إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
بدلاً من سيناريو القذاذفة
يستطيع الرئيس السابق علي صالح التقاط الخيط الأخير من فرصة النجاة برأسه، وإنجاد أنجاله وأنجال شقيقه وابناء العموم وحاشية الأقارب والبطانة، والقابض على محفظته الاستثمارية في الخارج، وغيره من القابضين على المال المنهوب في الداخل والخارج.
وبميسور المخلوع تحاشي الانزلاق إلى حفرة الهلاك على شاكلة (صدام) أو
إلى ثقب اسود لا فكاك منه، أو جوف ماسورة صرف صحي على شاكلة زميله المخلوع معمر القذافي الذي لا زالت صورته الذاهلة، الدامية، ترسم شكل المأساة بألوان دامية كالحة، مضطرمة وتجسم ملامح لعنة الخراب الممتد، والضارب في ليبيا، بعد انقصاف عنق الطاغية على يد شاب يتيم (18عاماً) لعب دور البطولة في تلك الأشرطة المرئية التي سجلت نهاية القذافي في ثلاث دقائق، ورأى العالم من خلالها العقيد الهالك ينال جزاءاً من جنس عمله، إذ لم يكن في الوقت متسع لتعقل مترتبات أمر وقوعه في قبضة من كان يصفهم بــ”الجردان” وانتوى سحقهم ومحقهم دون رحمة على نحو ما كان يفعل بالليبيين من يوم انقلابه في “الفاتح” من سبتمبر 1969.
بمقدور صالح المتورط في عدم تصديق ثورات “الربيع العربي”، والتفاعلات والتداعيات البركانية الناجمة عنها، أن يكون (حكيماً)، ويرحل الى اثيوبيا على اول طائرة ليقيم في ضواحي اديس ابابا، وينتجع في المزرعة المحيطة بالفيلا التي تجهزت لاستضافته. وسوف يتحاشى بذلك المصير الاسود لزميله صريع جنون العظمة والحكم وعربدة الفساد والاستبداد والخبل والعته والسيالات الذهنية: معمر القذافي.
<img2791|center>
ذلك انه ما زال الأفق يخفق بفرصة متاحة لإنجاد الأنجال وبقية أفراد الأسرة الذين يحتمون بمراكزهم العسكرية اعتباراً بما صار لسيف الإسلام القذافي وخميس والمعتصم وغيرهم من أنجال وحاشية القذافي الذين لم تنفعهم “الكتائب” المدججة بأحدث أسلحة الإبادة والدمار التي اعتمد عليها القذافي وأنجاله، وراهنوا عليها إلى أقصى حد كما راهنوا على السحرة والرقي والتعاويذ، وانفقوا الملايين على السحرة المستجلبين من مختلف اصقاع افريقيا، حيث كانت الشعوذة هي الملاذ الأخير للطاغية الذي كان يخفي تعويذة في طيات ملابسه لتحميه من الوقوع في قبضة الثوار، وقد عثر عليها يوم وقع اسيراً في 20 أكتوبر 2011 وكانت من علامات الخاتمة وإشاراتها الفارقة.
يستطيع المخلوع صالح أن يمارس الاختلاف مع قرينه وزميله، ويقلب الطاولة على قواعد السيناريو التي رسم المقطع الأخير من سيرة (ملك ملوك افريقيا)، وعميد الرؤساء العرب، لينفذ برأسه بدلاً من توعّد “ثورات الربيع العربي” بفتح الملفات والاحتماء بمحراب “جامع الصالح”.
مجنون الكرسي
يذكر الخبراء المختصون بسيرة القذافي انه في الأيام الأولى من استيلائه الانقلابي على السلطة كان يهدد بالاستقالة من الرئاسة بعد كل وجبة طعام يتناولها، ويشدد على زهده بالسلطة، وقد انخدع به كثيرون إلى أن تكشف أمره كمجنون في عبادة الكرسي.
ويقولون بأن المهمات الأولى التي باشرها تمثلت في قَبْيَلَة وبَدْوَنَة البلاد، وفي إزاحة وإقصاء المنافسين المرشحين والمحتملين والمشتبه بهم، وقد قام بتشكيل فرق خاصة لملاحقتهم وأرسل من يقتل المعارضين في الخارج، واستأجر عصابات المافيا لقتلهم وخطفهم وإخفائهم في الزنازين، علاوة على قيامه بتمويل وتسليح الإرهابيين واستضافتهم في ليبيا.
ومن الوهلة الأولى تفتحت عيون “العقيد” على التجار والتجارة، وكان مصير التاجر الذي لا يخضع لأوامره ونزواته الطمس والمحو من الخارطة، بعد اتهامه بالتجاور, والانحراف: “القانون تحت نظام القذافي يكاد يكون معادلاً لما هو ليس قانوناً”.
<img2795|center>
وفي موازاة الانقضاض على التجارة والتجار، كان يقوض “الطبقة الوسطى” بمنهجية ومثابرة وبدرجة عالية من العته والشره والعناد الإجرامي، وبما لا يمكن إخضاعه لأي منطق، أو مقياس عقلي.
كان يحكم بالرشوة وشراء الذمم والابتزاز والخوف والرعب والقتل، ويفتقر إلى أي شرعية اخرى. وقد استحوذ على الريع النفطي لنفسه، وكانت الثروة النفطية احتكاراً كاملاً له ولأسرته وبطانته وأجهزة قمعه. وقد استخدمها ليبقى حاكماً لأربعة عقود ونيف، ورتّب نفسه على توريث الحكم لابنه، وصناعة عائلة حاكمة يتوارث فيها الأبناء الحكم عن الآباء إلى ابد الدهر.
وضمن هذا الترتيب، صارت كتائب الجيش الرسمي في قبضة ابنائه ووزعها بينهم حسب أولوياته، وصار الأنجال يقودون “كتائب القذافي” وينهضون بمهمة الانتقام من الشعب الليبي وقتله.
وكما تقاسم أنجال “العقيد” الكتائب، فقد تقاسموا مجالات الاستثمار والتجارة والشركات والمؤسسات الايرادية والتوكيلات والمقاولات والأندية الرياضية.
ويتذكر المتابعون لسيرته انه في البدء كان يلاحق وينقض على “الكبار” من القياديين والاداريين وذوي المكانة الذين لا يستجيبون لنزواته ويعترضون على استهتاره بالقانون وقواعد العلم الاداري.
كان يتقصَّد إذلال الكبار عملاً بالقاعدة الميكافيلية الانتهازية التي تنصح بإذلال كبار القوم والمقام لتتم له السيادة والسيطرة على عامة الناس! خاصة انه جاء من بيئة فقيرة، متواضعة، وعانى الأمرّين من المهانة والحرمان في طفولته وصباه، كما كان محدود التعليم و”ابتدائي” إلى أقصى الحدود.
ذلك بعض ما يفسر تطبيقه لقاعدة ميكافيلي بكثير من العنف المتطرف والدموية والإجرام إلى حد ان كثيراً ممن تعرضوا لهذه المهانة كانوا يموتون كمداً وقهراً ويصابون بالجلطة والسكتة القلبية.
وبانقضاضه على “الطبقة الوسطى” والتجار ورجال الاعمال فوّت على البلاد كل فرصة تصنيع أو تحديث.
أكره المدن والبحر
ما سبق لم يكن يحدث بمعزل عن كراهية “العقيد” لمدينة طرابلس وقد اعلن انه يكره المدن من أول يوم لمجيئه إلى الحكم، وكانت طرابلس هدفاً لعدوانه، وتفلّت غرائزه البدوية، وفضاءً لتنفيذ سيالاته الذهنية المريضة التي لا تعرف إلا الهدم والتخريب وتشويه معالم الجمال، ونشر القبح وارتكاب المباذل.
<img2792|center>
ومن اليوم الأول أطلق شعاره الحقير وهو شعار “الخيمة تنتصر على القصر” معلناً حرباً تستهدف تَصحيرَ المجتمع الليبي وتجريفه من المدينة والسياسة، ومن كل ما تراكم عبر تاريخ طرابلس المدينة وفوق أرضها من رقائق حضارية وزخم حضاري، ومن مكتسبات حضارية ومعمارية ساهمت في بنائها وتشييدها روافد من الشرق والغرب، وحملت بصمات التاريخ الليبي من قبل الميلاد.
ويذكر الروائي الليبي احمد ابراهيم الفقيه ان “القذافي” أمعن في إهانة طرابلس في لحظة باكرة عندما قال في تحقيق صحفي مع جريدة “البلاغ” في بداية عهده الانقلابي انه يكره البحر.
المعلوم ان طرابلس قبل انقلاب “الفاتح” من سبتمبر كانت منتجعاً جميلاً على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ومركزا من مراكز الثقافة والحضارة والتجارة وفيها واحد من أجمل شواطئ المتوسط ظل على مدى التاريخ محجاً للسواح. ولها كورنيش تغنى بجماله الشعراء، وتفننَّ النبوغ الايطالي في جعله يضاهي شواطئ المدن الشمالية. ولذلك كان قرار هذا الحاكم المعبأ بالحقد والقبح والذوق الفاسد الذميم إلغاء هذا الشاطئ والحكم بالإعدام على الكورنيش وطرد البحر من طرابلس إلى اقصى مدى يصل إليه عقله المريض. وأعلن في البداية انه سيبني سوراً يحجب البحر، وحين قوبل بالاستنكار، بحث عن مهندس يضع له خريطة لأغرب واقبح جامع في التاريخ – حسب الفقيه- والى جانب ذلك أصر على إنشاء ميناء في طرابلس لحجب البحر رغم أن الشاطئ الليبي يمتد لمسافة ألفي كيلو متر! وبالتلازم، عبأ الكورنيش بالحواجز والآلات ومواد البناء التي جلبتها الشركات الأجنبية التي تعهدت بتنفيذ إرادة الحاكم.
وذات يوم، فوجئ الناس باختفاء شاطئ طرابلس بل والبحر نفسه اختفى، ونجح الحاكم في إزالته من مكانه بعد أن انفق مليارات الدولارات من دخل البلاد في رصف البحر في محاولة يائسة لفك الارتباط بين طرابلس والبحر ونفيه بأسماكه وأمواجه بعيداً عن المدنية التي ارتبطت به منذ فجر تاريخها.
<img2793|center>
ثم عمد هذا الحاكم إلى هدم معالم المدينة الأثرية والحضارية والمعمارية ابتداء من مركزها ومصب ومنبع شوارعها، “ميدان الشهداء”، مروراً بالأضرحة والمساجد، والمكتبات التي تستوعب التراث الحضاري والفكري للمدينة. ولم يسلم منه حتى تمثال الإمبراطور الروماني ذي المنشأ والأصل الليبي “سيبتموس سيفيروس” الذي كان يرى فيه منافساً ومزاحماً، فأزاله من مكانه في ميدان الشهداء، لأن المكان، في ظنه، لا يتسع له وللإمبراطور القديم في نفس الوقت!
ولم ينقطع عن تدمير ذاكرة طرابلس وهدم تاريخها حتى أخر أيامه. وقد عمد الى هدم سلسلة من الفنادق المتميزة بجمالها المعماري، والذي كان الناس يزورون طرابلس خصيصاً لتناول الطعام فيها، مثل فندق “المهاري” الذي كان جزءاَ منه غاطسا في البحر بحيث ترى الأسماك من خلال جدار زجاجي وهي تعوم في الأعماق، وطاولت عمليات الهدم فنادق كانت تنافس أخطر وأشهر فنادق العالم وكانت مقصد الزيارة نجوم السينما والرياضة في العالم.
<img2794|center>
ولما كانت طرابلس، قبل العهد الانقلابي، تتمتع بعدد من دور العرض المسرحي والسينمائي (30 دار) وتحتضن “مسرح الغزالة” الشهير، وغيره من دور العرض المسرحي ومراكز العرض والفنون التشكيلية، فإن تلك المراكز كلها لم تسلم من الحاكم هادم اللذات ومفرق الجماعات، وميتّم المسرحيين والمسرحيات والفنانين والفنانات، فهو لم يحارب الفن فقط بل حجب الميزانيات عن إدارات السينما والمسرح والموسيقى، ثم أطلق عليها البلدوزرات ومعاول الهدم حتى أحرم طرابلس من معالمها الفنية وحرم أهاليها من أماكن الترويج والتسلية، وصادر المجمعات الترفيهية والمتنفسات وقام بهدم المدينة القديمة رغم علمه بأنها وعاء حضاري لكل البشرية، ولها معالم ومناطق أثرية محمية من قبل اليونسكو نفسها.
وفي حادث مرعب، تميز بالعَتَه والجنون والإجرام، أمر أجهزة الهدم والحرق بإزالة مبنى بلدية طرابلس العريق، والمباني والمراكز التي تحتوي مخطوطات وأرشيف المدينة، كما أمر بطرد الغابات وحرقها استجابة لرغبة سيكوباثية تسكن أعماقه، وحدث ذلك في ليل حيث أمر بإتلاف الغابات المحيطة بطرابلس وتحويلها إلى ارض للبناء بعد أن كانت تلك الغابات محمية من خلال هيئة خاصة بحراستها.
حدث ذلك بعد أن وقف بالمرصاد لمشروع المكتبة العامة والأوبرا، واصدر فرماناً بمنع بناء شرفات للشقق التي تطل على البحر، بحجة أن البحر هو المكان الذي جاء منه الغزاة!
وبالتوازي مع الإجهاز على الأماكن والمساحات الحاضنة للإبداع قام بإنشاء جهاز أمن لمكافحة النجومية، ومحاربة أي إنسان ينافسه في الاهتمام الإعلامي، الذي بقي حكراً عليه وحده، ليشبع عطشه المرضي للسلطة ويحصل على التعويض المرضي عن اهتمام وحنان ورعاية افتقدها في سن الطفولة، ويردم الفجوة الناشئة عن محدودية تعليمه عبر هذا الجنون بالحكم وهوس الوصول إلى السلطة من أي سبيل، ولم يكن لديه مانع من التوسل إلى ذلك بأي وسيلة.
وفي العموم اختطف “العقيد” البلاد وأهلها.
نجم واحد ووحيد:
ما كان يخطر على بال احد أن (العقيد) سيأمر بإنشاء جهاز لمكافحة النجومية، وما كان من الوارد التصديق بهذا الأمر إلا بعد اندلاع شرارة ثورة 17 فبراير 2011.
وقد أصبح وجود الجهاز المذكور معروفاً بعد أن بدأ نظام القذافي يتصدع وينهار شرق البلاد، وكشف عنه الثوار في بنغازي أولا وبعد ذلك في طرابلس. والواضح أن فكرة إنشاء هكذا جهاز جاءت لتجسد مبدأ: “لا نجومية في المجتمع الجماهيري”. وتعرّض نجوم الغناء والرياضة والمسرح والأدب للتنكيل والملاحقة والسحل والتشريد، وتحول صاحب أحلى حنجرة غنائية إلى مؤذن في جامع، واضطر أشهر مطرب إلى العمل كسائق شاحنة، ومات الفنان “خالد سعيد” الذي كان الليبيون يعتبرونه صنو عبد الحليم حافظ وحيداً في غرفة مهملة وعثر عليه فيها بعد ثلاثة أيام من وفاته، ومات الأب الروحي للفن الحديث بمرض خبيث دون أن يجد من يعتني بعلاجه! واعتقل أشهر مؤلف للاغاني، “مسعود القبلاوني” في سرداب مظلم تحت الأرض لسنوات دون أية تهمة. ولوحق الرسام الساخر الراحل “محمد الزواوي” إلى تونس وزجّت به السلطات التونسية في السجن بناء على وشاية من الأمن الليبي بأنه يهدد الأمن التونسي. وأعدت قوائم ملاحقة الفنانين والروائيين والشعراء في الداخل والخارج، وصدرت أوامر بمنع إذاعة أسماء نجوم الرياضة، وطاولت جرائم التصفية الجسدية الرياضيين، بل وجماهير المتفرجين في الملاعب.
بهذا الصدد يذكر انه في 30 يناير 1989 حضر إلى المدينة الرياضية أكثر من 30 ألف متفرج من الصباح الباكر وحجزوا لهم مكاناً قبل المباراة بوقت طويل لأن المباراة خطيرة وهامة بالنسبة لعشاق الكره المتابعين لتصفيات كأس العالم ويومها كانت المباراة بين المنتخب الليبي والمنتخب الجزائري. ومع دنو موعد انطلاقة المباراة بدأ الجمهور يتململ لأنه لم يلحظ أي بادرة بقدوم اللاعبين. وبعد مضي وقت غير قصير من زمن المباراة، علم الجمهور بأن “العقيد”، و”انطلاقاً من عقيدته القومية، قام بإلغاء المباراة لأنه يرى انه لا يصح للعرب ان يدخلوا المنافسة فيما بينهم وقد قرر إهداء المباراة إلى الجزائر”! ويومذاك هاج الجمهور وخرجت الحشود إلى ساحة عامة في المدينة لتعبر عن احتجاجها على إلغاء المباراة. وهناك، طوقتها الكتائب العسكرية والأمنية من كل اتجاه وأمطرتها بوابل من الرصاص الحي وسقط المئات قتلى وجرحى، وعلى اثر ذلك أمر “العقيد” بإلغاء مباريات الدوري الليبي، وقام الاتحاد الدولي لكرة القدم بشطب ليبيا من قائمة المشاركة في بطولات كرة القدم الخارجية.
وحسب تنظيرات “العقيد” الشيطانية، فأنه لا يجوز أن تجري لعبة كرة القدم بين حفنة اللاعبين “النجوم” ويفترض أن تجري اللعبة في الميدان بين المتفرجين جميعاً فهي: “جماهيرية”.
ويتندر الليبيون هذه الأيام بما حدث يوم 9 يونيو عام 1996، حين كان من المقرر أن تتم مباراة بين أشهر فريقين في طرابلس وهما “الاتحاد” و”الأهلي” بحضور اثنين من أنجال “العقيد”، هما “محمد” الابن الأكبر من امرأته الأولى و”الساعدي” احد أولاده من الزوجة الثانية وكلاهما صاحب اهتمام بالكرة ويستولي على واحد من الأندية، ويبسط نفوذه عليه ويستعرض على أعضاء النادي ما ابتلاه به الله من عقد. وراح أنصار “الساعدي” يتهكمون بالابن الأكبر “ابن الهجالة” –أي الزوجة المطلقة- وقام أنصار محمد بالرد على أنصار الساعدي. وعلم الأب بما يدور في الملعب ووجدها فرص للانتقام، وأمر نجليه بالانسحاب من الملعب، وأرسل كتائبه التي سدت أبواب الملعب “ولعلع الرصاص وعلا الصراخ وتناطر الدم البشري” وقتل ذلك الرجل الذي غامر باصطحاب ولديه إلى الملعب ليتمتعا بالفرجة على المباراة أمام نجليه حين صرعته رصاصة في جبينه وسقط صريعاً مضرجاً بدمائه وهو يحاول الهرب من إحدى بوابات الملعب في مشهد لم يبارح ذهن ومخيلة وذاكرة الصبيين قط.
<img2796|center>
في السياق طاول الإهمال مجالات الغناء والموسيقى بعد أن كانت ليبيا سبّاقة في هذا المجال ولها تاريخ عريق في تعليم الموسيقى، منذ إنشاء “مدرسة الفنون والصنائع” في القرن التاسع عشر، وفيما جرى كتم الحريات والفنون وملاحقة الإبداع والمبدعين وإغلاق الأندية والمسارح والمكتبات ومدن الألعاب ومراجيح الأطفال ودكاكين الورود والأشجار والطيور التي يرتعب قلب الحاكم “البدوي” من ذكرها! فقد كان يجري تمويل واستضافة الإرهاب في ليبيا وعبر الحدود والقارات والاستعانة بالسحرة والافاكين والإغداق عليهم بملايين الدولارات من خزينة الشعب الليبي. وخلال ثورة 17 فبراير لم ينفع “الحاكم” هؤلاء، ولم تستطع كتائبه التي قامت بمطاردات لكل الإعلاميين، ولا الكميات المهولة من الأسلحة وكاتمات الصوت إنقاذ “الطاغية”. وفي يوم 20 أكتوبر 2011، لم تصمد كل الألقاب الكبيرة والتعاويذ “الخطيرة” أمام صبي يتيم من الثوار عمره لا يزيد على 18 عاماً، تمكن من إخراج “الزعيم” من المجرى المائي الذي اختبأ فيه كالجرذ وهو ذاهل مذعور لا يكاد يصدق ما يسمع ويرى.
كان على بعد بضعة كيلو مترات من الحدود يقبع في الماسورة في انتظار المدد والنجدة من المرتزقة والقبائل الافريقية والسحرة الذين اخذوا منه مليارات الدولارات ووعدوه بتجهيز جيش عرمرم يعيده إلى باب العزيزية، وضحكوا عليه كحاكم مجنون مخبول يتطلع لاستعادة عرش غربت شمسه، ومجد انقطعت أنفاسه، وانتهى إلى صريع بائس لمقالب الكوميديا السوداء.
<img2798|center>
وليس ثمة “انجاز” يمكن أن يذكر لــ”العقيد” أكثر من فلاحه في تجريف البلاد وتلغيمها وتفخيخها، وترشيحها للاحتراب المستدام، والخراب الممتد والانقسام بين شرق وغرب وعلى مستوى كل “زنقة”، وبما يكرّسه كصاحب اختراع جديد لمعنى “الزنقة”.
في الحلقة القادمة نتابع المآلات الكارثية التي أفضت إليها ممارسات وسياسات دكتاتور ليبيا مع قراءة مقارنة تترصد ما تيسر من الارتكابات المماثلة لدكتاتور اليمن المخلوع “المشير” صالح والسيناريوهات المرتقبة.
mansoorhael@yahoo.com
كاتب يمني – صنعاء
نُشِر على”الشفاف” في Mar 26, 2012