تبلَّغ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي يرتبط بعلاقات وثيقة بموسكو، أن الدبلوماسية الروسية بدأت محادثات جدّية مع واشنطن لوضع إطار حل للأزمة السورية، من ضمن سلة عناوين مطروحة للتفاوض الروسي – الأميركي تبدأ بالمصلحة الاستراتيجية الروسية على البحر المتوسط وتمر بوضع جمهوريات القوقاز ولا تنتهي عند الدرع الصاروخي. وفَهِمَ جنبلاط من الدبلوماسي الروسي أن «معاهدة دايتون» التي أنهت النزاع المسلّح في البوسنة والهرسك عام 1995 سيتم اعتمادها أساساً للحل، من دون تحديد أفق زمني.
على أن تشبيه ما جرى في البوسنة والهرسك بما يجري اليوم في سوريا، يذهب إلى استحضار مسار أزمة البلقان ومحاولة إسقاطها على الأزمة السورية. فالحرب التي دارت رحاها في البوسنة والهرسك دامت ثلاث سنوات، وأدت إلى سقوط نحو 100 ألف قتيل وعدد مشابه من الجرحى، ونزوح نحو مليوني شخص في ظل عجز المنظمة الدولية عن حل الصراع وحماية المدنيين. والأخطر أنها شهدت عمليات تطهير عرقي ومجازر جماعية كان أفظعها مجزرة سربرنيتشا في آب 1995 على أيدي القوات الصربية، التي أودت وحدها بحياة نحو 8 آلاف شخص ونزوح عشرات الآلاف من المسلمين من المنطقة.
على أن تلك المجزرة دفعت يومها بـ «الناتو» إلى شن ضربات جوية على القوات الصربية، ولاحقاً إلى ضغط غربي، ولا سيما أميركي، عبر الموفد الأميركي ريتشارد هولبروك لفرض حل، وإرغام الصرب على وقف إطلاق نار وبدء مفاوضات في مدينة دايتون بين أطراف الصراع (البوسنيون والصرب والكروات) أدت في نهاية الأمر إلى اتفاقية دايتون للسلام برعاية مجموعة الاتصال التي شُكّلت لحل أزمة البوسنة (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا وروسيا والمبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي). وقضت معاهدة السلام إلى تقسيم البوسنة والهرسك إلى جزءين متساويين نسبياً هما: فيدرالية البوسنة والهرسك وجمهورية صرب البوسنة بحماية دولية.
ومحاكاة «معاهدة دايتون» تؤول إلى الخروج بجملة استنتاجات، لعل أبرزها أن الأزمة السورية ستكون طويلة الأمد وسط تحوّلها إلى صراع دولي على الأرض السورية. فموسكو باتت على يقين أن نظام الأسد فقد قدرته على استعادة سيطرته على الأراضي السورية، وأن جزء منها بات بالكامل تحت سيطرة قوات المعارضة المدعومة عربياً ودولياً. وهي تريد للنظام السوري أن يبقى متماسكاً بعدما تحوّل إلى ورقة روسية بامتياز، فتقهقره يعني إضعافها في أحد ملفات تفاوضها مع الولايات المتحدة. وتُبدي في هذا الإطار قلقاً من انفلات الأمور، مع مجاهرة الرئيس السوري بشار الأسد وفريقه، بسلوك درب الحل العسكري، وحصول مجازر جماعية تحمل سمات التطهير العرقي، الأمر الذي لا يستفز المجتمع الدولي فحسب، بل يترك انعكاساته على المجتمعات المسلمة في وسط آسيا، وعلى مسلمي روسيا تحديداً.
ويكشف في هذا الإطار قيادي سابق في الحزب الشيوعي اللبناني زار روسيا مؤخراً، عن وجود تباين بين وزير الخارجية سيرغي لافروف ورئيس جهاز الاستخبارات الروسية، الذي يتوجس من استمرار المجازر وأعمال القتل في سوريا، ويضغط في اتجاه إيجاد حل سريع قبل خروج الوضع عن السيطرة، وسط تخوّف من أن يؤدي الدعم العسكري والتقني الدولي للجيش السوري الحر إلى إحداث تغييرات كبيرة على الأرض تُفقد الروس أهمية هذه الورقة. هذا التوجّس يحض الدبلوماسية الروسية على تعزيز خطة أنان عبر تشكيل مجموعة اتصال دولية في شأن الأزمة السورية، سواء بمؤتمر دولي في موسكو أو من دون هذا المؤتمر، وسواء بمشاركة إيران أو من دونها في مجموعة الاتصال، للوصول إلى تثبيت وقف إطلاق نار يحافظ على واقع الأرض وفق ما هو عليه اليوم، والتزام القوى الدولية الداعمة للمعارضة على وقف إمداد الجيش السوري الحر بالعتاد والسلاح، ولا سيما أن ثمة اقتناعاً روسياً بأن الأفق الزمني للحل السياسي لن يكون قريباً ما دامت الأزمة السورية تشكل إحدى أوراق التفاوض الروسي – الأميركي على الملفات الأهم بالنسبة لموسكو، والتي ترغب في إنجاز صفقة مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، لكنها تدرك أن الصفقة راهناً قد تذهب أدراج الرياح إذا أخفق أوباما في العودة إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ما يعني أن ما تطلبه روسيا من ضمانات يحتاج إلى انتظار نتائج الاستحقاق الانتخابي الأميركي المزمع إجراؤه في الخريف المقبل.
وثمة استنتاجات أخرى في مقاربة آليات حل أزمة البوسنة على الوضع السوري، قوامها سقوط سيناريو الحل اليمني المرتكز على تنحي الأسد مقابل ضمانات له، وتسليم السلطة إلى نائبه، وارتكاز البحث في مستقبل النظام السياسي على كيفية ضمان حق القوميات والإثنيات عبر صيغ قد تمتد من الحكم الذاتي إلى الكانتونات والدويلات المذهبية تحت إشراف دولي، من دون أن يستبعد إمكان أن يتحوّل الأسد محاوراً عن الجانب العلوي في أي تسوية مقبلة على غرار قبول الغرب بترؤس الرئيس الصربي آنذاك «سلوبودان ميلوسيفيتش» الجانب الصربي في مفاوضات دايتون رغم الموقف السلبي منه، وإن كان انتهى به الأمر في لاهاي مُتهَماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
أما حلم موسكو في استنساخ دور لها في المسألة السورية شبيه للدور الأميركي في حل أزمة البلقان، فهو بمثابة تأكيد المؤكد، في ظل رغبتها في استعادة – ولو القليل – من أمجاد الماضي في زمن القطبين. وهي في هذا السياق تسعى إلى الإفادة من الضغوطات الغربية التي تُمارس على إيران حيال ملفها النووي لدفع طهران إلى حضنها بغية تجميع مزيد من أوراق التفاوض بيدها، ذلك أن زيارة لافروف إلى طهران كانت تهدف إلى الحصول على تعهدات إيرانية بالسير بالحل الذي ستتبناه موسكو حيال الأزمة السورية في مقابل موقف إيجابي من مجموعة 5+1 حيال مطالب طهران حول ملفها النووي، ولا سيما اعتراف المجتمع الدولي بـ «حقها» في امتلاك التكنولوجيا النووية وتخصيب اليورانيوم، والإجازة لها بنسبة التخصيب المسموح بها وفق الاتفاقات الدولية.
إلا أن السؤال الذي يدور في الأروقة المختلفة هو عما إذا كان على السوريين أن يدفعوا ثمناً باهظاً من زهق للأرواح في مجازر وتصفيات وعمليات تطهير عرقية ومذهبية وتهجير جماعي قبل أن تدنو ساعة الحل على وقع الروزنامة الروسية – الأميركية.
rmowaffak@yahoo.com
كاتبة لبنانية
اللواء
«معاهدة دايتون» إطار حل للأزمة السورية في الخريف!مذبحة الحولة كنا نسمع عن مجازر دير ياسين فتخرج المظاهرات. كنت طالبا صغيرا فوق الست سنوات ونحن نهتف: بن غوريون مثل القط هو ودالاس صار ينط! أنا الآن رجل تجاوز الستين، فأرى عمق الأزمة الداخلية؛ فقد كانت المذبحة في الحولة مع نهاية ماي 2012م في سوريا تنسي كل مجازر بني صهيون. ويتفرج بنو صهيون على العرب وهم يقتتلون ويفتكون ببعضهم بما لا تفعله الضواري في الغابات. فعلا، يمكن ضغط سوريا في ثلاث كلمات: أسد وغابة وعصابة. غابة تسرح فيها الضواري تفترس الضعاف بدون قانون وحرمة، ومتى كان قانون الغابة غير أن القوي يفترس… قراءة المزيد ..