ماذا سيحدث لجمهورية إيران الإسلامية عندما لا يكون المرشد الأعلى علي خامنئي في السلطة؟ رغم وجود أسباب قليلة تدعونا إلى الاعتقاد بأنه سيغيب قريباً عن المشهد إلا أن تقدمه في السن والشائعات عن اعتلال صحته والمصير الذي آل إليه حديثاً حكام آخرون في المنطقة، يعني أنه ليس هناك شيء مؤكد. وعليه فإن الولايات المتحدة وحلفاءها سوف يستفيدون من فهم كامل للكيفية التي ستتكشف بها عملية الخلافة وكيف ستؤثر على الوضع الداخلي والخارجي للنظام.
قبل عقدين من الزمن أدت المخاوف بشأن خليفة آية الله روح الله خميني إلى اتخاذ نخب النظام قراراً ندمت عليه لاحقاً وهو تعيين وريث في الوقت الذي كان فيه المرشد الأعلى ما يزال على قيد الحياة. ولذا سيحاول النظام على الأرجح ضمان بقاء أية محاولة للتخطيط لفترة ما بعد خامنئي وراء الأبواب المغلقة، وذلك بجعل هذا الوريث غير واضح. ويمكن لقادة النظام أيضاً أن يحاولوا تكرار التاريخ بتعديل الدستور لو اعتقدوا أنه سيحمي مصالحهم أثناء الفترة الانتقالية. وقد استجاب النظام لأزمة الخلافة في عام 1989 بتغيير القانون الإيراني مما سمح لرجال الدين من المرتبة الأدنى بالتأهل لمنصب المرشد الأعلى وإلغاء منصب رئيس الوزراء وتركيز السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية. وقد بات الآن واضحاً أن هناك تلميحات إلى اتباع نهج مشابه للخلافة القادمة.
وعلاوة على ذلك، وبناءً على المؤشّرات التاريخية، فإن عملية الخلافة الرسمية كما أرساها الدستور قد لا تصمد. ومن الناحية الفنية، فإن “مجلس الخبراء” هو المسؤول عن اختيار الخليفة مع مجلس مؤقت – يتكون من الرئيس ورئيس السلطة القضائية وعضو في “مجلس صيانة الدستور” – يتولى مؤقتاً مهام المرشد الأعلى من الوقت الذي يترك فيه خامنئي السلطة إلى حين تولي خليفته المنصب. وثمة هيئة أخرى رئيسية وهي “مجلس تشخيص مصلحة النظام” التي لديها السلطة لاستبدال أعضاء المجلس المؤقت إذا لزم الأمر. وعلى الرغم من أن هذه القيادة المؤقتة يمكن أن تبقى في السيطرة والهيمنة إلى أجل غير مسمى، إلا أن النظام يميل على الأرجح إلى تعيين خليفة حقيقي بأقصى سرعة ممكنة لكي يتجنب تدمير مصداقيته أو خلق حيّز لأزمة سياسية.
وكما في عام 1989 فمن الصعب الاعتقاد بأن وريث المرشد الأعلى سيتم اختياره عن طريق “مجلس الخبراء” وحده. وقد تم اختيار خامنئي بواسطة نخب سياسية مؤثرة ضغطت على “المجلس” للتصويت كما فعل أعضاؤه. كما أن دائرة صناع القرار سوف تكون أصغر اليوم بالنظر إلى المدى الذي عزز به خامنئي سلطته خلال فترة حكمه.
وبدايةً، فقد همش خامنئي الجيل الأول للسياسيين الثوريين وخاصة “أكبر هاشمي رفسنجاني” (رئيس “مجلس تشخيص مصلحة النظام” الذي ربما يقوم المرشد الأعلى قريباً بإطاحته من منصبه) ومير حسين موسوي (زعيم “حركة المعارضة الخضراء” الذي ما يزال رهن الإقامة الجبرية). وفي الوقت ذاته، أعاد خامنئي تشكيل الطيف السياسي بترقية جيل جديد من السياسيين الضعفاء الذين يدينون له بمؤهلاتهم.
