اتّخذ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي خطوةً غير مدروسة عندما سمح لتنظيم “عصائب أهل الحق” بالاحتفال في ساحة التحرير وإقامة استعراض واحتفال خاص في كانون الثاني/يناير الماضي. فالتنظيم المتشدّد، الذي سبق وأعلن أنه سيضع السلاح جانباً وينخرط في العملية السياسية، بات اليوم الشريك الجديد للمالكي في طريقه نحو المرحلة المقبلة، ولاسيما في انتخابات مجالس المحافظات التي من المفترض أن تُجرى في العام 2013 المقبل، فضلاً عن ميوله الشخصية للحصول على ولاية ثالثة في حال فوزه بدعم المحافظات المذكورة .لكن ما لم يدركه المالكي هو أن ورقة “العصائب” لن تكون مربحة له.
بانضمام “العصائب” إلى العملية السياسية، أراد المالكي أن يظهر بمظهر الرجل المتسامح الذي يرعى المصالحة الوطنية في البلاد واستخدم حجة خلق التوازن في الشارع العراقي بين عصائب أهل الحق وبين التيار الصدري. ولكن هذه الخطوة لم تقنع الكثيرين، بل أظهرت المالكي بمظهر الساعي إلى ضرب الطرفين ببعضهما البعض وانتظار النتائج.
بدأ انشقاق “العصائب” أو “جناح الخاصة“، كما كان يطلق عليهم في تنظيمات جيش المهدي الذي أسّسه الصدر في أيلول/سبتمبر من العام 2003، بعد اعلان الصدر تجميد جيش المهدي عام 2007. كان هذا اول بذرة في إختلاف آليات العمل، إذ اعتبرت العصائب خطوة الصدر سابقة لأوانها وأنها يمكن أن تصور التيار بمظهر الضعف. كما أن العصائب كانت تمارس سلوكا أعتبره الصدريون بعيدا عن منهجهم لاسيما حينما تم الكشف عن تورط العصائب في تصفيات طائفية ضدّ السنّة بين العامين 2006-2008.
وفي العام 2007، برز اسم” العصائب” إلى الواجهة بعد خطفها خبير المعلومات البريطاني بيتر مور مع أربعة من حرّاسه، ومقايضته بعد عام ونصف العام بمجموعة من مواليها الذين تم إخراجهم من السجن، وكان من بينهم قائدها قيس الخزعلي، أحد كبار مساعدي الصدر سابقاً، وعبد الهادي الدراجي، الناطق السابق باسم الصدر في بغداد، الذي خرج هو الآخر عن طوع الزعيم الشيعي والتحق بـ”العصائب”. وقد تم تسليم مور وجثث ثلاثة من حرّاسه لقاء ذلك. أحرجت الحادثة الزعيم الشاب مقتدى الصدر، الذي اعتبرها دليل عصيان وخروج عن الطاعة لتياره، ما دفعه إلى إعلان تبرّئه من ” العصائب”. وقد خرجت “العصائب” عن طوع الصدر بدعم مباشر من إيران التي لا تزال تدعمها، تنظيماً وتسليحاً. اما مرحلة اللاعودة في العلاقات بين التيارين فقد بدأت في العام 2010 عندما دعا الصدر “العصائب” الى التراجع وطالب بعض أنصارها بالعودة الى التيار الصدري، حيث عاد بالفعل بعضٌ منهم، من بينهم الدراجي.
وفي هذا السياق، تقرب المالكي مع “العصائب” تعكس الحالة الراهنة لعلاقته مع التيار الصدري. قرّب المالكي جيش المهدي منه بشكل ملفت عقب تولّيه رئاسة الوزراء في 2006 وقد قام في العام 2007 بتوجيه كتب سرية تناقلتها بعض وسائل الإعلام المحلية، إلى حلفائه في التيار الصدري، يطالب فيها السيد مقتدى الصدر بإبعاد قيادات جيش المهدي وترحيلهم إلى إيران لوجود تحرّك لاستهدافهم من قبل القوات الأميركية. وقد مهّدت تلك الرسالة بالفعل لمغادرة الكثيرين من قيادات جيش المهدي البلاد باتجاه إيران، من بينهم “أبو درع” المتّهم بتصفيات طائفية ضدّ السنّة، والذي انضم لاحقاً إلى “العصائب”. لكن المالكي عاد ليتراجع عن موقفه وشنّ بنفسه في آذار/مارس 2008 عملية “صولة الفرسان” العسكرية ضدّ جيش المهدي الذي كان يملك سطوة كبيرة في مدن جنوب العراق ويقوم بتهريب النفط العراقي. وانتهت العملية باعتقال المئات من أتباع التيار لاحقاً في مدن الناصرية والديوانية وكربلاء وغيرها. أسهمت ايران بشكل كبير في دفع التيار الصدري إلى تغيير موقفه وحمله على دعم المالكي لولاية ثانية في العام 2010 فالتيار كان رافضاً عودة الأخير بعد حملة التصفية التي تعرّض إليها مناصروه في “صولة الفرسان”.
من الواضح ان بانضمام “العصائب” المالكي أراد توجيه رسالة إلى التيار الصدري الذي توتّرت علاقته به مجدداً، بأنه يمكن أن يعتمد على “العصائب” كداعم فاعل له، فضلا عن السعي للحفاظ من ناحية أخرى على علاقته مع إيران. ولكن بهذه الخطوة فتح على نفسه النار من جهات إضافية.
فربما نسي المالكي أن القاعدة الشعبية للعصائب في العراق لايمكن مقارنتها بما يتمتّع به تيار الصدر الذي يملك 40 مقعداً برلمانياً وسبعة وزراء. ولم يمّيز سكان مدينة الصدر شرق بغداد والمدن الجنوبية (حيث يتركّز الثقل الأكبر للطرفين) إلا مؤخراً بين “العصائب” وبين التيار الصدري، عقب تبادل الطرفين إطلاق النار في مدينة الصدر في حزيران/يونيو الماضي، في مواجهات لم يُعلَن عنها في وسائل الإعلام المقرَّبة من الحكومة، وظهرت في المستقلة منها.
وترحيب الحكومة بانضمام “العصائب” الى العملية السياسية، قابَلَه رفضٌ مطلقٌ من التيار الصدري، حيث أكّد ضياء الأسدي، الأمين العام لكتلة الأحرار في البرلمان العراقي (التابعة)، أنه لن يكون هناك اي مكسب للعملية السياسية من انضمام العصائب اليها. أما الصدر فوصف العصائب ب”قتلة لا دين لهم” واتّهمها علناً بقتل النائب عن التيار الصدري صالح العكيلي، الذي اغتيل في مدينة الصدر عام 2008 أثناء توجّهه إلى البرلمان لحضور الجلسة الاعتيادية. وطالب المسؤولين عن “العصائب” بتغيير اسمها وتغيير قيادتها، وهي إشارة صريحة إلى دور إيران في إدارة “العصائب”، التي سبق وتلقّت تدريباتها هناك لتعمل كقوة خاصة ضمن تشكيلات جيش المهدي.
خطوة المالكي لاقت اعتراضاً مماثلاً من الكتلة العراقية التي اعتبرت أن تقريب “العصائب” هو “نوع من الاستهانة بدماء العراقيين”، وفق تصريحات نوابها، ولاسيما أن قيادة عمليات بغداد سبق وأعلنت تورّط “العصائب” بتصفيات لبرلمانيين عراقيين وشخصيات أخرى بواسطة أسلحة مزوّدة بكواتم صوت. لكن الكتلة لم تتمكّن من تحريك هذا الملف داخل البرلمان، وإخضاع رئيس الوزراء إلى المساءلة بسبب عدم توحيد رؤية نوابها الذين يفضل الكثيرون منهم إتخاذ قراره بشكل فردي بمعزل عن الكتلة، الأمر الذي أظهر الكتلة العراقية بمظهر العجز عن إتخاذ قرار بصيغة الإجماع وهو ما يعني أن أية محاولة من هذا النوع ستنتهي قبل ان تبدأ.
كما ان تقارب المالكي مع “عصائب أهل الحق” أفرز تحركات خطيرة، كان آخرها قيامها بمجموعة تصفيات لعدد من الشباب العراقيين المقلِّدين لظاهرة “الإيمو” في بغداد، فضلاً عن اختطافها وتهديدها عدداً آخر من هؤلاء الشباب في مدن عراقية أخرى. وتحرُّك “العصائب” في الشارع العراقي بهذا الشكل أعاد إلى ذاكرة العراقيين تلك الأيام التي كانت فيها الميليشيات والجماعات المتشدّدة تُدير الشارع العراقي، وتفرض الإتاوات على الأهالي، وتقوم بتصفيات جماعية للسكان طبقاً لخلفيتهم الطائفية.
ولو تطور نشاط العصائب في الشارع العراقي لاحقا فلن تجني كتلة المالكي النتيجة ذاتها في الإنتخابات المقبلة، فضلا عن انعكاسات الأمر على علاقة المالكي مع التيار الصدري من جهة والكتلة العراقية التي تسير في الطريق المعاكس للأخير بشكل دائم.
وقد لا يتمكّن المالكي من تجنّب هذه الانعكاسات إلا باتخاذ خطوة تراجع مستقبلية، تماماً مثلما حدث قبل أربعة أعوام حين تراجع عن دعم ميليشيات جيش المهدي. الإنقلاب ضد العصائب ليس مستبعداً، إلا في حال حصولها على مقاعد تؤهلها للعب دور اساسي في العملية السياسية. لكن المالكي قد يلجأ إلى خيار دبلوماسي بديل يتمثل بنزع سلاح العصائب بطريقة دبلوماسية مبنية على التوافق المشترك كي لا يتهمه الخصوم بالاعتماد على الميليشيات في دعم طموحه لولاية ثالثة.
خلود رمزي العامري صحافية وناشطة مدنية من العراق.
نقلاً عن “صدى“