لم ينتبه اللبنانيون الى مجريات الثورة التونسية. تونس بعيدة، ولا تؤثر سياستها على ما هم غارقون فيه من انقسام وطني حاد، ولا على موازينه الرجْراجة المتقلبة، والتي انعقدت وقتها على القطب «الممانع» من هذا الانقسام؛ علما ان السياسة الغربية-الاميركية التي ينضوي في ظلها الرئيس التونسي، المُطالب بالتغيير، كان يفترض بها ان تحرّك هذا القطب ضد نظامه، إعلاميا على الأقل. من تابع بعض مجريات هذه الثورة من بين اللبنانيين، وبشيء من اللامبالاة، تصوَّر انها احتجاجات على البطالة وضيق سُبُل العيش فحسب؛ وهذه القضايا البعيدة جغرافيا لا تجنّدهم، هم الواقعون تحت قبضة العواطف التعبوية للطوائف وانقساماتها.
وعندما تنحّى بن علي في 14 كانون الثاني، لم يكادوا يلتقطون انفاسهم من وقع المفاجأة، حتى خطفت ألبابهم ثورة 25 يناير (كانون الثاني) المصرية. غالبيتهم اندمج في أيام هذه الثورة، بدقائقها وتفاصيلها. تسمّروا امام الشاشة الصغيرة، مدركين بأنهم يشهدون حدثا تزداد أهميته مع كل مطلع شمس. «الممانعون» من بينهم كانوا السباقين بإبداء الحماسة لها، نظرا لما يعرفه الجميع عن سياسة النظام المصري المقرّبة من الولايات المتحدة الاميركية. تبعهم خصومهم، بحماسة متفاوتة، ولكن اكيدة. فالثوة في مصر هي ايضا ثورة من اجل بناء دولة حق وقانون وتداول السلطة؛ وكلها شعارات هذا الفريق الخصم، غير «الممانع»، من الانقسام الوطني. أجمع اللبنانيون اذن على تأييد الثورة ضد مبارك، ولأسباب متضاربة. وحين سقط حسني مبارك، ذُهِلوا، وشعروا بأن الارض تهتز تحتهم. وتوهموا بأن التاريخ يدقّ بابهم هم ايضا.
فلم ينتظروا كثيرا ليدعموا هذا التاريخ: ستة عشر يوما بالتمام والكمال، بين تاريخ سقوط مبارك في 11 شباط، وانطلاق اولى التظاهرات اللبنانية المنادية باسقاط النظام الطائفي، في 27 شباط. رافقت ذلك اعتصامات في المناطق والبلدات، تلتها تظاهرات اخرى، وكانت ذروتها تلك التي نُظِّمت في 20 آذار في بيروت، وجمعت 20000 متظاهر. ثم اخذت هذه التظاهرات تخبو شيئا فشيئا، حتى آخرها، وقد وقع فيها حادث، كان كفيلا باختتامها وبالتنبيه عما سوف يلي: ففي خضم المطالبة باسقاط النظام الطائفي اللبناني، ارتفعت بعض الاصوات من بين المتظاهرين تطالب بالتضامن مع الشعب السوري المطالِب، وبالتظاهر ايضا، بإسقاط نظامه الديكتاتوري. أُسكِتت هذه الاصوات بعد مشاجرة وعراك، وانفضّت التظاهرة. علينا التذكّر بأن الثورة السورية ضد الأسد كانت قد اندلعت قبل ذلك بشهرين، في 15 آذار.
التظاهرات اذن والاعتصامات المرافقة لها امتدت ثلاثة أشهر، وكانت مخيبة باستثنائيتها. كان يؤمل، أو يُتصور، في مكان ما من ذهن المتحمسين لها، ان «النظام»، كما في تونس ومصر واليمن… سوف يعترضها او يقمعها او يسجن المشتركين فيها، فتنطلق ساعتها عجلة التاريخ … ولكن «النظام» كان واثقا من نفسه، صاحب فطنة ومراس. فالعنف المطلوب من هذا النظام، الذي تتوسله التظاهرات المطالبة باسقاطه، ليس هو بالضبط ما في جعبته. العنف العربي المرتجى مصدره واحد، هو الرأس الواحد للنظام السلطوي. اما في لبنان فالعنف موزَّع على عدد غير مستقر من «الرؤوس». عنف لا مركزي، منثور هنا وهناك.
فبناء على تقليد لساني راسخ تختلط فيه الانواع، بوسع اي «زعيم» او «رئيس» أو «أمين عام»، او حتى كادر متوسط من التكتلات الطائفية ان يخوض معركة ضد الطائفية ونظامها. بوسعه ان ينتقد «الدولة» التي يكون قد سطا على خيراتها، عبر وزارة أو نيابة أو اي من المواقع العليا في هذه «الدولة». لذلك اشترك في التظاهرات المطالبة باسقاط النظام الطائفي شخصيات من قلب هذا النظام وشباب ينتمون لأحزابه. وهي، أي التظاهرات، استحوذت على تغطية اعلامية من قبل اشد المجموعات مذهبية، فضلا عن تصريحات مؤيدة ومتعاطفة معها. ما جعل العديدين يعتقدون بأن هذه التظاهرات انما نظّمها احد اقطاب الطوائف الجالس الآن على المقعد رقم اثنين من الدولة منذ عقدين؛ ما أثار تشوشا حول «الخلفية الحقيقية» لهذه التظاهرات. كلها امور اغاظت الشباب المستعجلين، المتفاعلين بقوة مع بقية العرب، والمعتقدين بأن الثورة لا تحتاج الا لتظاهرات وقمع. احد الرسوم الكاريكاتورية وقتها صوّر لبنانيا يطلب من ربه ان يمنّ على لبنان بديكتاتور…
ولكن كل حيثيات الاستثناء اللبناني هذه لم تكن وحدها السبب في الخفوت التدريجي للفعاليات الاستنهاضية، حتى صمتت نهائيا بعد التظاهرة الاخيرة. فقد تلاشى الاهتمام الوطني اللبناني بها، الرسمي والأهلي، بعدما اجتاحته ثورة اخرى، هي الثورة السورية؛ وهي، على عكس المصرية، التي حظيت على اجماع وطني، انقسم اللبنانيون حولها. وأولى تجليات هذا الانقسام كان حصول نوعان من التظاهرات في العاصمة: الأولى آمنة يسير فيها عشرات المؤيدين لنظام الأسد، معظمهم من العمال السوريين العاملين في لبنان، والثانية مندّدة بهذا النظام، وهي أقل عددا، وقد تعرضت اولاها للضرب، وتلتها تظاهراتان صغيراتان، مرّتا بسلام. ضعف العاصمة عوّضته نسبيا مدينتا طرابلس وصيدا، اذ انتظم المئات من اهلهما في تظاهرات اسبوعية بعد صلاة الجمعة، نظم غالبيتها سلفيون متنوعو المشارب التنظيمية، فضلا عن «حزب التحرير الاسلامي» و»الجماعة الاسلامية» (أي الاخوان المسلمين»). وقد برز من بينهم الشيخ الصيداوي احمد الاسير الذي دشن دوره على الخشبة اللبنانية لخطب نارية وبتظاهرة حاشدة في العاصمة تضامنا مع الشعب السوري، هي الاضخم منذ اندلاع الثورة السورية، تلتها تظاهرة اخرى في البقاع الغربي. والسلفيون حازوا، بعيد احداث 7 ايار (هجوم حزب الله وانصاره على احياء من بيروت) على دفعة معنوية للتفعيل والتوسع، ثم جاءت الثورة السورية والمنطق المذهبي الذي رافقها لبنانيا واقليميا، لتضخّهم بالمزيد من ثقل الدور و فعالية الوظيفة.
الأنظار اللبنانية كلها شاخصة اذن نحو سوريا. الحكومة اولا، وقد تشكلت لتوها بعد انقلاب ابيض جاء بأنصار النظام السوري في لبنان، في 24 كانون الثاني، قبل يوم واحد من اندلاع الثورة المصرية… في البداية، صاغت هذه الحكومة موقفا معلنا «محايدا» تجاه ما يحصل الآن في سوريا. وفي الممارسة كان هذا الموقف معقدا متضاربا، ينطوي على ما يشبه التأييد الموارب، المقنّع، خصوصا في التصويت على القرارات الخاصة بسوريا في الامم المتحدة والجامعة العربية؛ ويميل في احيان اخرى للتماشي مع الارداة الدولية الخاصة بالثورة وذيولها، وبشيء من البهلوانية التي يتقنها سياسيو لبنان. فالمطلوب من هذه الحكومة عدم انفراطها؛ ذريعتها الحفاظ على الاستقرار، ودافعها العميق البقاء على رأس البلاد، وذلك تأميناً لما يسميه النظام السوري «خاصرته الرخوة». فالحياد ليس من تقاليد لبنان ولا الحفاظ على الاستقرار من تقاليده أيضا.
كل ديباجات الحكومة في الحياد لم تمنع حسن نصر الله، المتحكّم بتشكيلها، من القاء الخطب، الواحد تلو الآخر، ليعلن بحماسة شديدة وقوفه الى جانب النظام السوري؛ والى جانب حسن نصر الله، حشد من المحللين والاعلاميين والصحافيين ونواب (ونواب ووزراء سابقين) وامناء عامين لأحزاب موالية لسوريا. انقلب الموقف من الثورات العربية كلها: مع المصرية منها كانت انتفاضة مجيدة لشعوب ألهمتها الثورة الاسلامية الايرانية، ومع السورية تحولت الى مؤامرة امبريالية تستغل عواطف الشعوب الساذجة، غرضها التعويض عن الانسحاب الاميركي من العراق.
حجة حسن نصر الله والحشود من معسكره، هي نفسها لازمة النظام السوري، بتنويعاتها البلاغية المختلفة: الثورة «مؤامرة امبريالية صهيونية»، والمتظاهرون «ارهابيون مسلحون سلفيون». من الطبيعي الاستنتاج، مع هذه الحقائق «الممانعة»، بأن الثورة السورية يعتريها «تقصير فادح» تجاه قضية فلسطين، تدليلا على انعدام وطنيتها:»لا معنى لثورة تتجاهل قضية فلسطين»، «أين انتم يا اهل فلسطين»… تعويضا عن هذا «التقصير» نظم الممانعون بقيادة النظام السوري، مسيرتين الى الحدود الجنوبية لكلا من لبنان وسوريا: فى ذكرى هزيمة حزيران، وذكرى وعد بلفور. طويت صفحة المسيرتين بشهداء، فلسطينيين خصوصا، اعتقدوا لوهلة ان «مقاومة» النظام السوري وحلفائه اللبنانيين لهكذا «مؤامرة، صهيونية امبريالية» سوف تعيد اليهم بلادهم. (في هذه الاثناء، كانت «حماس» حليفة النظام وأبرز أصحاب القضية، تلمْلم بعضها بهدوء وتبحث لنفسها عن مكان يبعدها عن دمشق).
فلسطين لم تكن وحدها الذريعة. تردّدت معها، وطغت عليها احيانا، قضية البحرين. القمع الشرس الذي لاقاه البحرينيون المطالبون باصلاح نظامهم، كان يُرمى في وجه كل من قال بالثورة السورية. «تتكلمون عن سوريا وتسكتون عن البحرين؟!»، كان سؤالا أشبه بدقّ المسمار. لازمات اخرى رافقت مواقف اللبنانيين الموزعين بين مؤيد للثورة السورية وبين كاره لها، منذ بداية الثورة السورية وحتى هذه اللحظة: أكثرها شعبية واحدة تؤكد بأن النظام ساقط ومنهار، وأيامه معدودة، والثانية لا تقل ثقة بأن التمرّد انتهى، كل شيء صار تحت السيطرة، كل شيء تمام… طغت اللازمات في كلا الضفتين، وعلى وقعها فقط تكرّر صخب المواقف المؤيدة والمعادية (…).
() مقتطفات من ورقة قدمت في مؤتمر «الثورة، الانتقال والديموقراطي» الذي عقده مركز دراسات الوحدة العربية في تونس في شباط 2012، وقد صدرت أعماله مؤخرا في كتاب.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل