بدلا من أن تستجيب للمقترحات والفرص التي وفرتها لها الدولة المرة تلو الأخرى، للدخول في حوار غير مشروط من أجل تحقيق الأمن والإستقرار والتنمية والرخاء للجميع برؤى وطنية نابعة من ظروف البحرين الخاصة وإرثها السياسي وتاريخها التليد وعلاقات أبنائها وطوائفها المتعددة، نرى أن الجماعات التي تسمي نفسها بقوى “المعارضة البحرينية” ومشتقاتها، توجه أنظارها إلى الخارج بحثا عن صيغة مصالحة وطنية تتناسب مع شروطها وأجنداتها الذاتية، كي توهم العالم بجديتها في الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها وأنصارها فيه يوم أن تخيــّلت في لحظة غرور ونزق أنّ بإمكانها تحقيق ما حققته احتجاجات وإعتصامات الجماهير في تونس والقاهرة.
بدأت القصة يوم أن روجوا للنموذج الجنوب إفريقي في السلام والمصالحة، قبل أن يتنبهوا إلى أن هذا النموذج أكبر من حجمهم، وأن لا أحد فيهم،- بمن فيهم كبيرهم المعمم،- يمكن أن يصل إلى قامة الزعيم العظيم نيلسون مانديلا في وطنيته، ونقاء سريرته، وهالته السمحة، وعشقه لبلده، وتاريخه النضالي، وكراهيته للعنف والثأر والإنتقام، وزهده في الحكم. ثم جاء دور إحدى جمعيات المعارضة الذيلية لاقتراح وترويج النموذج المغربي في “العدالة الإنتقالية” كنموذج صالح للتطبيق في الحالة البحرينية، قبل أن يكتشفوا أن المغرب الشقيق بلد موحد طائفيا، وأن المـَلـَكية فيها موضع إجماع يصل إلى حد التقديس، وبالتالي فظروفه مختلفة عن ظروف البحرين.
غير أن محاولاتهم، رغم الفشل تلو الفشل، استمرت. وهكذا صرنا منذ بعض الوقت أمام دعوة متكررة لاستنساخ التجربة الآيرلندية في السلام والمصالحة! نعم التجربة الآيرلندية القادمة من وراء البحار والمحيطات البعيدة، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن أسباب طرح النموذج الإيرلندي، على الرغم من حقيقة إختلاف الصراع في آيرلندة الشمالية عنه في البحرين سواء لجهة الأسباب أو المسببات أو الظروف والخصوصيات والمراحل التاريخية. ففي الأولى، نحن أمام بلد مقسم إلى شمال ذي غالبية بروتستانية يحكمه التاج البريطاني، وجنوب مستقل منذ عام 1920 ذي غالبية كاثوليكية، بينما البحرين بلد موحد مستقل ذو سيادة. وفي الأولى دارت حرب طائفية اهلية بشعة راح ضحيتها الآلاف من البشر، وتقطعت على هامشها أواصر العلاقات ما بين طائفتيـــها المذهبيتين على مدى 30 عاما، وأسست لكانتونات طائفية يسودها الرعب والخوف، بل تسببت في إقامة جدار في “بلفاست” العاصمة للفصل ما بين المؤيدين لبريطانيا من البروتستانت والقوميين المؤيدين للجيش الجمهوري، ولحماية السكان في كل جهة من الأحجار وقنابل المولوتوف المنطلقة من الجهة الأخرى. هذا بينما لا يزال البحرينيون يتواصلون فيما بينهم رغم كل ما حدث على يد المخربين والعابثين بأمن الوطن منذ 14 فبراير 2011، ولم تتأسس جدران فصل طائفية أو عنصرية أو مذهبية في مناطقهم رغم محاولات البعض صب الزيت على نار الفتنة.
وفي آيرلندة الشمالية مارست السلطة الحاكمة (بريطانيا العظمى) اقسى أنواع القمع والمطاردة بحق نشطاء ما كان يعرف بـ”الجيش الجمهوري الآيرلندي”، بل أنها في سبيل قمع إنتفاضة الآيرلنديين ضدها لجأت في وقت من الأوقات إلى حل برلمان آيرلندة الشمالية وإدارة الأخيرة مباشرة من لندن، بينما لم تلجأ السلطات البحرينية إلى عـُشر ما فعلته السلطات البريطانية، بدليل أن العشرات من قادة “المعارضة”، ومن الزعماء الدينيين الموجهين لهم، أحرار يتحركون ويسافرون ويعودون ويتظاهرون، بل ويعتلون المنابر إسبوعيا ويظهرون في القنوات الفضائية المعادية يوميا لشتم النظام دون أن يحاسبهم أحد على تحريضهم وبذاءاتهم وإستغلالهم للناشئة في أحداث العنف والفوضى.
وأخيرا فإن الإشكال في آيرلندة له تاريخ طويل تعود جذوره إلى ما قبل 700 عام، فيما الإشكال في البحرين تعود جذوره إلى أواخر السبعينات فقط حينما انتصرت الثورة الخمينية في الجارة إياها، فكان ذلك إيذانا بتصدير المشاكل والأزمات إلى البحرين وسواها من أقطار الخليج العربية، وإعادة تسميم العلاقات ما بين الطائفتين السنية والشيعية، فضلا عن تحريض بعض القوى للإنقلاب على أنظمتها الشرعية.
نأتي الآن للرد على السؤال المؤجل حول دوافع تمسك “المعارضة البحرينية” بالنموذج الإيرلندي. وهذا الرد بسيط، ولا يحتاج إلى عناء كبير، وينحصر في عبارة واحدة هي أن ذلك النموذج، في حال الأخذ به، يحقق معظم مطالب المعارضة، وعلى رأسها بطبيعة الحال المطمح الأعز والأغلى على قلب قادتها وهو “اقتسام السلطة” و “ترؤس الجهاز التنفيذي”!
فاتفاقية السلام والمصالحة الآيرلندية لعام 1998، التي شاركت في صياغتها بريطانيا وجمهورية إيرلندة وآيرلندا الشمالية (بفصيليها الكاثوليكي والبروتستانتي) لئن كان من أسباب نجاحها الإصرار أولا وقبل كل شيء على الإتفاق على نبذ العنف نهائيا وإلقاء السلاح فورا، ولئن وردت فيها موافقة جمهورية آيرلنده على إلغاء المادتين 2 و3 من دستورها، (مادتان تشددان على ضرورة العمل من أجل توحيد كامل التراب الآيرلندي)، وموافقتها على إحترام حق كافة الآيرلنديين (شمالا وجنوبا) في إختيار مكان إقامتهم وعملهم، فإنها اشتملت أيضا على أمور أخرى، بعضها هي من صلب طموحات “المعارضة البحرينية” الطائفية ومشتقاتها مثل: تشكيل برلمان جديد وفق قواعد ودوائر إنتخابية مستحدثة، وتشكيل حكومة جديدة بقيادة زعيم الأغلبية البرلمانية، مع ترك منصب نائب رئيس الحكومة لشخصية من الأقلية، والسماح بإنخراط ميليشيات المعارضة (مقاتلو الجيش الجمهوري) في الشرطة وأجهزة الأمن، واتخاذ خطوات سريعة لإطلاق كافة المعتقلين من السجون في لندن وبلفاست.
وأعتقد جازما أن قوى “المعارضة البحرينية” غير الرشيدة قد مرت على النموذج البورمي للسلام والمصالحة مرور الكرام، دون أن تتوقف عنده. وهذا بطبيعة الحال لم يكن غريبا، لأن النموذج المذكور لا يحقق لها تطلعاتها الشرهة للإمساك المطلق بمقاليد الأمور، وبالتالي التحكم في رقاب المكون الآخر، والتماهي مع سياسات الدولة الطائفية الواقعة على الضفة الأخرى من الخليج، ولأن النموذج البورمي، الذي أشاد به العالم أجمع كونه يجسد موقفا رشيدا ورائعا للمعارضة ممثلة في زعيمتها الكبيرة “أونغ سون سوتشي”، لا يمنحها سوى حرية العمل العام، ومجموعة من المقاعد النيابية في برلمان يسيطر عليه خصومها السياسيون سيطرة مطلقة، إضافة إلى حقيبة وزارية يتولاها زعيمها.
باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh