الأخبار المروعة عن إسقاط سوريا لطائرة تركية الجمعة الماضية ألقت بظلالها على واقع وجود نمط أكبر وأطول مدى للهجمات الفتاكة التي تدعمها سوريا ضد تركيا عن طريق العدد المتزايد من الهجمات التي تتم داخل الأراضي التركية على يد “حزب العمال الكردستاني” القومي المسلح. ويدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد “حزب العمال الكردستاني” – الذي تعتبره الولايات المتحدة رسمياً منظمة إرهابية – سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر فرعه الكردي السوري المتمثل في “حزب الاتحاد الديمقراطي”. وقد نشبت في الأسابيع الأخيرة مناوشات بين القوات التركية والجنود غير النظاميين التابعين لـ”حزب العمال الكردستاني” داخل تركيا واشتدت بعنف مما أسفر عن مقتل العشرات من الجانبين. كما أن المواجهات المسلحة داخل سوريا بين “حزب الاتحاد الديمقراطي” وجماعات كردية محلية معارضة لنظام الأسد قد تسارعت وتيرتها أيضاً بحدة.
الخلفية
يشكل الأكراد ما يقرب من 20 بالمائة من السكان في تركيا (أكثر من 15 مليون شخص) و 10 بالمائة في سوريا (أكثر من مليونين). ومعظمهم جيران بسبب قربهما حدودياً من بعضهم البعض، ويشاركون نفس اللهجة الكورمانجية التي تكتب بالحروف الأبجدية الرومانية (التي لا تفهم إلى حد كبير من قبل معظم الأكراد العراقيين أو الإيرانيين الذين يتحدثون باللهجة السورانية أو لهجات أخرى، والتي تُكتب بأحرف عربية). ويتركز أكراد سوريا بشكل كبير في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، حول القامشلي وعدد قليل من المدن الرئيسية الأخرى. وجميعهم تقريباً من المسلمين السنة، ولطالما تعرضت طموحاتهم – نحو المزيد من الحرية والاعتراف باللغة والثقافة الكردية – للتجاهل أو تعرضوا لقمع نظام الأسد إلى درجة أكبر من التمييز الذي يواجهه الأكراد في تركيا.
ومع ذلك، لعب الأكراد في سوريا حتى الآن دوراً محدوداً في الانتفاضة السورية. ورغم أن غالبية الاحتجاجات اليومية ضد النظام تحدث في المنطقة البعيدة التي يسكنها هؤلاء الأكراد إلا أن القوات السورية قد امتنعت في أغلب الأحوال عن اتخاذ إجراء مباشر ضدهم. وبدلاً من ذلك تتقدم الميليشا الكردية التابعة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” – بوصفها أداة لتطبيق القانون هناك – بوتيرة متزايدة. وثمة حالة خاصة تدلل على ذلك ناحية الغرب من المناطق الكردية السورية الرئيسية وذلك في معقل كردي حول منطقة البلدة الكبيرة “عفرين” بين الحدود التركية والمداخل الشمالية لمدينة حلب. ويتردد أن عدة آلاف من ميليشيا “حزب الاتحاد الديمقراطي” لديها ما يصل إلى 200 نقطة تفتيش أو أكثر. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية اعترض هؤلاء المسلحين العديد من الغارات من قبل المعارضة سواء من “الجيش السوري الحر” أو المنشقين الأكراد السوريين. وهذه الوظيفة التمشيطية لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” غير المعروفة والبعيدة عن المراكز الرئيسية للتعبئة الكردية على كلا جانبي الصراع المدني السوري إنما تساعد على تفسير السبب في أن النشاط المعادي للنظام الذي شهدته حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، هو أقل من ذلك الذي شهدته العاصمة دمشق.
وعلى الجانب الآخر للطيف السياسي الكردي السوري نجد أن مجموعات متنوعة معادية للنظام معظمها منتظمة على نحو فضفاض في “المجلس الوطني الكردي” السوري يغلب عليها الشعور بأنها مهمّشة من قبل فصائل المعارضة السورية الأخرى كما أنها نافرة عن الرعاة الأتراك لهذه الفصائل. ففي نيسان/أبريل “انسحب المجلس الوطني الكردي” رسمياً من مظلة “المجلس الوطني السوري” الذي يمثل المعارضة في سياق مؤتمر مثير للجدل عُقد في اسطنبول، حيث رفض فيه “المجلس الوطني السوري” مطالبات كردية بــ”لامركزية سياسية” في سوريا ما بعد الأسد، ويتردد أن ذلك حدث بإصرار تركي. وفي شهر أيار/مايو، استُقبل وفد من “المجلس الوطني الكردي” في واشنطن من قبل مسؤولين أمريكيين نصحوا هؤلاء الأكراد السوريين بالتركيز على الإطاحة بالأسد أولاً، وتأجيل أي نقاش حول الحكم الذاتي الكردي أو الحقوق الثقافية حتى وقت متأخر جداً.
توترات جديدة حول القضايا الكردية تزعج المنطقة
لكن التوترات في المناطق الكردية وحولها في سوريا تتصاعد الآن، كما تتغير الصورة الأكبر وفقاً لذلك. وفي محاولته الضغط على تركيا، كثف النظام السوري دعمه لـ”حزب العمال الكردستاني” إلى درجة أن الكثير من مقاتليه على الجانب العراقي من الحدود – في “قنديل” الجبلية التي هي مساحة يكتنفها الغموض – يقال إنهم قد أتوا من سوريا. والبعض، وفقاً لمصادر محلية مطلعة، قد أعيد مرة ثانية مؤخراً من العراق للمساعدة على إحكام سيطرة “حزب الاتحاد الديمقراطي” داخل وطنهم الأصلي في “كردستان الغربية” (أي سوريا).
وحيث زاد نشاط “حزب العمال الكردستاني” بصورة عامة ضد تركيا، كان رد فعل أنقرة هو كالعادة استخدام القوة. فبعد يوم واحد فقط من فقد الأتراك طائرة من طراز “إف 4” بنيران سورية استخدمت تركيا طائراتها الحربية لدك مواقع “حزب العمال الكردستاني” في العراق. والاختلاف الرئيسي عن الموقف السوري بالطبع هو أن تركيا كانت تعمل ضد “حزب العمال الكردستاني” في العراق لسنوات عديدة ولم يستثر ذلك قط تقريباً أكثر من مجرد احتجاج شكلي (إذا كان كذلك) إما من الحكومة العراقية في بغداد أو من حكومة إقليم كردستان في أربيل. ولذا تنظر تركيا بشكل متزايد إلى أكراد العراق بأنهم شركاء بينما ترى سوريا كخصم في معركتها ضد “حزب العمال الكردستاني”.
وفي نفس الوقت تعمل المعارضة السورية – المسلحة وغير المسلحة على حد سواء – على تقديم اقتراحات جديدة للأكراد. ففي 10 حزيران/يونيو اختار “المجلس الوطني السوري” وبشكل غير متوقع كردياً سورياً هو عبد الباسط سيدا رئيساً جديداً له. وفي حين يعتبر سيدا على نطاق واسع بأنه مرشح تسوية بدلاً من أن يكون نصيراً للحقوق الكردية، فإن اختياره هذا إنما يساعد على الأقل على مواجهة التصريحات المفرطة المعادية للأكراد من قبل المراقب العام لـجماعة «الإخوان المسلمين» السوريين رياض الشقفة. والأهم من ذلك دعا “الجيش السوري الحر” في 19 حزيران/يونيو، “إخواننا الأكراد” إلى الانضمام إلى صفوفه، و “العمل يداً بيد لوضع حد للتمييز ضد … جميع السوريين، بغض النظر عن خلفيتهم الدينية أو العرقية”.
وعلى الرغم من أنه لا يبدو حتى الآن أن أكراد سوريا مكترثون لقبول هذه الدعوة بصورة جماعية إلا أن نظام الأسد ووكلاءه الأكراد لا يتركون مجالاً للاحتمالات. فقد أقام “حزب الاتحاد الديمقراطي” نقاط تفتيش في جميع أنحاء القامشلي كان يختطف فيها ويضرب من يشتبه في كونه من النشطاء المعارضين للأسد أو غيره من الذين يٌتصور بأنهم معارضين. وفي 25 حزيران/يونيو قام وكلاء “حزب الاتحاد الديمقراطي” باعتقال كبار أعضاء “المجلس الوطني الكردي” الذين شكلوا وفداً كان في طريقه لمقابلة المسؤولين الأكراد المتعاطفين معه وغيرهم عبر الحدود في العراق.
كما أن موقف “حكومة إقليم كردستان” تجاه أكراد سوريا يعتبر هو الآخر جزءاً ملتبساً من هذا اللغز المعقد. فمسؤولي هذه الحكومة على كافة المستويات، وربما معظم الاكراد العراقيين عموماً، قد عارضوا بقوة نظام الأسد وحلفاءه الأكراد في “حزب الاتحاد الديمقراطي”. وخلال العام الماضي استضافت “حكومة إقليم كردستان” مؤتمرين كبيرين للمعارضة الكردية السورية في أربيل، بالإضافة إلى المئات من الناشطين المناهضين للنظام السوري الذين هم في المنفى لأجل غير مسمى، وكذلك الآلاف من اللاجئين السوريين العاديين. وفي الوقت ذاته يخشى زعماء هذه الحكومة من مضايقة جارتين أكثر قوة على طول الحدود المشتركة مع سوريا وهما: الحكومة العراقية المركزية في بغداد التي لا تزال تؤيد الأسد، والحكومة التركية التي تدعم المعارضة السورية وتعمل بشكل ودود مع “حكومة إقليم كردستان” رغم رفضها حتى الآن للطموحات السياسية الكردية داخل سوريا (وداخل تركيا أيضاً). ومع ذلك فلو أعادت تركيا تقييم تلك المواقف فإن “حكومة إقليم كردستان” ربما تغير موقفها أيضاً وتعمل بشكل أكثر جرأة بما يتفق مع تفضيلاتها، أي بدعمٍ أكبر للمعارضة السورية الكردية.
هل يمكن لتركيا العمل مع الأكراد ضد الأسد و”حزب العمال الكردستاني”؟
إن هذه هي بالضبط وجهة الأشياء هذه الأيام. أولاً: فيما يتعلق بما لديها من 15 مليون أو أكثر من المواطنين ذوي الأصول الكردية تواصل الحكومة التركية إعادة النظر في نهجها وإن كان ذلك بشكل تدريجي وغير منتظم. وقد أعلنت أنقرة مؤخراً عن تشريعات جديدة تسمح بالمزيد من التعليم باللغة الكردية وإنشاء محطات وقنوات أكثر تبث باللغة الكردية. ومن منظور كردي تمثل هذه الإشارات خطوة أخرى صغيرة على طريق الوفاء بالمطالبات العامة للاعتراف بهم وحصولهم على حقوق ثقافية متساوية. ومع ذلك تؤكد هذه التحركات أن تركيا تقوم بالفعل بإعادة معايرة إيجابية لسياستها الرسمية نحو بعض القضايا الكردية حتى وإن استمر موقف أنقرة المتشدد ضد “حزب العمال الكردستاني”.
إن التغير يأخذ أيضاً مجراه فيما يخص موقف تركيا من القضايا الكردية السورية. فحتى الآن تتردد تركيا في مواجهة سوريا على نحو جلي، وهذا يعود في جزء منه من الخوف من ردود فعل كردية عكسية، أي المزيد من هجمات “حزب العمال الكردستاني” ضد تركيا مدعومة من النظام السوري اليائس، فضلاً عن المزيد من مطالبات الأكراد الآخرين بمنطقة كردية مستقلة تكون هذه المرة داخل سوريا حالما يضعف هذا النظام. لكن بالنظر إلى الاستفزازات السورية الأخيرة ربما تقرر الحكومة التركية أن تعمل مع أكراد سوريا ضد الأسد وليس العكس – أو على الاقل ألا تقف حائلاً دون بعض التطلعات السياسية الديمقراطية للأكراد السوريين. ومن الملاحظ أن المشاورات الداخلية لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان بشأن إسقاط الطائرة قد شملت التقاط صور رمزية جداً وغير معتادة مع زعماء “حزب السلام والديمقراطية” – الحزب السياسي الكردي الرئيسي في تركيا.
التداعيات على السياسة الأمريكية
إن هذا الحراك المتغير بشكل سريع يتيح للولايات المتحدة فرصة لاتباع دبلوماسية حاذقة. لقد حان الوقت لأن تقوم واشنطن بتكثيف مساعيها للتوسط لإيجاد فهم أفضل بين كل من تركيا و “المجلس الوطني الكردي” و”المجلس الوطني السوري” و”الجيش السوري الحر” أو غيرها من مؤسسات المعارضة السورية. وستكون المحصلة هي مشاركة كردية أقوى تصبح هي القشة التي تقصم ظهر نظام الأسد وخاصة لو أن نموذجهم قد ساعد أيضاً الأقليات السورية الرئيسية الأخرى على التأسي بهم وتبديل المواقف. والآن وحيث يبدو أن تركيا هي أكثر ميلاً إلى استخدام هذه الورقة الكردية فإن الأمر لن يشق دبلوماسياً على أي من جهود واشنطن الأخرى لتنظيم إجماع دولي واسع لأجل نقل فوري للسلطة في سوريا.
ديفيد بولوك هو زميل كوفمان في معهد واشنطن.