ثانياً، إن التغييرات على الساحة السياسية الإيرانية قد تركت لرجال الدين نفوذاً ضئيلاً في إدارة الدولة، فقلّصت بشكل كبير من قدرتهم على التأثير على عملية الخلافة. ويرى الكثير من رجال الدين الآن أن منصب المرشد الأعلى هو منصب عسكري أكثر منه سلطة دينية مستقلة.
ثالثاً، إن سلطة الرئيس نفسها تتعرض للتحدي. لقد تحدث خامنئي بالفعل علناً عن تغيير نظام الانتخابات الرئاسية لجعله برلمانياً يختار فيه المجلس التشريعي السلطة التنفيذية بدلاً من الشعب. ولو حدث ذلك فلن يكون الرئيس قادراً على استغلال شعبيته الشخصية لتعزيز موقفه. كما أن البرلمان [“المجلس”] – الذي يوجهه المرشد الأعلى – سيكون له المزيد من السيطرة على الرئيس مما سيقلل من احتمال أن يصبح هذا الأخير صانع قرار في عملية الخلافة.
رابعاً والأكثر أهمية أن “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” – الذي يتحكم بالقوات المسلحة والبرنامج النووي وجزء كبير من اقتصاد إيران – سيكون على الأرجح اللاعب الرئيسي في عملية الخلافة. وفي عام 1989، كانت السلطة في الغالب في يد المدنيين. ورغم أن خامنئي كان رسمياً القائد العام للقوات المسلحة إلا أنه لم يشغل قط هذا المنصب وحده، وكان دائماً يتنازل عن سلطته لآخرين. ومن جانبه كان “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” يمثل قوة عسكرية ثورية، ولم يكن له أي دور سياسي أو اقتصادي كبير. ومع ذلك فإن خامنئي اليوم هو الذي يدير بنفسه القوات المسلحة. وقد سمح لـ”الحرس الثوري” باقتحام السياسة والسيطرة على ثلث الاقتصاد على الأقل. وفي الحقيقة إن خامنئي هو الشخص الأكثر نفوذاً في إيران، ويعود ذلك إلى حد كبير لاعتماده على “فيلق الحرس الثوري”. ومن الصعب تخيل أن تسمح هذه المؤسسة لـ”مجلس الخبراء” وحده أن يقرر من سيكون خليفته. كما سيلعب “فيلق الحرس الثوري” أيضاً دوراً بارزاً في تهدئة مخاوف النظام بشأن الاضطرابات الشعبية خلال المرحلة الانتقالية.
وبالطبع، ربما لا يتحدث العسكر بصوت واحد فيما يخص الخلافة، عندما يحين وقتها. فقد أصبح “فيلق الحرس الثوري” مجمّعاً سياسياً- اقتصادياً يضم فصائل متصارعة لديها مصالح مختلفة في العديد من القطاعات. وعلى الرغم من أن خامنئي يتمتع بالسيطرة الكاملة على هذه الفصائل ويدير التناحر القائم بينها، إلا أن توازن القوة داخل العسكر سوف يتغير بالتأكيد في غياب مثل هذا القائد. وعلى الأرجح، سوف تكون لعناصر “فيلق الحرس الثوري” الأكثر راديكالية فرصة أفضل للظهور في المقدمة بالنظر إلى ميلها الأكبر للجوء إلى القوة. وبعبارة أخرى فإن غياب خامنئي ربما ينتج عنه وضع تصبح فيه الحكومة أكثر عسكرة وراديكالية.
وفي ضوء هذه العوامل سيكون أول تحدٍ للنظام فيما بعد فترة خامنئي هو خلق صوت موحد في “فيلق الحرس الثوري”. وسواء أكان كل عضو من أعضاء “الفيلق” موالياً لخامنئي ومبادئ الجمهورية الإسلامية أم لا، فإنهم يعتقدون عموماً بأنهم ينبغي أن يكونوا هم المنتفعين الرئيسيين من النظام نظراً للتضحيات الكثيرة التي قدموها من أجل الجمهورية الإسلامية مقارنة برجال الدين. ووفقاً لذلك، سوف يكون التركيز منصباً على توزيع السلطات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) بين القادة المؤثرين في “فيلق الحرس الثوري” مع إبعادها عن السياسيين المدنيين.
وعلى الرغم من أن المرشد الأعلى القادم سيكون على الأرجح تحت سيطرة مكثفة من قبل “فيلق الحرس الثوري”، ومن هنا ستكون له سلطة شخصية ضعيفة (على الأقل في البداية)، إلا أنه مع ذلك سيبقى الشخص المسؤول عن الحفاظ رسمياً على الشرعية والسلطة الدينية للجمهورية الإسلامية. وبناء على ذلك، فإن خامنئي وكبار قادة الجيش لديهم بلا شك قوائمهم من الخلفاء (المتداخلة في أغلبها). وبغض النظر عن أي من المرشحين سوف يكون على القمة إلا أن هؤلاء الذين هم في السلطة حالياً سوف يؤجلون الأمر إلى ما بعد وفاة خامنئي.
وأما عن السياسة الخارجية في فترة ما بعد خامنئي، فإن بعض قادة “فيلق الحرس الثوري” – سواء أكان ذلك تعبيراً عن إيمان حقيقي أم لتناحرهم الداخلي – سوف يسعون على الأرجح إلى فرض موقف معاكس لموقف إيران الحالي المناهض للغرب وسيبحثون عن فرص لتغيير المسار الحالي للحكومة في قضايا معينة. غير أن خامنئي قد طوّق موقف النظام بعمق، ولذا يجب على الأطراف الخارجية أن تخفّف آمالها بحدوث تغيير كبير بعد وفاته. وقد رسخت العقود الثلاثة الأخيرة نموذجاً بين القادة الإيرانيين: أولئك الذين يملكون أكثر السلطات هم المعادون للولايات المتحدة، وأولئك الذين يخسرون السلطة يميلون إلى موالاة الغرب. بل حتى خامنئي لم يكن يُنظر إليه كسياسي راديكالي مناهض للولايات المتحدة قبل توليه منصب المرشد الأعلى حيث إن منافسيه اليساريين هم الذين استولوا على السفارة الأمريكية في عام 1979 وقادوا خطاب البلاد المعادي للولايات المتحدة. لكن، لأنه كان ضعيفاً نسبياً في سنوات قيادته الأولى، فإن خامنئي قد اختطف ذلك الخطاب وأصبح أكثر معاداة للولايات المتحدة حتى من اليساريين الذين هجروا تدريجياً ذلك الموقف وأصبحوا إصلاحيين.
ولأن المرشد الأعلى القادم سيحمل على الأرجح منصباً اسمياً في البداية، فإن السؤال عما إذا سيكون مستعداً للتعاطي مع الغرب أم لا يصبح سؤالاً غير ذات أهمية خاصة. والسؤال الحقيقي هو فيما إذا كان “فيلق الحرس الثوري” سيعيد صياغة السياسة الإيرانية من خلال التفاوض مع الولايات المتحدة والتخلي عن صلفه، أم لا. والضغوط المتصاعدة على سياسات النظام النووية تؤذي بشدة اقتصاد الدولة وسيحتاج “فيلق الحرس الثوري” على الأرجح إلى اتخاذ قرار بشأن هذه المسألة في فترة ما بعد خامنئي لكي يقوّي موقفه. كما أن الانفتاح نحو الغرب وخصوصاُ نحو الولايات المتحدة سوف يساعد القادة العسكريين على كسب شعبية داخلية وشرعية دولية، وفي الوقت نفسه على ترميم الاقتصاد المتدهور.
ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا “فيلق الحرس الثوري” سيبدي استعداداً لوقف تقدم إيران نووياً أم لا من أجل الوصول إلى هذا الهدف. فمستقبل سياسة إيران النووية ربما يتوقف على متى تحدث وفاة خامنئي، وما إذا كانت البلاد قد حققت قدرة على تصنيع أسلحة نووية بحلول ذلك الوقت أم لا. ولو ورث “فيلق الحرس الثوري” نظاماً يملك هذه القدرة، فإنه قد ينظر إلى الانفتاح نحو الغرب كإشارة ضعف أو حتى كتهديد للأمن القومي. أما إذا ورث إيران بدون القنبلة، فستكون أول أولوية له هي تحقيق سيطرة سياسية واقتصادية كاملة بدلاً من تحدي الغرب من خلال الموقف النووي. ولذا يجب على المجتمع الدولي ألا يسمح لطهران بامتلاك هذه القدرة لأن إيران النووية في ظل حكومة عسكرية ربما ستكون حينئذ أكثر خطورة من إيران نووية تحت حكم خامنئي. وعلى أية حال، فمن المرجح أن تهتم الحكومة العسكرية قليلاً بالشرعية السياسية وبصورة أكثر بالسلطة والفعالية، وهي لن تتردد في استخدام القوة إذا لزم الأمر.
وعلى افتراض أن إيران لا تصل إلى تلك العتبة النووية، فمن المحتمل أن تتركز الأولوية الرئيسية لـ “فيلق الحرس الثوري” أثناء الفترة الانتقالية على تعزيز السلطة في يده، والمواجهة الحادة مع الغرب ستجعل ذلك الهدف أكثر صعوبة. ويبدو أن “فيلق الحرس الثوري” على وعي تام بخطأ فرضية “الاحتشاد حول العَلَم” ومفادها أن استثارة صراع مسلح مع إسرائيل والولايات المتحدة سوف يلهم الشعب الإيراني للتعبير عن تضامنه الوطني مع الحكومة.
وفي ضوء هذه الاعتبارات يمكن أن يشكل موت المرشد الأعلى فرصة فريدة من نوعها بالنسبة لواشنطن من أجل تشجيع التغييرات في السياسة الخارجية العدائية للنظام.وحتى لو لم تستطع واشنطن إقناع طهران ما بعد خامنئي بالانفتاح على الولايات المتحدة، فبمقدورها على الأقل ضمان أن لا تؤدي طموحات “فيلق الحرس الثوري” إلى تعريض مصالح الدول الأخرى في المنطقة إلى الخطر. ولأجل هذه الغاية، فمن الأهمية بمكان أن تبدأ الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون بإنشاء خطوط اتصال مع العديد من فصائل “فيلق الحرس الثوري”، عاجلاً وليس آجلاً، لأن هذه الفصائل تمثل القيادة الايرانية في المستقبل. وفي ظل حكم آية الله خامنئي لن تتغير سياسة الصلف النووي الخارجية للنظام ما لم يتم إضعاف المرشد الأعلى سياسياً. وقد وضع خامنئي نفسه في خندق الموقف النووي الحالي، ولو قُدر له أن يتراجع عن موقفه في هذا الموضوع نتيجة للضغوط الأمريكية فإنه سيواجه حينئذ أزمة سياسية كبرى، ربما لا تطاق، يمكن أن تكلفه منصبه. وبعبارة أخرى فإن السعي نحو صنع أسلحة نووية قد أصبح بالنسبة له قضية حياة أو موت، والتهديد الحقيقي بالقيام بعمل عسكري وشيك هو الشيء الوحيد الذي قد يدفعه لتغيير رأيه.
بناء عليه، فأكثر ما يهم هو التواصل مع القادة المستقبليين للجمهورية الإسلامية داخل “فيلق الحرس الثوري”. ولو نجح هذا التواصل فإنه ربما يعطي “الحرس الثوري” ما يكفي من الثقة لتحدي سياسات خامنئي المتصلبة حتى قبل وفاته.
مهدي خلجي هو زميل أقدم في معهد واشنطن، يركز على السياسة الايرانية والجماعات الشيعية في الشرق الأوسط.