالضرورة إسلامياً.
وبما أن مصطلح “الدولة المدنية” يُسقط حكماً مصطلح “الإسلام السياسي” فإنه يُسقط أيضاً المصطلح المتلازم مع مصطلح “الإسلام السياسي” وهو مصطلح “الأقليات”.
فإنه لا يمكننا أن نصف بالمسيحية السياسية، الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني الذي تنتمي إليه رئيسة وزراء ألمانيا السيدة Angela Merguel كما قال الصحافي Robert fesk في مقابلة على احدى أقنية التلفزة اللبنانية.
عملياً لقد أسقطت الثورات العربية شعار “الإسلام هو الحل”. ووضعت الإسلام في تحدي الإجابة عن أسئلة القرن الحادي والعشرين، فهل هي الطريق إلى علمنة الإسلام كما كانت عليه الحال مع المسيحية في القرن الماضي؟
في العروبة الحضارية:
والأهم أن الثورات العربية أسقطت أنظمة الإستبداد السياسي العربي وأسقطت معها الفكر السياسي للقوميين العرب الذي إرتكز إلى مفهومي العرق العربي والدين الإسلامي والذي مورس إستبداداً سياسياً. فأكدت واقع الهوية الوطنية لكل من المجتمعات العربية في كل دولة من الدول العربية وأننا نعيش في العالم العربي وليس في “الوطن العربي”.
إنها ثورات ديموقراطية إجتماعية يشارك في إنتاجها مكونات المجتمعات العربية كافة من قومية (عرب ، أكراد، بربر، أشوريون وغيرها) ودينية (مسلمون، مسيحيون، صابئة وغيرها) لتؤكد إنتماءها إلى العروبة الحضارية التي يشكل الإسلام أحد أبرز تجلياتها والتي تظهرها هذه الثورات مجددة بذلك إنتماءها إلى الحضارة العالمية وقيمها في الحرية والتنوع ومسهمةً في إنتاج هذه الحضارة.
في معنى التغيير الديموقراطي عربياً
أولاً: انه تأكيد للتنوع العرقي والديني في إطار كل دولة من الدول العربية. وبالتالي فإنه إنتصار للعروبة الحضارية التي تشكل أحدى مكونات الثقافة العالمية إذ تشترك في إنتاجها مؤكدة إنتماءها إليها، تنوعاً في إطار الوحدة.
ثانياً: إنه إنتصار للدولة الوطنية وقرارها المستقل. فلا تقسيم ولا وحدات إندماجية قسرية.
ثالثاً: إنه إنتصار للإنفتاح على أشكال التكامل العربي كافة على قاعدة إحترام إستقلالية القرار الوطني لكل دولة من دول العالم العربي.وعلى قاعدة القيم الديموقراطية لأنظمتها السياسية.
رابعاً: إنه إنتصار للقضية الفلسطينية. إذ اسقطت الثورات العربية مقولة “ان إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. لذلك تعتبر إسرائيل خاسراً رئيسياً بفعل هذه الثورات.
خامساً: إنه إستناداً إلى التأكيد على بناء دولة مدنية، إنتصار للعلمانية الإيجابية Le secularisme بما هي فصل للدين عن الدولة، وتأكيد عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية. وهذا ما دعا اليه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في الوثيقة المقدمة إلى سينودس مسيحيي الشرق عام 2010.
في النموذج اللبناني:
” لبنان أكبر من وطن… انه رسالة”. قال قداسة الحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني عام 1997.
اذاً فان مسؤوليتنا كلبنانيين في بناء الوطن – الرسالة، ليست فقط مسؤولية وطنية. انها مسؤولية إنسانية.
ان لبنان المتنوع ثقافياً يشكل نموذجاً لمجتمعات العالم الحديث. مجتمعات القرن الواحد والعشرين.
ان مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون هو الشرط الضروري للمساواة الفعلية بين المواطنين ولكن غير الكافي في مختلف المجتمعات مع تفاوت مستويات المؤشرات السوسيو – ثقافية لها.
فهل نحن بحاجة إلى “إتفاق طائف” نموذجاً، في المجتمعات التي تتشابه، إلى هذا الحد أو ذاك، مع المجتمع اللبناني؟. وما هي خلاصات هذا الإتفاق؟
لقد أقرّ إتفاق الطائف:
أولاً: بوجود جماعات لبنانية بالفصل بين حقوق الجماعات وحقوق المواطنين الأفراد. فكان قرار بإنشاء مجلس للشيوخ تعبيراً عن هذا الإعتراف.
ثانياً: توزيع الرئاسات (رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي، مجلس الوزراء، ومجلس الشيوخ) بعد تحديد صلاحيات كل منها والمقاعد في المجلس التشريعي ومناصب الفئة الأولى في الوزارات والمؤسسات العامة. بما يحفظ رمزياً للجماعات المكونة للمجتمع اللبناني المشاركة في المواقع الأولى للدولة اللبنانية.
ثالثاً: ممارسة السلطة التنفيذية هي من صلاحية هيئة مجلس الوزراء مجتمعاً وليس من صلاحية رئاسة مجلس الوزراء فقط. بما يسمح لممثلين عن الجماعات اللبنانية المشاركة في ممارسة السلطة التنفيذية.
لقد أوقف إتفاق الطائف العد. أي أنه أعطى الأولوية لحفظ التنوع في لبنان على حساب العامل، الكمي أي العدد. فأسقط بذلك مقولة الأقلية والأكثرية واضعاً البنى التقليدية، أي الطائفة في لبنان، ليس في مواجهة مع الدولة بل في إطار بناء مشروع الدولة. يجدر التنويه هنا بمقولة المناصفة كنقطة أساس ومحورية في فهم وثيقة الوفاق الوطني اللبناني. والتي أطلق عليها الشهيد المؤسس لثورة الأرز، الرئيس رفيق الحريري: “واسطة العقد للميثاق الوطني”.
ان حفظ التنوع في لبنان ليس مسؤولية وطنية لبنانية فقط، بل مسؤولية إنسانية أيضاً. وبالتأكيد فان التجربة اللبنانية تشكل نموذجاً للمجتمعات العربية وغير العربية التي تتظهّر فيها مشكلات اتنية (عرقية ودينية).
لقد شكّلت قوى 14 آذار، تنظيماتٍ سياسية وشخصياتٍ وطنية وقوى مجتمع مدني، بإستمراريتها وفعالية أمانتها العامة، إطاراً تنظيمياً تحالفياً عابراً للطوائف والكيانات المجتمعية اللبنانية الأخرى.
ان نجاح هذه التجربة ورفع مستوى التحالف بين مكوناتها من قوى 14 آذار إلى حركة 14 آذار، هو الشرط الضروري لإنتصار مشروع الدولة الديموقراطية في لبنان. وصولاً إلى تشكل حياة سياسية صراعية بين كتلتين سياسيتين (الكتلة الدستورية / الكتلة الوطنية مثالاً).
فالتنظيمات السياسية، لقوى 14 آذار، التي يغلب على كل منها لون طائفي معين (تيار المستقبل، القوات اللبنانية مثلاً) توظّف البنى التقليدية الطائفية من أجل مشروع وطني ديموقراطي.
إنه النموذج الذي يقدمه لبنان للثورات العربية، وتحديداً “للإخوان المسلمون” في الحكم. الإعتراف بالجماعات المكوّنة للمجتمعات العربية وتوظيف هذه المكونات التقليدية من أجل بناء مشروع الدولة المدنية الوطنية الديموقراطية.
يقول بطرس الأكبر: “لا تخشى التغيير، واسع لكي يكون الغد أفضل من اليوم”.
* * *
غياث يزبك
“دور لبنان في نهضة الإعلام في العالم العربي الجديد”
الحضور الكريم،
لقد شرّفني منظمو هذه الندوة بدعوتهم لأحاضر أمام مَجمعكم الراقي، ولا اخفيكم أن قلًقا، كالذي ينتاب التلميذ عشية الامتحانات انتابني. أولا لتهيّبي واحترامي إنصاتكم إلي واختباري. وثانياً، للموضوع الصعب والشائك، ودعوني أقول الحميم، الذي طلب إلي معالجته، ذاك أنه ليس سهلاً علي أن أقف ناقداً أداء الاعلام اللبناني وما إذا كان بنو جنسي لعبوا جيداً أدوار الرجال في تلقيح براعم الثورات التي أنتجت الربيع العربي.
الحضور الكريم،
سأقسم مطالعتي إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأول :
لمحة تاريخية عن دور الاعلام :
لا أريد أن أخوض وإياكم في التفاصيل التاريخية، وانتم تلمون بها جيداً، لكن استعراضها واجب للإضاءة على الندوب و الجروح العميقة التي تركتها الاعتداءات السافرة إن من قبل سلطات الداخل أو بفعل اجتياحات الإقليم لمهنة الاعلام ولأهله من جهة، أو لتخلي أهل الصحافة عن مبادئهم باستسلامهم للترغيب والترهيب من جهة ثانية. هذا الواقع أثر في قدرة الصحافة اللبنانية على لعب دورها التغييري في لبنان وفي العالم العربي.
والحقيقة ان ظواهر التراخي والتحلل لم تبدأ أمس، بل هي بدأت بُعيد قيام لبنان الكبير وسلكت منحى مَرضيا إنطلاقا من الاستقلال عام 1943. علما أن لصحافة ذلك الزمان أيادٍ بيضاء في تحقيق الانجازين التاريخيين، وفي نقل عدوى التحرر إلى دول المحيط. إلا أن جنوح كل هذه الدول، بعيد نيلها استقلالاتها، ما عدا لبنان طبعا، إلى إرساء ديكتوتارياتٍ ومَلكياتٍ حديدية أوقعت العالمَ العربي تحت احتلالات من نوع آخر يصعُب التحرّر منها تحت عناوينَ دينية أو إتنية أو عرقية. من هنا وجب التصدي للتحديات الناشئة من خلال المناداة بمبادىء الديموقراطية وحقوق الانسان وقدسية تداول السلطة، والأهم احترام التنوع والإنصات إلى وجع الناس :الذي يختصر باللاتينية بأربع كلمات :
“صوت الشعب هو صوت الله” Vox Populi Vox Dei
انطلاقاً من الواقع المستجد وجد الاعلام اللبناني نفسه أمام ثلاثة تحديات رئيسية : تحصين المكتسبات التي منحه إياها الدستور اللبناني، تطوير نفسه لإيجاد المضادات الحيوية المحاربة لفيروسات التخلف والظلامية التي سيطرت على دول المحيط، وإستنباط المفردات الملائمة والأفكار الخلاقة لبثها في العالم العربي تسهيلا لتصدير ألِفباء الديموقراطية إليه. إلا أن سوء أداء الدولة اللبنانية وتفريط السلطات المتعاقبة على الحكم في لبنان بقدسية حرية الاعلام، سرعان ما أفقدا الاعلام ريادته الوطنية و القومية وضخت في جسده جملة أمراض عضوية، تبدأ بالغرق في حبائل المذهبية والطائفية والتبعية لرؤوس الأموال، والاستتباع للسلطة، ولا تنتهي بالانصياع لدول المحيط سياسياً وعقائدياً ومادياً.
بحيث أكل التصحر الفكري، المصنوع منه في لبنان والمستورد من الجوار، أخضر الصحافة اللبنانية الناشئة. وها هي تنقسم على ذاتها عند كل المحطات التاريخية المفصلية التي خبرها لبنان، أكثر من ذلك، لقد شهد جسم الصحافة العليل هذا نمو فطريات صحافية ممَوّلة من الخارج تأخذ من أرض لبنان الممزقة مركزاً ونقاط انطلاق، تُجَوِد للخارج وتنفث في لبنان سموماً قاتلة أتت على ميثاقيته وعلى تعدديته وعلى دوره القائد وعلى رسالته في العالم العربي. أكثر من ذلك وأخطر، لقد اكتشفت الديكتاتوريات الناشئة حولنا وبحركة غريزية مخاطر وجود الحرية في لبنان، وتحديداً الاعلامية منها، فجرّدت عليها شتى أنواع حملات الترغيب والترهيب، فاشترت ذمم صحافيين أفراداً ومن ثم وضعت يدها على بعض المؤسسات ودجنت وامتلكت كليا أو جزئيا نقابتي الصحافة والمحرّرين. ولعل ذروة الفجور كانت في عام 1977 عندما فرضت القوات السورية، أو ما عرف دجلا بقوات الردع العربية، فرضت على الحكومة اللبنانية الوليدة بعد حرب السنتين القانون 1على 77 أو قانون الرقابة على الاعلام ، فصرنا كما في عصور الظلام نرى رقيباً شبه أمّي في الأمن العام يشطب مقاطع من افتتاحيات غسان تويني ورفيق خوري وكبار صحافيي تلك الحقبة.
ترافق ذلك مع اغتيال كوكبة من الصحافيين الأحرار وتهجير مؤسسات بأكملها إلى الخارج، والتضييق على أخرى مادياً بقطع العائدات الإعلانية عنها ما أدى إلى إقفالها. واكتسبت معركة السيطرة على الإعلام بعداً أخطر بعد اتفاق الطائف بكسر حصرية البث التلفزيوني و توزيع رخص البث على قواعد طائفية مقرونة بعهد الصمت عن ارتكابات الاحتلال وعدم مقاربة الواقع السوري ومن خلاله الواقع في العالم العربي. إضافة إلى فرض تشريعات وشروط “مسكوبية” على إنشاء محطات جديدة. ترافق كل هذا مع ترهيب الاعلاميين اللبنانيين وإقفال فرص العمل في وجوههم ما دفعهم إلى الهجرة وأفقد لبنان فرصة أن يكون مدينة العرب الاعلامية media city وأفقده فرصة التأثير المباشر والفاعل في مجرى الأحداث التي سيشهدها العالم العربي في ما بعد.
الباب الثاني :
إلامَ أدى هذا الواقع وهل حد من تأثير الاعلام اللبناني في استنهاض ما عرف بالربيع العربي؟
بالطبع لقد أثر قمع الحريات على قدرة الاعلام اللبناني، لكن حلول عصر البث الفضائي وأخذ التلفزيونات اللبنانية موقع السبق في هذا المضمار، أدّيا من حيث لا يدري الاحتلال ولا الديكتاتوريات، إلى نقل النموذج الاجتماعي اللبناني أولا ومن ثم نموذجه الثقافي إلى العالم العربي مترافقين مع كل زركشات الطيف اللبناني من ملبس ومأكل إضافة إلى نقل الواقع السياسي اللبناني، الملتبس من دون شك، ولكن الجديد بتفاصيله وتلاوينه ووسائل تعبيره، والتي تبطن كلها تنوعاً في الرأي : انتخابات نيابية وبلدية ورئاسية وسجالات سياسية وتظاهرات وتظاهرات مضادة ومطالبات بإطلاق السجناء السياسيين وإعادة المبعدين والمنفيين إلخ من الحراك المحجوب والممنوع في العالم العربي. كل هذا جذب المُشاهد العربي وأغراه بحيث بدأ يسأل نفسه : “لماذا أنا محروم من كل هذا” ؟. وهنا أورد مثل الانتخابات الفرعية في المتن الشمالي عام 2001 ، وما رافقها من اعتداء سافر للسلطة على نتائجها وكيف سرق التسلط المقعد النيابي من النائب كبريال المر.
صدقوني إن هذه الانتخابات التي كانت تنقل مباشرة عبر الأقمار الصناعية، استمطرت آلاف الإتصالات المتضامنة والمؤيدة للمر بما يمثله من قضية حق، من مصر والسودان ودول الخليج كلها. الأمر الذي أشر إلى أن إسقاطات هذا الحدث والعشرات غيره لا بد ستزهر تسوناميات وعواصف حرية ستجتاح العالم العربي.
إلا أن التأثير الآخر والمباشر الذي أحدثه النموذج الاعلامي اللبناني في العالم العربي، أخذ مداه الأقصى بنداء المطارنة عام 2000 و بإغلاق تلفزيون الـmtv بعد تنفيذه الانقلاب المضاد والمتلفز في السابع من آب، ومن ثم بموجة الاغتيالات التي طاولت قادة الرأي والسياسيين وفي مقدمهم جبران تويني وسمير قصير وقبلهما الرئيس رفيق الحريري، وبالتظاهرات المليونية المطالبة بالاستقلال و الحرية التي اجتاحت لبنان وبالاستديو المزركش بالوان الحرية الذي بنته الحشود بأجسادها في ساحة الحرية.
إلا ان الدور الإيجابي الذي لعبه بعض الاعلام اللبناني لم يكن كافياً وظل خجولا لو لم يعطه اللبنانيون الأحرار الحماية والحجة لتغطيتهم عندما نزلوا إلى الساحات بالالاف مرغمينه على أن يكون صورتهم وصوتهم، والاشارة هنا واجبة إلى أن التلفزيونات والصحافة اللبنانية لم تكن كلها تتحرك من منطلق الراعي المتبني لفيروس الحرية بل هي غطت ما يجري بدافع النقد والنقض وكي لا تخرج من سباق استقطاب المشاهدين. ولا بد لي هنا من التذكير بأن المنادين بالحرية من الصحافيين لم يكن عددهم يتجاوز أصابع اليد الواحدة أما المؤسسات الحرة فاقتصرت على صحيفتين وتلفزيون. ولكن في مختلف الأحوال لقد زوّد النقل الفضائي لمشهد الحرية اللبناني، عيدان ثقاب وجرعات من الأدرينالين إلى كل المظلومين والمقهورين على امتداد العالم العربي، كان الشهيد التونسي “أبو عزيزة” أول من تجرأ على استعمالها فأحرق نفسه كفّارة عن كل المقهورين فسرت نار الحرية التي انطلقت من جسده النحيل في هشيم الظلم مضيئة سماء العالم العربي ومحطمة أقفال السجن الكبير.
الباب الثالث :
العبرة والرسالة :
الحضور الكريم،
لتكتمل الصورة العلمية لهذا البحث وبأبعادها الثلاثية، لا بدَّ من الإشارة إلى أن اختراقات الاعلام اللبناني ومن بعده الاعلام العربي ظلت محدودة وقد تحققت بأثمان عالية جداً، باستشهاد صحافيين وإقفال مؤسسات، إلى أن ارتكبت الأنظمة الديكتاتورية الخطأ الجسيم بترك نفسها، ولأسباب تجارية، تستسلم لمغريات الخوض في عالم الاتصالات، فشرّعت أسواقها أمام الانترنت التي تحوّلت إلى صحافة الكترونية متفلتة من كل قيد، و أمام الهواتف النقالة التي تحوّلت في ما بعد إلى هواتف ذكية حوّلت شعوبها من متلقية للأخبار، التي كانت تحتكرها السلطة، إلى صانعة أخبار بالصوت والصورة، فصار في كل بيت عربي صحافي ومندوب وناقد ومحرض على الحرية. والتحدي الذي يواجه الإعلام اللبناني اليوم يتمثل في كيفية تبرير وجوده وقد فقد حصرية نقل الصورة والخبر والرأي والتحليل. فهو ما عاد قائد رأي، وهو ممّا تقدم لم يكن دائماً كذلك. والتحدي يكمن في إحداث تغيير جوهري في عقيدة الاعلام وفي طرائق استعماله وفي وجهة هذا الاستعمال. ولعل الخطوة الصحيحة الأولى المفترض القيام بها على طريق الألف ميل، تتمثل في أن ينتفض الصحافي على نفسه، اليوم قبل الغد، فيقتنع بضرورة أن يكون حراً ومهنياً و مثقفاً، لأن المطلوب من الآن فصاعداً إعلام الناس، ليس بـ “ماذا حدث ومتى حدث” بل “كيف حدث ولماذا” و”ماذا بعد الحدث”.. فهل سنكون على قدر الحدث وفي مستوى التحدي.. بل التحديات؟. أملي ورغم الصعوبات أن يرتقي الإعلام اللبناني إلى مستوى هذا الإختبار التاريخي، وإلآ فالمستقبل خطير.
* * *
كلمة أندريا غالدي قرأها إدي أبي اللمع:
كيف تؤثّر التحولات الديمقراطية على “حماية” المسيحيين في الشرق الأوسط؟
بقلم: أندريا غليوتي (غالدي) (مستشرق)
هناك مقولة عامة لدى المسيحيين في الشرق الاوسط، عندما تخبو أنوار ما يسمّى بالدكتاتورية المدنية، تطرح السؤال التالي: “ما سيكون مصيرنا؟”
في العراق إستفاد بضع شخصيات مسيحية قليلة اقتصادياً من النظام البعثي، اذ لم يكن هناك الألوف من طارق عزيز. لكن ليس من شك ان الاقليات كانت مستهدفة بدرجة اقل بهجمات عنفيّة تحت حكم صدّام. فهل هذا يعني ان الدكتاتور العراقي كان يخصّ المسيحيين بعطف خاص؟ ربما علينا ان ان نطرح هذا السؤال على المسيحيين الأشوريين الذين طُردوا من كركوك “العربية” مع التركمان والاكراد، أو نطرحه على الذين قُتلوا وهُجّروا أثناء حملة الأنفال.
وفي مصر، شهدَ سقوط مبارك ارتفاعاً في العنف الطائفي الموجّه ضد المسيحيين، في حين ان الرئيس المخلوع كان معروفاً بصِلاته الجيّدة مع بابا الأقباط الراحل شنوده الثالث.
على أي حال، لقد عرِفَ مبارك كيف يلعب بمهارة على مخاوف المسيحيين وكيف يُهندس العنف ليُظهر للأقلية ما قد يحصل لها من دون وجوده في السلطة. ولقد فُتح في الواقع ملف وزير داخليته حبيب العادلي للإشتباه في تورطه في انفجار الكنيسة الذي وقع في الاسكندرية في كانون الثاني 2011.
أما في سوريا فقد كان المسيحيون والمسلمون يعيشون بسلام معاً لزمن طويل ومنذ ما قبل سلطة البعث، لكن البعض يوافق، ويا للعجب، مع حملة الحكومة الدعائية القائلة بأن الأقليات هي بحاجة لهذا النظام ان يبقى لكي يحميها. الا انه في الحقبة الديمقراطية نسبياً خلال الاربعينات والخمسينات كان المسيحي فارس الخوري أحد أكثر رؤساء الحكومة السوريين شعبية ونفوذاً لدى المسلمين.
تبدو الاكثرية “الصامتة” من المسيحيين متجهة الى اختيار ما تعتبره أقل الشرّين: نظام عربي شامل من المفترض ان يكون مدنياً بدلاً من حكومة اسلامية منتخبة من خلال انتخابات نزيهة. ليس من شك ان حزباً يُسمّي نفسه اسلامياً لديه رؤية مذهبية ضيّقة في السياسة، الا ان المشاركة في عملية انتخابية ديموقراطية هي عادةً مقدّمة عملية ومباشرة لإعادة التفاوض حول الافكار العقائدية، ومثلُ حزب الله في لبنان واضح في كيفية تحوّل الحزب من منتج للثورة الايرانية الى لاعب منخرط الى حدّ بعيد في المحيط السياسي اللبناني، بدءاً من انتخابات 1992. فخلفية حزب الله الاسلامية المذهبية في العمق، لم تمنعه من الدخول في حلف مصالح مع التيار الوطني الحر المسيحي.
مثلٌ آخر هو حركة الاخوان المسلمين المصرية التي تخلّت عن راديكاليتها تحت قيادة حسين الهُديبي (1949- 1973) مما سهّل لها التحكم بوصولها الى الحياة السياسية اواخر الثمانينات. محمد مرسي هو نتاج لهذا التطور التاريخي والذي بلغ حدّ تعيينه مؤخراً مستشاراً رئاسياً من الاقباط.
لم تكن الأنظمة القومية العربية العُرقية في العراق ومصر أقل تسلطاً من الأنظمة الاسلامية في السعودية وايران (والحالة ذاتها تنطبق على سوريا الآن)، ولذلك فهناك تناقض واضح في دعم المسيحيين لتلك الانظمة.
إن الهدف النهائي يكمن في الوصول الى دولة لا يحددها دين او عُرق، وهذا يعني رفض كل انواع المذهبية السياسية، سواء عُبّر عنها بوضوح – كما في الحالة اللبنانية- او بطريقة غير مباشرة – كما في الخطاب القومي العربي المتعلق بحماية الأقليات.
ولهذا أفضّل أن استخدم تعبيراً “المفترض ان يكون مدنياً”، فلا يمكن اعتبار النظام المستند على حماية المسيحيين علمانياً او مدنياً، كما يحلو لبعض مفكري الشرق الاوسط أن يصفوا طموحاتهم كي يتجنبوا أن يُقال عنهم انهم من غلاة اليعاقبة وضد الإكليروس.
لماذا يحتاج المسيحيون الى أحدٍ ما، كطاغية أو حزب، كي يحميهم؟ هل يخافون فرض الشريعة كما نقرأ في معظم صحافة الغرب؟ من الجدير ذكره ان القوانين المصرية والعراقية والسورية كانت دائمة التجذّر في مبادئ الشريعة فيظل الحكّام القوميين وما خصَّ أخذ الاحتياطات، لقد كان المسيحيون ضحايا العنف الاسلامي طوال تاريخهم في الشرق الأوسط، تماماً كما كان الأوروبيون الصليبيون ومن ثم المستعمرون يهاجمون المسلمين. هناك تعميم شائع عندما تُذكر حقبات العنف المذهبي ضد المسيحيين وكأنهم كانوا كلهم مستهدفين حصرياً باللاتسامح او التعصب الديني. على العكس، لا يستطيع المرء ان يفهم تفجيرات القاعدة ضد الكنائس العراقية من دون الأخذ بعين الاعتبار الحَنَق المتولّد عند المسلمين بسبب الغزو الاستعماري الجديد في العراق الذي تقوده الولايات المتحدة.
منذ حوالي السنتين في دير مار انطونيوس قزحيا في وادي قاديشا، استمعتُ الى عظة مذهبية حادة ألقاها احد الكهنة – وهو يُصرّ على المقاومة المسيحية المحلية ضد محاولة إزالة المسيحيين من الوجود على يد الأكثرية المسلمة، لقد تمّ بسهولة نسيان أن أسوأ الانفجارات في الصراع المسيحي- الاسلامي في التاريخ اللبناني المعاصر كانت الحرب الاهلية التي نجمت عن أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية اكثر منها عن اسباب الكراهية الدينية.
وطالما ان المسيحيين يتصورون أنفسهم كياناً بحاجة الى الحماية لا مكوناً مساهماً في دَمَقرطة مجتمعات الشرق الاوسط، فهم سيُشبهون عضواً مزروعاً في النسيج الاجتماعي، ولسوف ينكثون بتراثهم التاريخي المتمثل بمدّ الجسور التواصلية والحضارية والثقافية والتقنية بين اوروبا والعالم العربي، ولسوف يشجعون العودة التعيسة الى استغلال الانشقاقات المذهبية من قبل القوى الغربية، وهذا يعني، في سوريا مثلاً، تقسيم الدولة الى دويلات مسيحية وعلوية ودرزية، تماماً كما كان الامر ابان الانتداب الفرنسي (1943-1923).
سالتني في شباط الماضي في اسطنبول احدى الشخصيات السورية المعارضة، عمّار القُربي: “لماذا لا يشارك الخائفون في المظاهرات ليُعبّروا عن هواجسهم؟” المسيحيون الخائفون والمدافعون عن الوضع القائم لن يُسمع صوتهم في المرحلة الانتقالية ما بعد الثورة. وحسب المفكرين المنشقين ميشال كيلو وميشال شماس، فإن ما ساعد على تقبُّل الاكثرية المسلمة للمسيحيين هو وقوفهم في وجه وحشية الصليبيين ومن بعدهم الاستعماريين.
ان المسؤولية في صمت المسيحيين وسط ما يُسمّى بالربيع العربي تقع بدرجة كبيرة على المؤسسات الدينية وميلها العميق الى الأنظمة التسلطية. رغم ذلك، كان ان طُردت من سوريا إحدى الشخصيات الدينية القليلة التي عبّرت بوضوح عن انتقادها لممارسات النظام السوري، واعني الأب باولو دالوغليو. خلاف ذلك، فان معظم رجال الاكليروس السوري، كما البطريركين الماروني والكاثوليكي، اظهروا دعماً واضحاً للفظاعات المرتكبة من الدولة خلال الثورة. ومن المفيد تذكّر مصير الاكليروس الفرنسي والروسي الرجعي بعد حصول الثورتين الشعبيتين. فعندها انفجر العنف في وجه الاكليروس وسحق بكل اسف الكنيسة.
يقول ميشال كيلو في مقالته في السفير بتاريخ 16 حزيران ان الكنيسة التي تقف الى جانب السلطات الزمنية، مغذية الحقد، تشوّه كاملاً الرسالة المسيحية الاصلية التي تتضمن المسامحة والاستيعاب. ولا يمكن اعتبار الكنائس الشرقية بريئة حين تصمت في وجه المذابح كي تحمي مصالحها، تماماً كما ان البابا بيوس الثاني عشر لم يُصفَح عنه كونه لم ينطق بكلمة واحدة ضد الهولوكوست.
* * *
كلمة د. فارس سعيد:
مساهمة المسيحيين في شرقٍ عربي جديد
تهدف هذه الندوة كما فهمت من منظّميها إلى إطلاق دينامية حوارية حول دور المسيحيين في مشرقٍ عربي جديد، لأن مقاصات التاريخ لا ترحم الجماعات المتردّدة والخائفة او التي تعلن انسحابها من الأحداث.
أقدّر الجُهد الذي بُذل من أجل إنجاح هذه التجربة.
1- حَضَر مصطلح “الدولة المدنية” في خطابات الربيع العربي حضورَ المسَلَّمات القويّة والقناعات الراسخة. فلقد أجمعَت عليه كل القوى المشاركة في عملية التغيير، من إسلاميين وليبراليين وقوميين… وصولاً الى التشكيلات القَبَليّة، على نحو ما رأينا في ليبيا واليمن وسوريا. كذلك انضمّ الى هؤلاء في رفع الشعار ذاته عناصرُ قوميّة غير عربية، مثل الأكراد والتركمان والبربر، فضلاً – بطبيعة الحال – عن المسيحيين العرب الذين انخرطوا في الثورات، هنا وهناك، بوصفهم أفراداً لا جماعات.
مِث٘لُ هذا الإجماع على مطلب “الدولة المدنية” يوحي وكأن المصطلح مفكّرٌ فيه ملياً، ومكرّسٌ في برامج المعارضة منذ عهد بعيد، ومث٘بَتٌ في مُتون القانون الدستوري. والحال أنه مصطلحٌ غير وارد في مجال تصنيف الدول وأدبيات القانون الدستوري، على ما يؤكد الحقوقيون، كما أنه – بصيغته هذه – غاب طوال الفترة السابقة عن برامج المعارضات التقليدية على اختلاف مشاربها الفكرية واتجاهاتها السياسية.
2- هذه الملاحظة الأولية لا تعني مطلقاً أن “الدولة المدنية” شعارٌ فارغ وبلا معالم واضحة في ذهن رافعيه. فإذا تأمّلنا في تعامل جمهور الثورات العربية مع هذا المطلب/ الشعار، يصحّ القول أنه جاء تعبيراً عن رفضين: رفض “الدولة الأمنية” (وهو مصطلح غير دقيق علميّاً، ولكنه يعني تحديداً النظام البوليسي وحُكم الأجهزة الأمنية والإستخباراتية)، ورفض النظام الشمولي التوتاليتاري.
أما “الدولة الأمنية” أو النظام البوليسي فلا حاجةَ بنا الى وصف آثاره وتجلّياته الظاهرة للعيان على جلود أبناء المنطقة التي حوَّلها هذا النظام الى “سجن عربي كبير” – على قول كمال جنبلاط – أو الى “حاويةٍ للمُسوخ البشرية” – بحسب وصف الروائي الكبير عبد الرحمن مُنيف في روايته “شرق المتوسط”.
وأما النظام الشمولي فهو ما اختبره الناس في مدى ستة عقود من عمر الدول العربية المستقلة، حيث جرى – باسم الثورية والتقدمية والمصلحة القومية العليا والانصهار الوطني وما شابَهَ ذلك من كلام “كبير” – جرى كَب٘تُ أنفاس التنوّع في هذه المجتمعات، لا سيما التنوع الديني والعرقي، مثلما تمَّ اعتبار الليبرالية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية “انحرافاً” عن جادة الصواب والسلوك المستقيم.
معلومٌ أن الحالة البوليسية والشمولية في المنطقة العربية قد نشأت وترعرعت على رافعةِ انقلابات عسكرية ما لبثت أن أنتجت “حمهورياتٍ وراثية” بحكّامٍ “أبديين”. ومعلومٌ ربما أن صِفتَي البوليسية والشمولية متلازمتان متكافلتان في مثل هذه النماذج، خصوصاً مع سيادة الحزب الواحد والزعيم الأوحد (سوريا الأسد، عراق صدّام، وليبيا القذافي…)
وإنّه لَمِنَ اللافت حقاً أن نرى الثوار الليبيين – مثلاً – يسارعون إلى رفع العلم الوطني العائد الى الحقبة الملكية، وأن نسمع بعض أركان الثورة السورية يستذكرون باحترامٍ شديد حقبة الاستقلال الوطني – وقد تزامنت مع استقلال لبنان – لِمَا اتَّسمت به تلك الحقبة من شراكة وطنية تلقائية لم تميّز بين أديان الوطنيين ومذاهبهم. هذا بالإضافة إلى ما سمعناه في السنوات الأخيرة من مثقّفين عراقيين ومصريين يقارنون بين اتّساع مساحات الليبرالية – لا سيما الثقافية والاجتماعية منها – في عهد ما قبل الانقلابات وبين ضمور هذه المساحات تدريجياً حتى الإضمحلال في العهود اللاحقة. وهذا الأمر لا يعبّر في تقديرنا عن حنينٍ الى الماضي بمقدار ما يعبّر عن إدانة قوية لجمهورياتٍ وتقدّمياتٍ وثوريّات زائفة لم تتّسع إلا للاستبداد الصريح أو المقنّع.
ولمّا كانت العقود الثلاثة الأخيرة، في ظلّ أنظمة الاستبداد الشمولي البوليسي ومع تفاقُم التحدّي الاسرائيلي، قد استثارت صراخاً إسلامياً متشدّداً، حمل شعارات “الإسلام هو الحلّ” و”الإمارات السلفية الجهادية” أو “دويلات المقاومة الخمينية المهدوية”، فقد نشأت خشيةٌ من شمولية دينية تأتي على أنقاض الشمولية السابقة التي ادّعت العلمانية بوجه عام. ومن هنا فإن رفضَ الشمولية السابقة انطوى بداهةً على رفض الدولة الدينية المحتَمَلة بوصفها نسخةً شمولية أخرى. وفي تقديرنا كما في علمنا أن قوى الربيع العربي، بمن فيها الغالبية العظمى من الإسلاميين، مدركةٌ لمشروعية تلك الخشية وتعمل على تبديدها؛ وهو ما يظهّره النقاش الجاري اليوم في كلٍّ من مصر وتونس، كما ظهّرته وثيقتا المجلس الوطني والإخوان المسلمين في سوريا. أما تحويلُ هذا المقدار المشروع – وربما الضروري – من الخشية إلى فزّاعة وإسلاموفوبيا في المنطقة العربية فهو من اختصاص النظام السوري المتهاوي، يتبعه في ذلك نَفَرٌ من المتورطين في خطة “تحالف الأقليات”.
3- بالعودة إلى صُلب موضوعنا، وهو “الدولة المدنية”، قد يمكن القول ان ثورات الربيع العربي قدمت في البداية “تعريفاً بالسَّل٘ب” * للدولة المدنية المطلوبة، أي بوصفها: دولة غير أمنية – بوليسية وغير شمولية – دينية. لقد قالت هذه الثورات ما لا تريد، ولخّصته بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، أي أنه يرفض هذا النمط من الدول البوليسية والأنظمة الشمولية. وقد يمكن القول أن شعار “الدولة المدنية” عبّر عن رفض لثلاثة نماذج: الدولة البوليسية، والدولة الشمولية بغطاء علماني، والدولة الدينية (أي عملياً الإسلامية).
* هو تعريف بالسَّل٘ب définition par négation وليس تعريفاً سلبياً définition négative.
ولكن هذا الرفض انطوى وينطوي على كثير من العناصر المحدّدة أو التي يمكن تحديدُها بالإيجاب، أي بصيغة “ماذا نريد”. وهي عناصر تدخل حتماً في تعريف الدولة المدنية أو في توصيفها.
فرَف٘ضُ النظام البوليسي الذي مسخ الناس أرقاماً بلا قيمة ولا هوية يشير بقوة إلى أولوية الحرية والكرامة الإنسانية لدى هؤلاء الناس. وليس صدفةً أن تشكل هاتان المفردتان العنوان الأول لانتفاضات الربيع العربي، ما يعني أن “الدولة المدنية” المنشودة هي في المقام الأول “دولة الحرية وكرامة الانسان”. فرغم الفقر والأمعاء الخاوية لم يتصدّر “الخبز” شعارات الثورات العربية، ورغم الأيديولوجيا القومية والدينية التي نشأت عليها أجيالٌ وأجيال لم تتصدّر فلسطين ولا الإسلام شعارات هذه الثورات. وهذه مسألةٌ جديرة بالتأمُّل بعيداً عن أي نزعة تبسيطيّة أو سجالية. ولا جدال في أن أولوية الحرية والكرامة الإنسانية تنطوي على كل منظومة الحقوق الأساسية المعبّر عنها بالشرعة العالمية لحقوق الإنسان.
أما رفضُ النظام الشمولي، أكان هذا النظام يتلطّى خلف يافطة علمانية او دينية، فإنه يعني حرصَ الناس على التمسُّك بالتنوّع واحترامه. وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن هذا المطلب يتعلّق اساساً – وربما حصريّاً – بالتعدد العرقي والديني. والحال أنه يشمل كل وجوه التعدّدية في المجتمع، من ثقافية ولغوية وسياسية وأنماط عيش وانتظام اجتماعي، فضلاً عما ذَكَر٘نا من تعدد عرقي وديني بنسبٍ متفاوتة بين مجتمع وآخر. والواقعُ أيضاً أن وجود التنوّع واحترامه يشكلان السِّمةَ الأبرز من سِمات المجتمعات الحيّة، ورافعةً اساسية لترقّيها وتجدُّدِها. أما العمليات القسرية لإلغاء الإختلاف – بدعوى الإنصهار وتحقيق التجانس – فما هي إلا الطريقُ الأقصر الى التخلُّف والتموُّت.
4- إذا جمعنا الحدّين* السابقين الواردين بصيغة السَّل٘ب (الدولة المدنية ليست البوليسية ولا الشمولية)، وإذا لاحظنا أن الحدَّ الأول يتعلّق اساساً بحرية الأفراد وكرامتهم، بينما يتعلّق الثاني بحرية الجماعات وكرامتها – يتحصَّل لدينا حدٌّ ثالث بالسَّل٘ب أيضاً par négation هو ان الدولة المدنية ليست “العلمانية” بالمعنى القديم المتحدّر من عصر الأنوار الأوروبي، والذي ارتكز غلى مفهوم الفرد، وتجسّد على صعيد الإجتماع الوطني السياسي في صيغة الدولة- الأمة Etat-Nation، كما اتّخذ في أكثر الأحيان منحى العداء للدين. ومعلومٌ أنّ “التمتُّع” بصيغة الدولة – الأمة اقتضى إجراء عمليات جراحية مؤسفة في معاقل العلمانية الأكثر تشدُّداً (فرنسا مثلاً) من أجل تحقيق الصَّفاء والتجانُس على صعيد المجتمع (استبعاد البروتستانت مثلاً). وإذا كانت تجربة الدولة العلمانية في أوروبا قد وفّرت للإنسان الفرد
*جاء في “كتاب التعريفات” للجُرجاني: “الحدّ: قولٌ دالٌّ على ماهيَّة الشيء” أي على تعريفه.
درجة عالية من الحرية والكرامة الانسانية، فيما همَّشت الانتماءاتِ الجماعيةَ الطبيعية، فإن تجربة الدولة الحديثة في منطقتنا العربية – وهي تقليد رديء للفكرة القومية الأوروبية – قد همَّشت الأفراد والجماعات معاً وألغت الحرية والكرامة لكليهما.
بخلاصة سريعة يمكن القول أن السِّمة التعريفية الأساسية للدولة المدنية هي أنها الدولة التي توفّر الحرية والكرامة للأفراد – المواطنين كما للجماعات على اختلاف انواعها، في إطار المجتمع الواحد. ولعل التعبير الدقيق عن هذه المعادلة يتمثل في السؤال الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي Alain Touraine بقوله: “كيف نعيش معاً، متساوين مختلفين؟ (Comment vivre ensemble, égaux et différents ?). أما المساواة فتعني مساواة الأفراد- المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون، وأما الاختلاف فيعني تعدّد الانتماءات الجماعية، من دينية وغير دينية. وهنا ندخل في صميم التجربة اللبنانية الحديثة لمحاولة الإجابة عن سؤال اقترحته عليّ هذه الندوة: ما هو دور مسيحيي لبنان والمشرق في النهضة العربية الحديثة؟ وسأحاول الإجابة بأقلّ قدرٍ من الإدّعائية prétention التي تُغري بها صيغةُ السؤال.
5- لا شكَّ أنه كان للموارنة شرفُ المبادرة إلى اقتراح كيان لبنان الكبير وطناً للعيش المشترك المسيحي – الاسلامي منذ العام 1920، وكان لكنيستهم آنذاك الدورُ الأول في “إقناع” المجتمع الدولي بهذا المطلب، إذا صحَّ التعبير. ولقد واصلوا مبادرتهم هذه – بقيادة نخبتهم المتفاهمة مع قطاعات واسعة من المسيحيين والمسلمين – عندما انحازوا عام 1943 إلى الاستقلال التام بدلاً من استمرار الانتداب الفرنسي أو الوحدة مع سوريا. ومن العلامات البارزة في هذا الانحياز/ الاختيار أنه ترافق مع الاتفاق على الميثاق الوطني.
تشير نصوص المحمع البطريركي الماروني (2006) بوضوح إلى أن اقتراح لبنان الكبير وطناً للعيش المشترك، وان الانحياز إلى الاستقلال مقترناً بالميثاق الوطني، عبَّرا عن خيار تاريخي متواصل للكنيسة المارونية اتّخذته بكامل وعيها وإرادتها. ويُفهم من التمعُّن في تلك النصوص أن هذا الخيار استند إلى ركنين مجتمعين: عقيدة التعلُّق بالحرية، وعقيدة الشهادة للإيمان المسيحي في إطار العيش مع الآخر المختلف وليس بمنأى عنه. كذلك تشير النصوص ذاتُها إلى أن وضعيّة الانعزال الماروني في الجبل فرضتها عهود الامبراطوريات المتعاقبة على الشرق، ولم يعد لها من مبرّر في العصر الحديث. وعلى أي حال فإن المستند الديموغرافي للعيش المشترك لم ينشأ مع قيام لبنان الكبير والاستقلال التام، بل وُجِدَ بدرجةٍمعتبرة قبل ذلك في إطار تجربة “المتصرفية”، كما تؤكد نصوص المجمع الماروني والدراسة القيّمة التي كتبها المؤرّخ كمال الصليبي بعنوان “الموارنة: صورة تاريخية”.
*هي استثنائية “لأنها جاءت إبّانَ صعود الدعوات القومية في المنطقة والعالم، ورغم تأثُّر النُّخب المارونية الشديد آنذاك بالثقافة الفرنسية ذات الطابع العلماني.
غير أن مأثرة المبادرة إلى اقتراح مشروع العيش المشترك، على أهميتها الاستثنائية*، لا تخوّلنا القول بأن الموارنة صنعوا العيش المشترك. ذلك أن هذا الشيء، بطبيعته التعددية التشاركية، لا يمكن أن تصنعه فئة واحدة، كما لا يجوز أن يُدار بنظرة فئوية. ولقد امتلك المجمع البطريركي الماروني الشجاعة الأدبية الكافية للتشديد على هذه الحقيقة بشقَّيها، في معرض كلامه على وجوب المزاوجة والموازنة بين الحرية والعدالة في نطاق العيش المشترك. كذلك حدّد المجمع بصورة موجزة ودقيقة ماهيَّة الدور الماروني بوصفه مبادرة تاريخية متجدّدة؛ وذلك بقوله: “والموارنة الذين ساهموا مساهمةً أساسية في خلق هذا النمط المميّز من الحياة، من خلال إصرارهم التاريخي على التواصل والانفتاح، مدعوّون دائماً إلى تجديد صيغة العيش المشترك” (نصّ الكنيسة المارونية والسياسية، فقرة 37).
6- إن العيش المشترك، بوصفه نمط حياة مميّز بثرائه الإنساني، يحتاج الى “دولة العيش المشترك”. فما هي طبيعة هذه الدولة في نظر الكنيسة الماروني؟
جاء في الفقرة 44 من نصّ “الكنيسة المارونية والسياسة” ما يلي: “تحتاج صيغة العيش المشترك الى دولة ديموقراطية وحديثة، قادرة على حماية الصيغة وتوفير ظروف تطوّرها. وتقوم هذه الدولة على التوفيق بين المواطنة والتعدّدية، أي على الجمع بين دائرتين أساسيّتين في انتماء اللبنانيين: دائرة فردية مدنية، تتحدّد بالموطنية التي ينبغي أن تطبّق على الجميع بالشروط نفسها؛ ودائرة جماعية، تتحدّد بالطائفية التي تريد الاعتراف بالتعدُّد وبحقّ هذا التعدّد في التعبير عن نفسه. وقد أخذ دستور الطائف بهذا التمايز بين هاتين الدائرتين، حين أكّد في مقدمته أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
ويتابع النص بصورة أكثر وضوحاً وتفصيلاً فيقول:
“إن الدولة المنشودة هي دولةٌ تؤمّن:
• التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلاً من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات دينية لها صفة المطلق.
• الانسجام بين الحرية التي هي في أساس فكرة لبنان وبين العدالة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، والتي من دونها لا يقوم عيش مشترك.
• الانسجام بين حق المواطن الفرد في تقرير مصيره وإدارة شؤؤنه ورسم مستقبله، وبين حق الجماعات في الحضور والحياة على أساس خياراتها.
• الانسجام بين استقلال لبنان ونهائية كيانه، وبين انتمائه العربي وانفتاحه على العالم” (الفقرة 45).
أعتقد أن هاتين الفقرتين من نصّ “الكنيسة المارونية والسياسة” تحدّدان الملامح الأساسية لمفهوم الدولة المدنية. وتتمثّل الأهمية الخاصة لهذه المساهمة في أنها استندت إلى خلاصات التجربة اللبنانية في العيش المشترك بكل إشكالياتها.
وإذا علمنا أن مساهمة الكنيسة المارونية (2006) قد سبقت بخمس سنوات شعار “الدولة المدنية” الذي رفعته ثورات الربيع، فضلاً عن استناد هذه المساهمة إلى تجربة لبنانية غير مسبوقة في المنطقة العربية امتدّت على نحو قرن من الزمن، يتأكّد لدينا مجدداً صِد٘قُ من قال بأن العالم العربي كان على الدوام في حاجة إلى شيئ من “اللّبننة” أكثر من حاجة لبنان إلى “التعريب”. وعلى أي حال قد لا نجد مساهمةً في تحديد مفهوم “الدولة المدنية” بمثل الدقة والوضوح الواردين في نصّ الكنيسة المارونية… ولَكُم٘ أن تستنتجوا بعد هذا ما إذا كان مفهوم الدولة المدنية اختراعاً مارونيّاً.
7- من آخر مشكلات هذا “الإختراع” أن بعضَ أبنائه اهتزّ إيمانُهم به على أثر زلزالين كبيرين: زلزال الحرب اللبنانية (1975-1990) الذي لم تتوقّف ارتداداته عن الفعل في نفوس كثير من المسيحيين، وزلزال الثورات العربية الراهنة الذي توجّسوا منه خِيفةً بدلاً من أن يتوسّموا فيه وعداً بانتعاش المعنى اللبناني. ومن هنا ذهب هذا البعض صراحةً أو مداورةً إلى المطالبة بتعديل النظام اللبناني من خلال تعديل الدستور القائم على وثيقة الوفاق الوطني في الطائف. واللافت في هذه المطالبة أنها تأتي على خلفية انكفائية مذعورة، بدلاً من تلك الشجاعة التي تحلّت بها المبادرة التاريخية المارونية. لكأنّي بهؤلاء لم يقرأوا نصوص مجمعهم البطريركي الأخير، وإذا قرأوا لم يفهموا، وإذا فهموا فقد أنكروها قبل صياح الديك!
وهنا أختم بفقرتين سريعتين من نصّ “الكنيسة المارونية والسياسة” تذكّران بفهم الكنيسة للنظام اللبناني القائم على اتفاق الطائف:
الفقرة 28: “… وساهمت الكنيسة في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف (1989)، ونظرت إلى هذا الاتفاق على أنه مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب، باسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحرية، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيته. ورأت الكنيسة كذلك أن هذا الاتفاق يثبّت أولوية العيش المشترك على كل ما عداه، ةيجعل منها أساساً للشرعية.
الفقرة 29: حسمت مقدمة اتفاق الطائف الجدل حول طبيعة العقد الاجتماعي بين اللبنانيين، فاعتبرت أن العيش المشترك هو أساس هذا العقد، وأن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. كما أوضحت ماهيّة النظام اللبناني: لبنان واحد موحّد، سيّدٌ حرٌّ مستقل، ونهائي لجميع أبنائه، وعلى كامل أرضه. وهو عربي الهوية والانتماء، ويلتزم بكونه عضواً مؤسساً في الجامعة العربية وفي منظمة الأمم المتحدة وفي الإعلان العالمي لحقوق الانسان. وقالت إن النظام جمهوريٌّ ديموقراطي برلماني، يقوم على احترام الحريات العامة، لا سيما حرية المعتقد، وعلى العدالة والمساواة، ومبدأ الفصل بين السلطات، وعلى ان الشعب هو مصدر السلطات.
تًرى هل يحتاج هذا النظام إلى إسقاط أو تعديل، أم إلى تطبيق سليم لم نتمكّن منه بسبب سلطة الوصاية السورية التي نشاهد اليوم انهيار نظامها بأُمّ العين؟!
في الخلاصة:
لقد اختبرنا في هذه المنطقة الأنظمة التوتاليتارية التي ألغت حقوق الأفراد وحوّلت الجماعات إلى كُتل بشريّة متناحرة تخشى بعضها بعضاً، ويستقوي بعضُها على الآخر حتى بالنظام التوتاليتاري الذي يقمع الجميع. ونحن نعلن رفضنا المطلق لهذه الأنظمة، ونتضامن مع شعوب المنطقة من أجل إزالتها.
واختبر الغرب نموذج الأنظمة العلمانية التي أمّنت الحقوق للأفراد وحققت تقدّماً نموذجيّاً، غير أنها ألغت مفهوم الضمانات للجماعات. وفي تقديرنا أن هذه الأنظمة العلمانية أصبحت بحكم العولمة وتداعياتها تدير مجتمعاتٍ متنوّعة. وهو ما يدفعها بقوة نحو اعتماد صيغة مناسبة لإدارة مجتمعات تعدّدية لا مجتمعات صافية.
يقدّم المسيحيون نموذج الدولة المدنية التي تؤمن الحقوق للأفراد والضمانات للجماعات الطائفية والإثنية وغيرها. وهو نموذج بدأ رسمياً مع قيام “لبنان الكبير” وصيغة العيش المشترك.
هذا المفهوم يشكّل المساهمة المسيحية في شرقٍ عربي جديد ويتطلّب منّا شجاعة الدفاع عنه وتثبيت مفاهيمه وتعميمه.
* * *
مداخلة الأب باولو دالوليو عبر skype:
تخلل حلقة الحوار شهاد مصوّرة عبر الـSKYPE للأب باولو دالوليو اليسوعي، فقال “انا ملتزم مع بعض الأصدقاء في صوم من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان في سوريا، وأيضاً نصلي من أجل زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر الى لبنان”، معتبراً ان “البابا يزور بيروت بصوت واضح يُنادي بحقوق الانسان الذي يجب ان يُحترم كشخص بشري له حقوقه ووجوب احترام حق الشعوب بالحصول على الديمقراطية الناضجة، فنحن في الشرق لسنا بشراً درجة ثانية بل نحن ينبوع حضارة المتوسط، وزيارة البابا ستكون بشارة وعلامة انتهاء هذه الأزمة الأليمة، فاللبنانيون يستقبلون الباب باسم كل مسيحيي الشرق والطوائف”.
وقال “لقد عشت معكم في بيروت وبالتحديد في العام 1978 في الأشرفية وقد عانيتُ معكم كشعب لبناني وللبنان ذكريات أليمة في وسط قلبي وتساءلت مرة “هل أحمل السلاح وأحارب؟ كبعض الشباب الذين كانوا يدافعون عن الحارة التي يعيشون فيها”.
وتابع دالوليو “لقد درست اللغة العربية واكتشفت ان الشرق مبني على القيّم العظيمة وهي مستمدة من دياناتنا الابراهيمية: المسيحية والاسلامية واليهودية، وحين أُسئل عن دور المسيحية في المنطقة؟ فأنا اشبهها بالغضروف في الركبة اذ يجب ان يكون المسيحيون خدّام الوحدة بدلاً من ان يكونوا منقسمين حول مصالح تافهة …”
وأضاف “نحتاج مجتمعاً دينياً في أصالته ومدنياً في قراره واختياره، فالمجتمع الديمقراطي نريده لأنفسنا، والديمقراطية هي آلية لتدبير النزاعات البشرية دون اللجوء الى بحر من الدماء في كل مرة وفي كل أزمة”، لافتاً الى ان “سوريا حُرمت هذه الديمقراطية على مدى 40 عاماً وقد آن الوقت لتحصل عليه”.
ورفض دالوليو اعتبار المسيحيين أقلية، معتبراً ان “المسيحيين والمسلمين واليهود بنوا معاً الحضارة العربية، فنحن كمسيحيين نؤمن بحقوق الفلسطينيين ونريد شرق أوسط يتسع لكلّ الناس… نحن نريد بناء مستقبلاً متناغماً مع احترامنا لحقوق بعضنا البعض، فالمسيحيون مشاركون في الثورة السورية مع كل المواطنين الأشراف لخير كل المجتمع”.
ورأى ان “الكفاح من أجل الحرية في سوريا لا حدود له، فالمسيحيون في حلب يحاربون الى جانب المسلمين لأجل حريتهم، ولا بد من كل الذين يكافحون ان يحترموا حقوق المدنيين ولا يجوز المس بهم كما يفعل النظام الذي يقصف الناس بالمدافع والطائرات والهيليكوبتر، فهذا قصف جبان من قبل جيش النظام السوري غير الأخلاقي الذي طرد المسيحيين من مدينة حمص”.
وتوجّه الى المسيحيين في سوريا بالقول “لم نُخلق لكي نعيش خداماً لنظام استبدادي قاتل للناس والحريات، نحن مسيحيون لأجل الوطن ككل ولأجل جميع الناس الذين يعيشون فيه، والشعوب الناضجة تتغلب على المؤامرات بالتلاحم بين المواطنين ونحن نُشكّلُ وطناً مع جيراننا المسلمين، بالطبع هناك صعوبات ولكن أي مجتمع لم يواجه صعوبات؟ علينا اليوم ان نواجه صعوباتنا بجرأة مع نظرة صحيحة نحو المستقبل”.
وختم دالوليو “نحن امام خيار تارخي، علينا ان نختار سوريا الحرية والديمقراطية… علينا ان نتحالف يداً بيد مع المسلمين الناضجين لكي نبني الوطن الذي نريده، فالتآخي الاسلامي-المسيحي لا يأتي من نظام من فوق بل هو خيار القاعدة الشعبية الديمقراطية، والحرية لا تأتي من المستبد بل من جارك المسلم الذي يقتنع معك بما نريده سوياً لسوريا، فأنا طُردت من سوريا وآسف لذلك لأنني لو لم أُطرد لكنتُ الى جانب إخوتي المسلمين والمسيحيين وأُعاني معهم لأجل سوريا المصالحة والحرية والديمقراطية، وبإذن الله سنلتقي مع السوريين عند استرداد الحقوق، نحن لسنا ضد الشيعة، لسنا ضد العلويين، فهذه قصص كاذبة، نحن لأجل سوريا وسنبني شرق أوسط مزدهر كما فعل أجدادنا أبطال الحضارة”.
* * *
كلمة البروفسور روك-أنطوان مهنا:
عميد كلية إدارة الأعمال والاقتصاد في جامعة الحكمة
دور الاقتصاد اللبناني في النهضة العربية
أيتها السيدات والسادة،
بدايةً دعوني أشكر القيّمين على هذه الندوة السياسية والفكرية–الاقتصادية التي تعيد بعضاً من الثقة إلى جدل سياسي عقيم يدور في فراغ طالما لا يرتكز على نقاش علميّ وتخطيط ورؤى إقتصادية. عسانا نستعيد تجربة الندوة اللبنانية فنقارع الحجّة بالحجّة لا بقطع الطرقات والخطف والاغتيالات.
قبل أن أشرَع في مهمتي شبه المستحيلة والتي تقضي بأن أختصر دور الاقتصاد اللبناني في النهضة العربية في عشر دقائق، من المفيد بدايةً أن نعرض بعض الأرقام والوقائع عن حال الاقتصاد في الدول العربية قبل وبعد الثورة وعلاقة لبنان الاقتصادية بهذه الدول.
تشابهت الأحوال الاقتصادية في الدول العربية ما قبل الثورة بنِسب البطالة العالية بين الشباب وتفاوت الدخل والتضخم وانظمة التوريث السياسي، وكنت قد نشرت كتاباً عن هذا الموضوع في العام 2000 دعيت فيه الحكومات العربية كي تختار بين أن تتحوّل بطالة شبابها إلى قنبلة ديمغرافية أم إلى هدية إقتصادية. ولكن يبدو كالعادة أن الدول العربية تهوى الانفجارات وهذا ما حدث في الربيع العربي. فغياب التخطيط وقمع إرادة الشعوب وسرقة وهدر الأموال العامة وعدم إعطاء الأولوية للإصلاحات الاقتصادية جعل الدول العربية ومنها لبنان مسلوبة الإرادة السياسية ومرتهنة لمحاور إقليمية ودولية. ولن تكتمل الثورات العربية لتتحوّل إلى نهضة حقيقية إن لم تأخذ هذه الشعوب العِبَر من الماضي وتطوّر إقتصاداتها إلى جانب أنظمتها الديمقراطية.
أيها الحضور،
يتلقّى لبنان منذ سنوات مدفوعات من الدول العربية بقيمة 15 مليار دولار، خمسة مليارات منها تأتيه سنويا” من اللبنانيين العاملين في دول الخليج بدل سبعة مليارات قبل حرب تموز.
هذا وتُقدّر الإستثمارات العربية في لبنان سنويا” ب 2،5 مليار دولار أميركي، بينما تقارب صادرات لبنان السنوية إلى الدول العربية الميليارين دولار ليست كلها بالطبع صناعة لبنانية.
بعد هذه المقدمة الضرورية التي تبرز حجم إتّكال لبنان على إقتصادات الدول العربية رغم عجزها، لا يمكن الحديث عن دور لبنان الاقتصادي في نهضة هذه الدول في ظلّ إقتصاد منهار، معدّلات الدين العام فيه هي من الأعلى عالمياً في مقابل إدارة عامة هَرِمة وفاسدة في جزء كبير منها تأكل النمو بدل أن تكون عاملاً في زيادته. من هنا يقف لبنان أمام خيارين: الأول يقضي بأن يستمر بلعب دور النعامة ويتجنّب أي إصلاح إقتصادي بحجّة الوفاق الوطني، والثاني يقضي أن تتحمل حكومتنا مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية فتمنع الإنهيار المحتَم.
لذا على هذه الحكومة أو أي حكومة لاحقة أن تعيد النظر فوراً في حجم القطاع العام وفعاليّة إدارته، وتشرع إلى إغلاق الملاكات والإدارات التي لا حاجة لها. وتعيد تأهيل الفائض الاداري للمشروع في تقليصه تدريجياً. كما أنه من العار أن يكون عندنا أزمة كهرباء مضافة إلى كلفة هي الأعلى في المنطقة.
لتقوية الاقتصاد اللبناني علينا أن نسأل الحكومة بالإسراع في وضع قانون اللامركزية الادارية الموسّعة، وعلى منع الإحتكارات الاقتصادية أو على الأقل حلّ أزمة السير التي لوحدها كفيلة بزيادة الناتج المحلي بنحو 4% بحسب دراسات شاركت في إعدادها مؤخراً.
كما لا يمكن التأثير على إقتصادات الدول العربية المجاورة من دون تطوير المرافىء اللبنانية وفتح مطارات جديدة وخلق مناطق إقتصادية حرّة.
أما الحديث عن مدى الحاجة إلى استقرار سياسي أو أمني لتسهيل إنطلاقة عجلة الاقتصاد اللبناني فحدِّث ولا حرج والدكتور سمير جعجع هو الأدرى بهذه الشؤون.
أيها السادة،
بعد أن تتحقق نهضة لبنان الاقتصادية عندها يُصبح من المفيد الحديث عن دورنا في نهضة الدول العربية. ولكي يستعيد لبنان دوره النهضويّ هناك مساحة وحيدة يمكنه أن يلعب عليها… وهي ملعب الحرية. فالتحدّيات هي إقتصادية بقدر ما هي سياسية، وهي أساس كل إبداع تميّز به لبنان.
من هنا لوزارة الثقافة دورٌ إقتصادي بحجم دورها الفكريّ حيث يجب أن تشجّع صناعة السينما والنشر والكتابة والموسيقى والمسرح كأدوات غزوٍ حضاريّ لكي نستعيد بعضاً من المساحات التي خسرناها بفعل الحرب أو بفعل الجهل.
كما على وزارة الخارجيّة أن تتحوّل من دور السائح الذي يطبع تأشيرات دخول تتناقص صيفاً بعد صيف إلى وزارة اقتصاد أيضاً خارج الحدود حيث عليها أن تُنشىء أقساماً اقتصاديّة متخصصة أقلّه في السفارات اللبنانية في الدول العربية لتشبيك الشركات اللبنانيّة مع الشركات العربيّة وفتح هذه الأسواق أمام اليد العاملة اللبنانيّة والصناعات ذات القيمة المضافة. كما على وزارة الخارجيّة أن تربط بين خبرات اللبنانيّين المقيمين في الدول العربيّة لتخطّي دورهم التقليدي في التحويلات الماليّة فقط. وبما أن أهم ثروة طبيعية تُميّز لبنان هي أدمغته ، لا يمكن السكوت أمام انحدار المستويات العلميّة على كافة الأصعدة والتي يجب أن تعود أدوات استقطاب للشباب العربي ومختبرات أفكار مبتكرة تُطلَق في لبنان وتُنفَّذ في الدول العربيّة ( من بين 2,124 جامعة دولية مصنّفة، احتلّت الجامعة الاميركيّة المرتبة 1,159 بينما احتلّت جامعة القاهرة المرتبة 592 ).
أيها الحضور الكريم،
لا يمكن نقل فلسفة التنوّع والحريّة الاقتصاديّة الى الدول العربيّة إذا أهملنا الدور الفاعل الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني اللبناني الذي اكتسب خبرة في التنمية الاقتصاديّة والبشريّة، يجب على الحكومة أن تدعمه في نقلها إلى دول ما بعد الثورات. هذا شكلٌ عصريّ من أشكال التبادل الحضاري بين الشعوب سبقتنا اليه دول أخرى ولا يمكن أن نتجاهل أهميته في نقل ثقافة الحياة والتعاضد بين الشعوب والإنفتاح وتعزيز حقوق الإنسان.
في الختام،
لم أرد لهذه المداخلة أن تكون تقنيّة بقدر ما أردتها تأكيداً على تداخل الاقتصاد بالسياسة وأهميته في نشر قِيم حضاريّة يجب أن تكون من أساسات السياسة الاقتصاديّة اللبنانيّة في علاقته مع الدول العربيّة.
وكما بدأت من ضرورة تعزيز اقتصادنا الداخلي كشرط محوريّ كي نؤثر في حضارات الغير، أريد أن أنهي بالتشديد على ضرورة انتهاز فرصة الإنتخابات النيابيّة المقبلة لكي نُدخِل عامل “المقاومة الاقتصاديّة” الى مفردات السياسة العقيمة، فبدون تخطيط صحيح وجرأة في التفكير، وحكمة في التنفيذ، لن يتمكّن لبنان من لعب دوره الحضاري في المنطقة العربيّة لا بل العكس من ذلك سيأتي ربيعٌ يُطيح بالأفكار المجلّدة والمعلّبة وخوفي عندها أن إعصار الإفلاس الذي سيضرِبُنا لا سمح الله لن يُبقي معنا حتى ثمن تذكرة الهجرة.