حتى الآن، حملت الثورات العربية الاسلام السياسي الى أعالي سلطة الدولة، أو تكاد، بعدما كان قد سيطر فكريا وسلوكيا على عقل المجتمع وقلبه. ما كان علينا ان نتفاجأ، ونتساءل ببراءة، عن اسباب صعود الاسلام السياسي. هو أصلا صحا من زمان، سماها «صحوة اسلامية»، وليس من دون براهين. لم يكن مجرد فزاعة ترفعها التسلطيات التي غذته بكل ما اوتيت من مخيلة وفذلكة. كان صعودا حتميا، أعقب سقوط تلك السلطات، عندما ترجم المجتمع إذعانه السلوكي اليومي الى لغة السياسة والاقتراع والصويت. الهوى كان اسلاميا، في العمق. كنا فقط نتغاضى عنه، واحيانا نتعاطف، كما نفعل مع المضطهدين من انظمة سئمناها.
ها هو الآن يتدرج نحو الحكم. وسلاحه الثقيل مصبوب، حتى هذه اللحظة، التي قد تدوم، نحو النساء والاقليات الدينية تحديدا. ثورة، لم يفجرها قادته ولا قادوها، وضعتهم، بقدرة التاريخ، وجها لوجه مع الارث الحداثي الموروث عن عهد كرهوه، لشدة ما حرمهم من ادوار. لو كان بوسعهم الانقلاب على كل هذا الارث، لما قصّروا. لكن ركوب الجمال أو اعتماد الحمام الزاجل، والاستغناء عن الانترنت والسيارة والموبايل… يلحق الضرر بمسعاهم الى مزيد من السلطة. تبقى الحلقة الأضعف من هذه الحداثة، التي لم تطلها غير الشظايا: النساء، الاقليات، الحريات، الابداع…. النساء في المقدمة، هن الأضعف في الحلقة الضعيفة. هن بالاحرى في مقدمة المدفع المصوب على المناحي الحداثية غير التكنولوجية. النساء معنيات مباشرة بهذه الهجمة؛ خصوصا أولئك النسويات، على مختلف اوجههن، الحداثية اليسارية الليبرالية العلمانية، او حتى اولئك اللواتي لا يستسغن التسمية النسوية او ينفينها ببساطة. هن معنيات بما يلوح في الافق القريب من تهديد واضح لاقصائهن من المجال العام، بعدما تحققت اولى خطوات هذا الاقصاء بالحجاب والنقاب… واليوم تتوالى اشارات هذا الاقصاء، بنوع من الهجوم الفوضوي، ولكنه ذو تأثير سلبي بالغ على مجمل ما بلغته النساء العربيات، خصوصا اولئك اللواتي طالهن رذاذ الحداثة، تعليما او عملا او انخراطا سياسيا، او حتى على فرديتهن وعواطفهن ورغباتهن.
فما هي قراءات هذه الشريحة من النساء العربيات لهذه الحالة؟
هناك اولا القراءة الغاضبة الساخطة، الساخرة الهجّاءة. هي ردة فعل عفوية ومشروعة على تهديد لمكتسبات، هي بالاصل ضئيلة، تصدر عن اكثر النسويات تشبثا بهذه المكتسبات، أو على الاقل تشكيكا بالمسار التقدمي للحداثة، المكابرات الغاضبات من تراجعه. هذه القراءة سجالية صاخبة، ولكنها غير منتجة على المدى الابعد. صاحباته القليلات والآخذات بالتقلّص، نظرا لطبيعة المرحلة، سوف يركنّ الى المرارة بعد حين. لهذه المقاربة منحيان: الاول ناجح، وترجمته نزول النساء التونسيات كطليعة الرافضين لتطبيق الشريعة الاسلامية، ونجاح تظاهراتهن في تراجع حزب «النهضة» الحاكم عن هذا المشروع، حتى إشعار آخر. الثاني فيه شيء من العقم اذ يندّد بالثورات، يعتبرها سقطة تاريخية، تراجعا حداثيا ما كان يجب ان يحصل.
القراءة الثانية التي تريد لنفسها ان تكون عضوية في نضالها، ان تنظّم وتجنّد او تقود. ولتنجح في ذلك عليها ان تساير، ان تحترم، ان تذعن… لكل مترتبات الاسلامية السياسية، على الاقل الخارجية منها. اذ يستحيل الآن التوجه الى الجماهير المقصودة بهذا النضال من دون تبني مرجعيتها وهندامها ومسلكياتها الاصولية. اصلا، قبل الثورات، كانت الناشطات غير الاسلاميات يقمن بذلك: يتحجبن، يبسملن، يرجعن للآيات والاحاديث الكريمة الخ. انه تقليد رسا مع بداية الثمانيات وصارت له وجوه وشخصيات.
القراءة الثالثة، يمكن تسميتها بالـ»رمزية»، لكثرة ما تتوسل نساء قمن باعمال رمزية، أو كن ضحية لها. هي قراءة متفائلة، تأخذ هذه المؤشرات المناقضة للصعود الديني وتبني على هذه الاعمال ما تتصوره حصانة ضد الهجمة على النساء بعد الثورات: المصريتان علياء المهدي، بعريها على الشبكة، وسميرة ابراهيم بالدعوى التي رفعتها ضد القوات المسلحة بسبب «فحصها للعذرية»؛ اليمنيتان تواكل كرمان الحاصلة على «النوبل» للسلام وفاطمة القيس المنقبة الحاضة ابنها الجريح (حصل صاحب عدستها الاسباني صاموئيل اراندا على جائزة «ورد برس فوتو»)؛ او التونسية خولة الرشيدي التي انتزعت العلم السلفي من يدي صاحبه من على سقف جامعة منوبة، واعادت اليه العلم التونسي. القراءة «الرمزية» مسرحها المجال العام. وهي تحصن المخيلة النسائية من المحاولات الحثيثة لطردها منه. هذه ضرورية ولكنها غير كافية، بل قد لا تنمو الا في مناخات الاقصاء، من دون ان تحدّ من ذيوله على المدى القريب.
القراءة الرابعة تستند الى الانتاج الفكري الذي تركته لنا النسوية الاسلامية. ظهرت النسوية الاسلامية في تسعينات القرن الماضي واشتد عودها بعد 11سبتمبر 2001، وكل اسماؤها اللامعة من المسلمات، بنات المهاجرين، في «الدياسبورا» الغربية، امينة داوود (الجنوب افريقية)، اسماء برلس (الباكستانية) عزيزة الهبري (من اصول لبنانية). انطلاقتهن بدأت عندما برزت الرغبة عندهن بالاحتفاظ بالمكتسبات النسوية دون الاخلال بحريتهن الدينية وممارستهن لطقوسها وعباداتها ومعاملاتها. انصبّت جهودهن الفكرية على ايجاد قراءات تمكنهن من البقاء ضمن الجماعة الأصلية، حفاظا على هويتهن، دون اهدار المكتسبات النسوية الغربية الآتية من المجتمع الاكبر، حفاظا على حريتهن. الهوية والحرية: اسلام مختلف ونسوية مختلفة. يجدن في النسوية دَينا عليهن، لكنهن ينقدن تمحورها حول نفسها، وادعائها الكونية.
ما يهمنا اساسا في النسوية الاسلامية هو الجهد الاجتهادي النظري الذي بذلته رائداتها بغية تحقيق غرضها هذا: المفتاح الذي لا تترددن بنسبه الى الارث النسوي، هو مفهوم البطريركية؛ وهو يسمح باعادة قراءة النصوص الدينية بالاعتماد على مفهومّي العدل والمساواة العابرَين لها. ولكن هناك اشكاليات تطرحها المقاربة النسوية الاسلامية هذه، نعتقد بأن الوقت حان لتخوض العربيات غير الاسلاميات فيها: الاشكالية الاولى هي اللغة المعتمدة، الانكليزية، لقراءة النص الديني او الكتابة عنه. هذه القراءة المترجمة للنص الديني تعفيهن من مشقة الخوض في متنه وتلابيبه. طبعا الحالة الدينية المنتصرة سوف تمارس دورها الرقابي على هكذا حرية مع النص، بل قد تبقى النسوية في مربعها الجغرافي الاولي، في الغرب «الآمن»، حيث الحرية الفكرية الاقوى، على الرغم من كل نسبيتها.
والنسوية الاسلامية تمارس قياسا غامضا. تقول ان القراءات السائدة حول الاسلام هي قراءات بطريركية، وان مفهوم البطريركية هذا ورثته عن النسوية الغربية، فتقرر بناء على مبادئ عامة متضمنة في القرآن الكريم، بأن الاسلام تمت قراءته قراءة بطريركية. أي انها تريد ان تقيس بأدوات غير متساوية: واحدة من صنع البشر، مفهوم «البطريركية»، والاخرى من صنع الله، اي النصوص الدينية.
ايضا، في هذه القراءة يُرفع «الايجابي» من الارث الذي تود النسوية الاسلامية اعتماده، الى المرتبة الثابتة، ويُسكت عن «السلبي» منه. النسويات الاسلاميات يشدّدن على مبادئ العدل والمساواة في قراءتهن. وبعضهن يقول بأن لا جنس في القرآن. ولكنهن لا «يفككن» الا الآيات التي سبق وان فكّكت.
العلاقة مع العلوم الانسانية المعاصرة ليست اقل اشكالية. هناك من ناحية، توتر ولّدته طروف نشأة النسوية وواقعها. هو التناقض الذي اشرنا اليه لدى وصف العلاقة بين الهوية (الجماعة المسلمة المهاجرة) وبين الحرية (المجتمع الغربي وثقافته). قد لا يكون هذا التوتر معيقا لما ترنو اليه النسويات الاسلاميات. ولكن اذا كن يهدفن الى ايجاد صيغة تعايش بين الصيغ المتناقضة فحسب، دون اكثر، فقد ينجحن. اما اذا كان غرضهن ابستمولوجيا، أي إحداث قطيعة معرفية مع الارثين، فان الناقص في هذه المقاربة هو اعادة تفكيك البطريركية العربية الاسلامية نفسها، بدل الاكتفاء بقراءتها قراءة ثانية. النسوية الاسلامية مورد فكري. ومناقشة اشكالياتها هو المدخل الممكن لقراءة الصعود الديني واثره السلبي الاكيد على مكتسبات النساء العربيات. من تناقضات الثورات العربية انها، مع كل تعثراتها وخيباتها، منحت الثقافة العربية مكسبا نفسيا هائلا ينطوي على نوع جديد من الحرية. حرية تناول الاسلام السياسي والنسوية في آن. انه غرف من سلّة جهود بذلتها نساء عشن ما نعيشه اليوم، او ما يشبهه. وهي مناقشة لا تلغي القراءات السالفة، ولا تستبعد الغرف منها. ولكنها قد تمتدّ سنوات، وربما عقود.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية