كان لفصيل من تيار الإسلام السياسي (هو الإخوان المسلمين) شعارات تنادى بها، وهى تتأدى – في هذا الصدد – بأن (الإسلام دولة ودين)، وأن (القرآن دستورناً).
ولم تكن هذه شعارات ترتفع أو هتافات تتردد، بل إنها – كما يقول علماء الاجتماع – كانت بمثابة تشخيصات اجتماعية social Identifications، ترتفع وتُطلق وتُهتف باعتبارها تلخيصاً لمفهوم الدين وتركيزاً لمدلول الشريعة، تعد من فرط التكرار ومن وقْع التركيز، أن تصير هي الدين وهى الشريعة، بتحقيقها يتحقق الإسلام وتطبق الشريعة.
والمفارقة الصارخة أن الشعارين المنوه عنهما، ينأيان عن الصحة ويبعدان عن الصواب، لكن كثرة التكرار، وصيرورتهما تشخيصات اجتماعية (دينية) تجعل منهما غاية تتعلق بها الآمال وتسعى إليها الجهود، رغم ما فيها من تزييف ظاهر وتحريف واقع.
أ.. فلقد فرّق القرآن في آية منه بين الإسلام والإيمان، إذ جاء في الآية (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) سورة الحجرات آية رقم 13. فبهذه الآية يضع القرآن تفرقة حادة بين الإسلام والإيمان. فالإسلام يتعلق بالظواهر والشعائر، في حين أن الإيمان هو ما يقرّ في القلوب والضمائر.. وفارق كبير بين هذا وذاك.
ب.. والآية المنوه عنها آنفاً تضع تفرقة واضحة بين الأعراب والعرب. فالعرب – في مفهوم الآية – هم من يسكنون في الحضر، أي المدن والقرى؛ أما الأعراب فهم الذين يسيحون في المدر، أي الصحارى والفيافي؛ يبحثون عن الكلأ ويتبعون مصادر المياه، ولسان حالهم يقول (مطْرح ما ترسى دقّ لها. أي انصب الخيمة).
من صميم القرآن، ومن الآية المنوه عنها، يَضِح أن القرآن يهدف إلى خطاب المتحضرين أساساً، ويدعو غير المتحضرين ممن يسيحون في البوادي والفيافي إلى التحضر أولاً؛ حتى يمكنهم أن يؤمنوا بالله حقاً، إيماناً نابعاً من القلوب قارّا في الضمائر. أما إن لم يفعلوا فهم مسلمون، أي يقفون عند حدود الظواهر والشعائر.
ج.. ولفظ “دوْلة” بمعنى النظام السياسي لجماعة، أو لوطن، لم يرد في مفردات القرآن أبداً، ذلك أن الآية تجرى على أن (حتى لا يكون دُوَلةً بين الأغنياء منكم) سورة الحشر آية رقم 7، أي إن اللفظ الذي ورد في الآية هو لفظ يفيد التداول بين الناس (Circulation). أما الإسم واللفظ الذي ورد في القرآن وصفاً للجماعة فهو “أمة” وهو لفظ من أصل عبري يعنى القبيلة.
وقد تغير معنى لفظ “دُولة” على مر الأيام، كما يتطور كثير من الألفاظ، بمضي الإستعمال وبمرور الوقت، فصار “دوْلة” بمعنى الشوكة والعظمة. وقد استعمله كل من أبو الطيب المتنبي الشاعر، وعبد الرحمان ابن خلدون الكاتب الإجتماعى (العمراني). فقال كل منهما عن الشوكة والعظمة إنها دوْلة، يقصدان بذلك ما يجرى على ألسنة الناس حالا حين يشيرون إلى أسرة ذات جاه وسلطان فيقول إنها دولة هذه الأسرة.
وفى الخطاب الأول لنابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية حرص على أن يؤكد أنه لم يجئ هو وجيشه ليحارب المصريين، بل ليزيل دولة المماليك، بمعنى شوكة وعظمة المماليك آنذاك.
ولم يتحول لفظ دُولة إلى لفظ دّوْلة بمعنى النظام السياسي لبلد معين أو وطن بذاته إلا اعتبارا من دستور 1923 الذي عُنون بأنه دستور الدولة المصرية. وقد كان هذا استعمالا عصرياً للفظ الذي يقابل في اللغة الإنجليزية The state، وفى اللغة الفرنسية L’etat.
من كل ذلك يخلص أن الذي صاغ تعبير (الإسلام دولة ودين) حاد عن المعنى العلمي للفظي الإسلام، ودولة؛ بما أحدث اضطرابا وقلقاً في الفكر الديني والفكر السياسي عموماً، على النحو الذي سلف بيانه. وقد أدى ذلك ضرورة إلى التعلق بالمظاهر والشعائر، والوقوف عند معان مخطئة ودلالات غير صحيحة، انحدرت فيما بعد إلى قصر الإسلام على الولاء للتنظيم، والوقوف عند الظواهر دون اتخاذها بداية للوصول إلى الإيمان الذي يقر في القلوب ويستقر في الضمائر.
د.. لفظ “دستور” ليس لفظاً عربياً، وإنما هو لفظ فارسي يعنى القانون الأم أو الحاكم الرئيس، وقد نُقل إلى اللغة العربية بمعناه ومدلوله الأصلي.
وحينما كان يقال “الإسلام دستورنا” كان العقلاء يردون بأن القرآن دستور المسلمين الأخلاقي، لكنه ليس دستوراً في نطاق القانون. ففي المجال القانوني لابد من اللجوء إلى دستور وضعي (أي مفصل ودقيق) يبين منصب رئيس الدولة واختصاصاته وينظم سلطات الدولة في وضوح وتفصيل، ويشمل حقوق المواطنة بكل ما لها وما عليها.. إلى آخر ذلك.
وقد كان الرد من جانب الذين يرفعون شعار “القرآن دستورنا” أن يتهموا الدولة والآخرين – عداهم – بأنهم لا يحكمون بما أنزل الله، ومن ثم يكونون كافرين خارجين عن الإسلام، ويتعين من ثم محاربتهم.
ولما وصل الإسلام السياسي إلى الحكم، بدأ يطالب ويشارك بل ويقوم بنفسه بوضع دستور على المعنى القانوني، لا بالمعنى الدعائي الذي ساد زمناً وأحدث في المجتمع اضطرابا بالغاً؛ حتى انجلى الأمر فظهر الحق والصواب وبان الخطأ والتغالط.
في علم “أصول الفقه” أنه لابد من وضع ضوابط لكل لفظ وتحديد دقيق لكل مصطلح، وتسمى القاعدة “قاعدة ضبط المصطلحات”؛ وهى أمر ضروري حتى لا يحدث خلاف ويتسع إذا ما تشبث كل فريق بتفسيره هو للفظ الذي يستعمله، وإسقاط مفهومه على هذا اللفظ، دون إتباع المنهج العلمي السديد والجدل العقلي الرشيد.
إشارة – حُجبت عن النشر مؤقتاً المقالة رقم 13ب من هذه المقالات، لأنها تتصل بشخص موجود حالاً (حالياً) وراء القضبان.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة
ماذا يجرى في مصر (14)
افاض اللة عليكم من علمة لقد ضرب الاسلام السياسى مصرنا ف افقدها توازنها واعتدالها ووسطيتها وجلب معة الانانية والتخلف -شكرا للمستشار العشماوى على ما قدمة من اجل الوطن واعلاء راية الحق والعدل