يتساءل المفكر الإيراني مصطفى ملكيان: هل من العقلانية أن نعيش بصورة أخلاقية؟ بل، هل هناك أي فائدة من الحياة الأخلاقية؟ وهو تساؤل أساسي يهدف ملكيان إلى طرحه والإجابة عنه.
بداية، فإن العقلانية التي يشير إليها ملكيان هي بمعنى ألاّ تزيد “كلفة” عمل الإنسان عن “الفائدة” المرجوة من ذلك العمل. فإذا كانت الكلفة أكبر، لن نستطيع أن نطلق على العمل بأنه عقلاني. لذلك، لا يمكن أن تكون هناك إلا حالتان عقلانيتان: الأولى وهي التي تكون فيها الفائدة أكثر من الكلفة، والثانية أن تكون الفائدة والكلفة متساويتين.
إذاً، يطرح ملكيان هنا حكما أساسيا، وهو أن الحياة الأخلاقية تحتاج إلى كلفة، لابد أن تكون أقل من الفائدة المرجوة منها، أو متساوية معها. وعلى هذا الأساس، فإن كل عمل أخلاقي من شأنه أن يتبع هذا الحكم، بل كل الحياة الإنسانية إذا ما أرادت أن تكون أخلاقية، عليها أن تستند إلى تلك العلاقة المتبادلة بين الكلفة والفائدة. وتجارب الحياة أثبتت أن كلفة الحياة الأخلاقية عالية جدا، لذلك يجب أن نعي في أي اتجاه ستصب الفائدة؟
يعتقد ملكيان أن محاسبة الكلفة والفائدة ترتبط بعوامل ثلاثة: الأول بمدى ارتباط الفرد بالحياة الأخلاقية. الثاني بمسؤولية الفرد في مراعاة الحياة الأخلاقية. الثالث بالظروف الاجتماعية التي تساهم في انتشار الحياة الأخلاقية.
وحينما يصل الإنسان إلى استنتاج يرفض وجود فائدة ترجى من الحياة الأخلاقية، سيضطر إلى انتخاب أحد طريقين: إما أنه يعيش بصورة أخلاقية ويتجاوز أي نتائج متوقعة من ذلك، أو أنه يتابع عمله ويقيس بدقة الكلفة والفائدة المرجوة من ذلك.
وحسب ما يطرح ملكيان، هناك خمس رؤى رئيسية تشرح الفائدة من الحياة الأخلاقية، وكل واحدة منها تنظر إلى الفائدة بمعايير مختلفة.
الرؤية الأولى، والتي لها أكثرية من المؤيدين عبر التاريخ، تعتقد بأن كلفة العمل الأخلاقي هي “دنيوية”، وأن الفائدة المرجوة منها هي “أخروية”. بمعنى أنه لا فائدة تصب في جعبة الإنسان من العمل الأخلاقي في هذه الدنيا، بل سيتم تلقف الفوائد في الحياة بعد الموت.
هذه الرؤية تستند إلى 3 فرضيات: أ- وجود حياة بعد الموت. ب- أن طريقة الحياة بعد الموت هي نتيجة لطريقة العيش في الحياة الراهنة. ج- أن الفائدة التي سيحصل عليها الإنسان في الحياة بعد الموت بسبب العمل الأخلاقي، هي أكبر من الكلفة التي يقدمها في الحياة الراهنة، ففي النص الديني “الدنيا مزرعة الآخرة”.
في الرؤية الثانية، فإن الإنسان إمّا أنه لا يؤمن بالحياة بعد الموت أو غير مبال بذلك، أو ينكر وجود دنيا أخرى أو يكون لا أدريا تجاه ذلك. ورغم أن الإنسان في هذه الرؤية ينكر وجود الحياة ما بعد الموت، لكنه يعتقد بأن فوائد الحياة الأخلاقية تفوق الكلفة التي يتم تقديمها. فالحياة الأخلاقية وفق هذه الرؤية تعني وجود فوائد “فردية” في المجتمع تسمى “مطالب اجتماعية”، ويمكن الإشارة إليها في أمثلة الثروة والقوة والمقام والشهرة والجاه. فالفرد هنا يقدّم كلفة معينة في سبيل أن يمارس حياة أخلاقية، ومن ثَمّ يصل إلى بعض أمانيه الفردية التي تتماشى مع ظروف المجتمع.
لكن التاريخ يشير إلى أنه: لكي نمارس عملا أخلاقيا، يجب أن لا نفكر بمفردات مثل الثروة والقوة والشهرة و..و..و..، وأنه لابد أن نضعها خلفنا، وأن الإنتماء إلى أي عمل أخلاقي هو بمعنى فقدان الميزات الفردية لتلك المفردات.
الرؤية الثالثة تعتقد بأن الفائدة المرجوة من العمل الأخلاقي هي فائدة “اجتماعية”، وأنه يمكن تحقيقها في إطار ظروف المجتمع. فالعمل الأخلاقي، وفق هذا المعنى، يساهم في تحقيق خمس ميزات للمجتمع، وهي: النظام، الأمن، الرفاهية، العدالة، الحرية. ويعتقد ملكيان بأن هذه الرؤية تحتوي على نقاط ضعف عديدة. فلكي تتحقق هذه الرؤية في المجتمع لابد أن يعيش جميع أفراده – وليس جزء صغير منه – بصورة أخلاقية. أي أننا هنا سنكون أمام معضلة أساسية وهي “إما الكل، أو لاشيء”. ولو افترضنا بأن جميع أفراد المجتمع يعيشون بصورة أخلاقية، فإن الفائدة المرجوة من العمل الأخلاقي ستكون من نصيب الأجيال القادمة ولن يتحقق للفرد أي شيء منها. نقطة الضعف الأخيرة في هذه الرؤية هي أنه من أجل وصول المجتمع إلى مرحلة النظام والأمن والرفاهية والعدالة والحرية، فإن العمل الأخلاقي شرط أساسي لتحقيق ذلك، لكنه ليس الشرط الوحيد. فلو عاش جميع أفراد المجتمع بصورة أخلاقية، لن نستطيع أن نضمن الوصول إلى تلك الميزات الخمس.
الرؤية الرابعة ترى أن الفائدة المرجوة من العمل الأخلاقي تتعلق بالشأن الفردي. بمعنى أن الشخص الذي يعيش بصورة أخلاقية، من شأنه أن يكون مرتاحا نفسيا ونشطا في داخله، حتى لو لم يحصل على أي مردود خارجي اجتماعي جراء سلوكه هذا. إذاً، العمل الأخلاقي وفق هذه الرؤية له نتائج نفسية سيكولوجية، منها: الراحة والاسترخاء والأمان الداخلي والإحساس بمعنى الحياة.
ويعتقد ملكيان بأن هذه الرؤية لها سلبيات كثيرة، وذلك لأسباب متعددة، منها أن ذلك الاحساس النفسي بالاستقرار قد ينتهي مفعوله بعد فترة زمنية معينة مما قد يؤثر على السلوك الأخلاقي للفرد نفسه. ثم، هل النتائج النفسية التي تمت الإشارة إليها ظهرت بسبب العمل الأخلاقي، أم هي نتيجة لنصائح سابقة أوصت بممارسة العمل الأخلاقي؟ بمعنى، هل الصدق يجلب للفرد الراحة والاستقرار النفسي، أم الصدق هو بمعنى الاعتقاد بضرورة قول الصدق؟. وأخيرا، تشير التجربة التاريخية إلى أن من عاش بصورة أخلاقية في المجتمع، لم يصل إلى النتائج النفسية التي تمت الإشارة إليها، فالعديد من المؤمنين الصادقين قد لا يعيشون بصورة نفسية مريحة.
الرؤية الخامسة تختلف عن جميع الرؤى السابقة التي كانت ترى في العمل الأخلاقي وسيلة للوصول إلى هدف آخر، سواء كان ذلك الهدف اجتماعيا أو كان نفسيا أو جاء لتحقيق فائدة أخروية. فهي رؤى ارتبطت بأهداف خارجية ولم تكن تعمل لذاتها هي. في حين أن الرؤية الخامسة ترى لذة في ذات العمل الأخلاقي، وتعتقد بأنها جذابة بعيدا عن أي ارتباط خارجي. مثال على ذلك، أن الصدق وعدم الكذب هو عمل جذاب في ذاته، ولا ننتظر منه مكسبا خارجيا، ولا يعتبر وسيلة للحصول على غاية أخرى فردية كانت أو اجتماعية. فالرؤى الأربع الأولى كانت تهدف لتحقيق مطلب آخر، في حين أن الرؤية الخامسة هدفت إلى “حب الخير” ولو لم يكن في ذلك أي فائدة ترجى.
لذا، الجواب على السؤال: “هل هناك فائدة من الحياة الأخلاقية؟” أو “لماذا يجب علينا أن نعيش بصورة أخلاقية؟”، قد يعني أن نودّع الحياة الأخلاقية وفق الرؤى الأربع، في حين نستطيع أن نتأمل العيش بصورة أخلاقية، وفق الرؤية الخامسة، حينما نمتنع عن اعتباره وسيلة، بل حينما نعتبره هدفا في ذاته.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com