صور فتيات محمولات على الأعناق ، ونساء متصدّرات الصفوف الأمامية : من جميع الأعمار، والطبقات والانتماءات الثقافية والجغرافية وغيرها، هذه هي الصور التي لفتت جميع أنظار الصحافة العالمية، واعتبرها المحلّلون السياسيون أهمّ ما يميّز الثورة التونسية عن نظيرتها.
كم حلمنا بعدها بأنّ تونس الغد ستوفّر لنا مناخا ملائما لتنمية القدرات، وتحقيق التفوّق والرقي وبلوغ أعلى الدرجات …ستحرّرنا من الأسر ، وستعالجنا من حالات التأزّم، وستوفّر لنا ما به ننسى سنوات الضياع. حُلمنا كان مشروعا فالثورة التي قامت تنادي بالحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة حَرِية بأن تفتح أمامنا الآفاق.
حذّرنا العارفون والعارفات بتاريخ الشعوب بأنّ النساء سيكن لا محالة كبش فداء. فدريّة شفيق مؤسسة ‘حزب بنت النيل’ ساندت بمعيّة صاحباتها ثورة 1952، ولكن سرعان ما تنكّر المنتصرون لما قدّمته المصريات من تضحيات فاستبعدوهن من المشاركة في البرلمان، وفي المجلس الدستوري لسنة 1954. وتعاقبت التحذيرات من شقيقاتنا الإيرانيات، والجزائريات والعراقيات والأفغانيات، والسودانيات…لكنّنا آمنا بأنّ التونسيات محصّنات من محاولات الرجوع إلى الوراء، وصدّقنا من وعدوا بأن ‘لا مساس بمكتسبات النساء وبالحفاظ على مجلّة الأحوال الشخصيّة’، واستأسدنا في سبيل الدفاع عن الإسلاميين، وتحريرهم من أسر التنميط الذي رافقهم على امتداد عقود من الزمان، وقلنا: سيتلاءم الإسلام مع الديمقراطية ذالك هو الاستثناء التونسيّ، وردّدنا تونس ستكون لجميع التونسيين بلا إقصاء أو تهميش أو استبعاد.
ولكن تعاقبت الشهور، اهينت كرامة فئة من النساء من جامعيات وفنانات وإعلاميات، وناشطات وفاعلات سياسيات … تعرّضت النساء للعنف بجميع أشكاله في محاولة لتأديبهن وتصميتهن، وانزاح القوم عن الحديث في الأولويات: قضايا الفقر والتهميش والبطالة وحقوق عائلات الشهداء والجرحى… ليتناقشوا في قضية الحجاب والسفور والنقاب، وفتاوى الخروج بمحرم ومحاسن الختان والدعوة إلى تخصيص شواطئ للنساء وأخرى للرجال… وصارت تونس قبلة الدعاة يأتوننا من كلّ فجّ ناشرين خطابا إسلاميا متشدّدا أتى أكله على مرّ الأيام. وهكذا اتسعت دوائر الخوف: الخوف على الحقوق وعلى مصير البلاد.
ما اثير حول استبدال “المساواة” بـ”التكامل” ليس زوبعة في فنجان. إنّها قضية اختلاف في المرجعيات والفهوم والتصوّرات والمواقع .فـ”المساواة”، في نظر أصحاب الطرح “التكاملي” تثير المخاوف لأنّها “تهدّد بعلاقات تصادمية بين الرجال والنساء” ولا تتلاءم مع “القوامة” وتعبث بسكينة الأسرة. و”المساواة” عند المدافعين عنها تحرّر من الدونيّة والهامشيّة، وإثبات لهويّة المرأة المدنيّة المتفرّدة التي ترفض أن تُعرّف بالنقيض: فالمرأة ‘كائن بغيرها’ يعرّفها أهل اللغة بأنّها “خلاف الرجل”، وصفاتها تأتي في مقابل صفات الرجال.
إنّ طرح التكامل طرح تجاوزه المجتمع التونسيّ: إنّه عود إلى ما أثارته “بنت الشاطئ” حين دافعت عن اللامساواة بحجج الطبيعة والفطرة والسليقة. إنّ الواقع المعيش يثبت أنّ النساء تحمّلن جميع المسؤوليات نيابة عن فئة من الرجال من الذين قبعوا في السجون أو فرّوا من البلاد أو الذين تقاعسوا عن أداء واجباتهم فكانت الكادحات يشرفن على تربية أطفالهن وحمايتهم وتوفير كلّ مستلزماتهم…
ولهذا فإنّ طرح التكامل يتنكّر لواقع النساء التونسيات، ويتجاهل مكابدتهن اليوميّة في سبيل الحياة.
إنّ من ينكرون اليوم على النساء حقوقهن ويطالبون بإحلال قيم تقليدية محلّ قيم ترتكز على منظومة حقوق الإنسان يجهلون التاريخ، وتاريخ نضال التونسيات كـ”منوبية الورتاني” و”بشيرة مراد”، وغيرهما كثيرات.
إنّ من يريدون من المرأة أن تكون رمز العفّة والشرف والهوية العربية الإسلاميّة وحارسة الموروث الثقافي، تٌعرّف بكونها “أمّ فلان” أو “زوجة فلان” أو “بنت فلان”، يجهلون أنّ من التونسيات من يرغبن في أن يكنّ مواطنات وشريكات في بناء الجمهورية الثانية الضامنة الوحيدة للحريات والحقوق والمكرّسة لقيم المساواة أمام القانون وعدم التمييز مطلقا وقيم الحريّة في التفكير والتعبير والاعتقاد وغيرها.
لم تعد المسألة إذن متعلّقة بشعارات تؤثث الخطاب أو ترفع في المظاهرات والاحتجاجات بل لا بدّ أن تشعر المرأة بأنّ عهد الخنوع والتواكل والاستسلام والرضا بالمكتوب والصبر على القدر، شرّه وخيره، قد انتهى. إنّ الاتكال على جهود الرجال في بناء الجمهورية معناه أنّهن مكمّلات قاصرات لم يبلغن سنّ الرشد، وأنّ من حقّ الرجل أن يحتكر الفعل السياسي، وأن يكون القوّام.
إنّ عهد نؤمات الضحى والدرّة المصونة، والستيرة، …. قد ولّى، وإن رغب البعض في إحيائه، إلا أنّهم كمن يحي العظام وهي رميم.
التونسيات راشدات، وإذ هنّ يدافعن عن المساواة والحريات، فإنّما يفعلن ذلك من موقع المواطنات المساهمات في بناء صرح نظام جمهوري عتيد، وإن كره الكارهون.
إن الخلاف اليوم ليس بين القوى المدافعة عن قيم الحداثة والقوى الدينيّة (الإسلاموية)، بل بين مؤيدي ومؤيدات النظام “الأبويّ” في مقابل داعمي وداعمات المساواة.
نساء بلادي لن يقبلن مجدّدا بأن يُنعتن بأنّهن “سافرات” في مقابل “المحجبات” و”المنتقبات”، إنّما هنّ سواعد تبني الجمهوريات في مقابل نساء ورجال يعملون ضدّ بناء الجمهورية الثانية.
نساء بلادي تنتظرهن نضالات شاقّة ومسيرات طويلة، فصبرا جميلا أيّتها التونسيات إنّما ”تؤخذ الدنيا غلابـــــــــــا”.
* جامعية من تونس