عندما شرعتُ في قراءة ما يكتبه ياسين الحاج صالح في الصحافة، كنتُ متيقنة بأن ما يجذبني الى هذه الكتابات هو نوعية الحرية التي يتمتع بها: حرية تفكير وتعبير غير معهودة وسط مثقفينا… كنتُ أتصور بأنه نشأ وعاش في واحدة من بقع الأرض التي ينعم سكانها بحرية بديهية؛ أو أنه جال كثيراً بين البقعة والأخرى، بحيث اكتسب تعدّدا في النظر، ومنافذ بين هوامش هذا التعدّد، أفضت الى حريته الثمينة هذه.
وكم كانت دهشتي عظيمة عندما علمتُ بأنه، أي ياسين، عاش ستة عشر عاماً من شبابه الأول في السجن السوري، وانه ممنوع من السفر إلى الخارج. وبعد الدهشة سؤال: حسنا، كنت أقول لنفسي، ولكن ما الذي يجعل تلك الحرية على هذا القدر من الفرادة؟ ما الذي يجعلها عميقة متألقة تجرف في طريقها، وبتلقائية، نقاطاً سوداء في قلب الوعي، وأحياناً على ضفافه، تعطّل أفخاخا مقنّعة تقف على زاوية فكرة، أو واقعة، أو مفهوم… حرية تفتح المخيلة والعقل على مشاهد أخرى، فهماً آخر.
بقي السؤال معلقاً، حتى قرأتُ كتاب ياسين الحاج صالح الجديد: «بالخلاص يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية» (دار الساقي)؛ وهو كتاب يسرد فيه الأعوام التي أمضاها في السجون السورية، وكيفية صناعته لحريته بعقله وإرادته. كيف؟
بنزاهة، هي أيضاً استثنائية، ومن دون انتصارية ولا ضحاوية، يقرّ ياسين منذ البداية بأن سجن المسلمية الذي وقع عليه في ثمانينات القرن الماضي وجزء من تسعيناته، لم يكن على درجة مفرطة من القساوة. ليس مثل سجن تدمر، الذي يعتبره «عاراً على سوريا»، الذي كانت زنزاناته وأقبيته تستقبل خصوصاً سجناء من «الاخوان المسلمين». لم تكن ظروف سجن المسلمية رهيبة ولا تعذيبه فظيعا ومنتظماً. كان حظه انه سجين يساري، أي أنه أقل خطراً من الاخوان، حسب النظام، وبالتالي أقل تعرّضا للتدمير المنهجي، الجسدي منه والمعنوي. هذه الظروف، المخفّفة نسبياً، أفسحت مجالاً لياسين للتفكير بإيجاد إيقاع، يرسم وتيرة الوقت اللامتناهي الذي ينزله السجن عليه، مثل وحش كاسر، لا وجه له ولا معالم.
تنتظم اذن الحياة داخل السجن بعد تشوّش واضطراب طبيعيين، وتكون أولى «التوجهات» التي يعتمدها ياسين هي التفكير في كيفية تحرره من هذا السجن الذي أوجد فيه. ويكون جوابه لنفسه بأن أفضل السُبل الى ذلك هو «التحرر من سجون أخرى، نحملها في أرواحنا وعقولنا». وهذه السجون الأخرى هي: «سجن الأيديولوجيا»، أولاً، ثم «سجن الحزب» اليساري الذي اعتقل بسبب نشاطه فيه، وأخيرا «سجن الأنا». أي أنه منذ بداية إقامته خلف القضبان، كان عقله وإرادته متجهين نحو إفراغ كل ما في جعبته من أفكار أو تصورات، قد تحول دون تكوّن تلك الحرية الجديدة التي لا يعرف ملامحها الدقيقة، ولكنه يحدسها. تخليص العقل، تشذيبه، تنظيفه من «العبوديات» و»القيود» و»المطلقات» التي طغت على الحياة في «سجن الخارج»… تلك هي الخطوة الاولى التي تمسك بيد هذا التحدّي وتقوده نحو الحرية المشتهاة.
الخطوة الثانية، المتلازمة مع الأولى، مادتها الكتاب، القراءة، الكتابة. يحصل على الكتب في السجن وتكون البداية صعبة، نظرا لضعف التركيز، ثم شيئاً فشيئاً تصبح قراءة منتظمة ممتعة، وبظروف لا تقل غرابة وصعوبة عن أي سجن من سجوننا السمحاء. لماذا قراءة الكتاب؟ «تضاعف الحياة» يجيب، «تغيرنا»، «تمنحنا نفساً جديداً»، «تعيد تشكيلنا»، «تحافظ على العافية الجسدية»، تمنح «إدراكاً جديداً… ذاكرة إضافية». ما يسمح له، وسط انتهاك السجن للـ»خصوصية البرانية»، بأن يبني «خصوصية جوانية» و»استقلالاً ذاتياً لا يُنتهك». هكذا «يروض الوقت«، يسيطر على مصيره السجني، ويراكم طبقة فوق أخرى من الوعي، أو الحرية؛ فالاثنان سيان… يسميها «تجربة روحية ثقافية (…) نخسر أي حرية أخرى إن لم نجدها». تجربة هي بمثابة «طفولة ثانية»، إعادة تنشئة ذاتية على يد الكتاب الكبار، وقد انكب عليهم بشغف العالِم، الذي لا يفصل بين إيجاد أسماء للأشياء وبين الحرية.
ولكن هذا الجهاز المناعي الذي يبنيه ياسين حمايةَ لعقله من الجنون لم يكن ليكتمل لولا مجموعة ملحقة من الوقفات الداعمة لتوقه هذا، الضحك على رأسها. الضحك على النفس بالدرجة الأولى، كسلاح آخر في حربه ضد «سجن الأنا». فمن كان قادراً على رؤية نفسه إلى حدّ السخرية منها، فهو صاحب قوة معرفية كامنة، قادر على مضاعفة زوايا نظره، على كسر الغرور المعرفي، على نقد عقله، على تحريكه باتجاهات مختلفة. حماية الحرية من الأنا، ومن إنعدام بصيرتها، ذلك هو رهان هذا النوع من الضحك. من الطبيعي بعد ذلك أن يكرر ياسين على مدى صفحات كتابه رفضه للنظر إلى كونه واحداً من «ضحايا السجن»، واحد من أبطاله الأسطوريين…
بديهي، أيضاً، ان تكون نظرته لنفسه نقدية، يرى فيها عيوبا يصفها، يسرد فصولا عنها، يندم على بعضها؛ وأن يقولها بشكل طبيعي، من أن حياته قبل السجن كانت مشتتة مبعثرة، وجاء السجن ليعطيه فرصة إعادة تخيلها من جديد. هذا شعور غريب، تفسره الرؤية الخاصة التي يحملها ياسين للسجن السوري، الخالية من أي إدعاء. يقول ويصرّ في إحدى صفحات كتابه: «ان السجن في سوريا الثمانينات وأكثر التسعينات كان مكانا أكرم من أي مكان آخر لأي شخص مستقل الضمير ومعارض للنظام. كان ذلك زمنا بغيضاً، لا يصون المرء بقاءه فيه إلا إذا تخلّى عن كرامتة (…) كان ذلك الزمن هو العصر الذهبي للمخبرين وكتّاب التقارير»، زمن «المسيرات الشعبية العفوية المذلة والاستفتاء وبرقيات الولاء بالدم وصعود الوضعاء وانتشار مسلحي النظام (…) زمن من صور الطاغية ونشر الصور وعبادة الصور…». الجميع خارج السجن «هم الغرباء عن سوريا الأسد». هل نفهم بعد ذلك ما يقوله عن «حنينه» إلى أيام السجن…؟
إلا أن الوقفة الأهم، الحاسمة، هي تلك المتعلقة بالمجال الذي يتخيله ياسين لنفسه أثناء مسعاه هذا، أو في خاتمته. من ملاحظته الثاقبة حول السجناء القياديين، الذين يفقدون بريقهم ووجاهتهم لحظة دخولهم السجن: تتبخّر صفاتهم «القيادية» في هذه اللحظة، كأن السجن عراهم، أزال عن هالتهم ريش التلاعب والافتعال. القدرة على تبين الزعامة الحقيقية من تلك المصنوعة او المفبركة، تعود أيضا وأيضا إلى المكان الذي يختاره ياسين لنفسه: الهامش. يفضل الهامش، ويربطه بانعدام طموحاته السياسية، بعدم سعيه «للفوز يوما بموقع سياسي في المعارضة». الهامشية شرط من شروط الحرية المعرفية والفكرية. ارتباطها بسلطة ما، مهما صغرت، يبطل معناها. هكذا تكتمل الحلقات المترابطة للشرط الذي أوجده ياسين في السجن، وتكون النتيجة ما بلغه الآن من حرية.
ليس كل السجناء السياسيين على هذا القدر من الخصوبة. المؤكد أن ياسين لم يكن له ان يصنع حريته بيديه خلف القضبان، هذه النوعية تحديداً من الحرية، لو لم يكن متمتعاً بطبائع خاصة. نوعية الحرية من نوعية القوة التي خلقتها. قوة مختلفة أيضاً، ليست تلك التي تصرخ وتأمر وتخيف، إنما تلك التي تخلق من مقاوماتها للنوائب خيراً جديداً، قوة جديدة. ذكاء الإرادة ثانياً، تلك السيادة الحميمة على النفس، ذاك التفاهم الروحي معها، على ما عليها عمله انقاذا لها. ذاك المعنى الجديد الذي اخترعه الذكاء لكلمة «تكيف»؛ التكيف بمعنى خلقه الظروف التي تخرجه منتصراً على قدر غاشم، سرق منه شبابه وحرمه التمتع بما يعشقه. ثم أخيرا الحب الكبير الذي يكنّه للمعرفة. لولاه لما أمضى ساعات خلال العقد ونصف من السجن يقرأ، يتأمل، يراجع، يتقصي…. بالقليل الذي يوفره السجن.
إنها «حريته»، من صنع يديه. وليس بوسع أحد سرقتها. تماماً مثل حرية الشعب السوري التي صنعها في سجنه الكبير، فكانت طاقة بركانية تجرف حممها خوفاً كاد يخلّد همجية الديكتاتورية الأسدية.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل