ضعْ جانبا جماهير “الممانعة” معدومة البصيرة؛ وكذلك يساريين وقوميين تقليديين يعتزون، بعناد مبهر، بأولويتهم المطلقة لمقاتلة الامبريالية والصهيونية. بعد ذلك، فان أي “مواطن بسيط” يمكنه الملاحظة بأن فلسطين ليست سوى لعبة “الممانعة” بامتياز، وبأن هذه الفلسطين هي فكرة مجرّدة، أو لعبة مجردة، لا علاقة لها بالفلسطينيين، ولا بمعاناتهم في ظل الاحتلال، أو في ظل “الممانعين”.
في سوريا التي قام النظام فيها على انقاض هزيمة عسكرية ضد اسرائيل، ودوام الاحتلال الاسرائيلي لجولانها، يحظى الفلسطينيون بتسهيلات وتعقيدات وهيمنة امنية للنظام، على فصائلهم المتواجدة في الاراضي السورية؛ وخضوع هذه الفصائل للعبة النظام، بل لامتهان السير في ركابه (تفاصيل هذه العلاقة ومراحلها ينتظر من يؤرخ لها).
اما في لبنان، بلد “الانتصار التاريخي الالهي الاستراتيجي ضد العدو الصهيوني”، فان حقوق الفلسطينيين هي في اسفل درك، حيث الحرمان ينال من ابسطها. والفلسطينيون، فوق ذلك، هم في مناطق الهيمنة “الممانعة” التي حقّقت هذا النصر، تحت السيطرة الامنية والابتزاز شبه اليومي. المهم انه قبل الثورة السورية، كان الغطاء الذي تؤمنه الوقائع رقيقا. كانت واضحة قصة فلسطين-الذريعة، وان كانت تغشوها مواقف القادة الفلسطينيين انفسهم، خصوصا اولئك المنضوين تحت راية “الممانعة”. رقة الغطاء المعطوف على قلة الحياء سمحا بالمضي بألعوبة كان يفترض بها ان تدوم الى مدى الدهر.
ولكن، حصلت الثورة السورية، ومجرياتها امتدت اكثر من غيرها من الثورات. وشرعت “حماس”، الأكثر التصاقا بمحور “الممانعة” من بين الفلسطينيين، بالانفلات من من ايدي قادة هذا المحور. كان انعتاقا خجولا في البداية، ثم شيئا فشيئا حتى اعلنها اسماعيل هنية في القاهرة ومن قلب الازهر الشريف، وامام جماهير مندّدة بإيران و”حزب الله” ومؤيدة للثورة السورية: “أنا احيي شعب سوريا البطل الذي يسعى نحو الحرية والديمقراطية والاصلاح”. ومن دون ان يتخلى عن القضية، انما بالاعتقاد باعادة احيائها بقيادة اسلامية، وأضاف:”الربيع العربي جعل الامة الاسلامية على اعتاب مدينة القدس المحتلة”.
أي ان الطلاق قد تمّ بين الجناح “الممانع” من الفلسطينيين ومن بين قادة حليفه؛ بعدما سبقه الجناح “المتخاذل” و”المفاوض” منهم الى الضفة النقيض. وصار واضحا ان لأصحاب القضية من غير المتخاذلين ان هذا الانعتاق لا يهدف الى الالتحاق بالمتخاذلين، بل الى خوض معركة فلسطين بتضافر اسلامي جليّ. وذلك على الرغم من المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية، أو بسببها ربما.
خرجت القضية اذن من ايدي المحور “الممانع”؛ ولم يعد ذو معنى كبير ان يهدد احمدي نجاد بحرق اسرائيل، او ان ينصب حسن نصر الله القضية بوجه من يدعوه الى تسليم سلاحه الى الدولة، أو ان يتباكى بشار الاسد عليها، وعلى “المؤامرة الامبريالية الصهيونية” التي تستهدفه بسبب “صموده”… الخ.
نقول لا معنى كبيراً، ولكن متى كان خطاب الممانعة له معنى الا لجماهيره وللعنيدين من بين اليساريين والقوميين التقليديين؟ ومتى كان الحياء، رادعا عن اغفال الوقائع؟ او كان الضمير الفكري هو الذي يمليه ما تكتبه اقلام هذا الخطاب؟
ولكن، مهلا: خطاب الممانعة لا يقتصر على فلسطين. في اعماقه يدرك كتبته انها قضية استهلكت. عندما يتوسلونها، يبدون كمن اعتاد عليها، لسانيا خصوصا. فيغدقونها بالمديح، في حين يعلمون ان المسألة في مكان آخر، وان لا احد يصدقها، ولو بالعين المجردة، لا بالعين العمياء. منطق الحق ضعيف في خطاب الممانعة، ولو تكرر الى ما لا نهاية. وهو مع تبريره الحماسي للقتل المتعمد الذي يرتكبه النظام السوري، وبعد الانعتاق الفلسطيني، سوف يضعف أكثر فأكثر.
ماذا يبقى اذن من هذا الخطاب؟ تبقى ركيزته الاساسية، التي ستزداد اهميتها مع تواري خطاب الحق، “الفلسطيني”: انه خطاب القوة، الذي تجده مبعثرا أو مركزا هنا وهناك، في المواقف والتحليلات الصادرة عن الممانعين حول الثورة السورية؛ وهو يتلخّص بعبارة واحدة. “الحل الامني”.
بين السطور وفي وسطها، ترصد الخطوط الدقيقة لهذا الخطاب، والتي اتيح لها التطور، بسبب امتداد الثورة على مدى اثني عشر شهرا: حجر الاساس فيها ان النظام “صامد”، لأنه “قوي”؛ لأن جيشه ثاني اقوى جيش عربي، لأن هذا الجيش متماسك، لأن روسيا تدعمه بالسلاح واللوجيستية والديبلوماسية والامن، ولأنه مؤيّد من الصين وايران والعراق، وكذلك “حزب الله” الذي اخاف اسرائيل نفسها، لأن تركيا لم تتجرأ فعلا عليه لخشيتها من امتداد يده لأكرادها وعلوييها… باختصار، لأن بشار قادر على تفجير المنطقة بسبب انتشار اذرعه الأخطبوتية فيها.
انه الخطاب الحقيقي الاصلي، الذي يشبه اصحابه: هم قوى امر واقع، لا تحاور معها ولا مواجهة، الا تحت طائلة العقوبة القاتلة. ليس من باب الصدفة ان حرس النظام الاسدي هم انظمة او مجموعات مماثلة، لا تقيم هيمنتها الا تحت التهديد.
خطاب القوة هذا لا تربكه المعاني التي تنضح منه: اولها ان النظام صامد بفعل تدخلات، كلها خارجية. وان اتهامه للثوار، بالمقابل، بأنهم دعاة “تدخل خارجي” و”تخريب سوريا” الى ما هنالك… هو نوع من الحرية المطلقة يقيمها النظام مع المعاني، نوع من الاستهتار بها، او الاعتداء عليها.
لكن الفرق بين خطاب القوة، القتل، وبين خطاب الحق، القضية الفلسطينية، هو ان الاول، القوة، الى صعود، فيما الثاني، الحق، الى تلاشٍ. وهذا طبيعي، فالاستمرار بالقتل من دون حق، او مع تبخّر موضوع الحق نفسه، يحتاج الى التهديد به. لا فائدة من القتل اذا بقي من دون توقيع. والنوع الاسدي من القتل يتطلب اساطيل وجيوسياسة وميليشيات…. كلها كفيلة، باعتقاده، لا ان تقنع، بل ان تردع عن المطالبة بالحرية، عبر التهديد بالحياة، كل حياة.
الارجح ان التاريخ لن يحفظ، بعد الهمجية الدموية، الا ركاكة الممانعين على صعيد المعاني. ومن بركات الثورة السورية انها فتحت لهذه الركاكة نوافذ جديدة، ستقسم ظهر النظام، حتى لو تغلب “عسكريا” على شعبه، أي بمنطق القوة، الذي لا يعني الا القتل.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل