كتبتُ في مناسبة صدور العدد الأوّل: “الكرمل الجديد” أصبحت حقيقة وفي السوق. واليوم، مع صدور العدد الثاني لا اكرر تأكيد هذه الحقيقة وحسب، بل وأضيفُ إليها أيضاً أنها تصدر الآن في ثلاث طبعات: رام الله، وعمّان، والقاهرة.
احتفت المجلة في عددها الجديد (خريف 2011) بميراث محمود درويش، الذي كان يشكو دائما من عدم وجود قراءات نقدية تتناول عمله الشعري. وقد ضم هذا العدد قراءة نقدية بديعة لديوان “سرير الغريبة” بقلم الناقد والكاتب السوري صبحي حديدي، أحد الذين تخصصوا في قراءة وتحليل النص الدرويشي على مدار العقدين الماضيين.
وفي السياق نفسه خصصت المجلة ملفاً كبيراً للشاعر السويدي توماس ترانسترومر، الفائز بجائزة نوبل للآداب في هذا العام. ترجم القصائد إلى العربية الشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش، الذي إلى جانب كونه شاعراً يمتاز صوت خاص، وتجربة فريدة، نشر ما يزيد على عشرة كتب مترجمة من عيون الشعر الأميركي المعاصر. ولو فكرنا في الأمر بطريقة مجازية لقلنا إن ملفاً كهذا سيرضي محمود درويش، بالتأكيد، ففي القصائد المُترجمة لم تفقد الصور والمجازات الشعرية قوتها على الرغم من سفرها من لغة إلى أخرى.
وفي باب الشعر، أيضا، إضافة إلى قصائد لأبي هوّاش تمثل مقاربة شعرية لربيع الشعوب العربية، أو بالأحرى للدم في شوارع يخرج أصحابها مطالبين بالحرية، نشرت “الكرمل الجديد” قصائد للشاعر البحريني قاسم حداد، الذي يعد من أبرز الشعراء العرب، وأحد القلائل الذين لم يفسد بحثهم عن أفق ولغة جديدين موسيقى القصيدة وانضباطها الإيقاعي.
كما احتفت المجلة برمز آخر من رموز الثقافة العربية والعالمية، إدوارد سعيد، صاحب الميراث الكبير، فنشرت دراستين لغادة كرمي وإيلان بابيه سبق نشرهما في كتاب بالإنكليزية صدر عن مطبعة جامعة كاليفورنيا في مناسبة الذكرى الثامنة لرحيل إدوارد سعيد.
وأود في هذا السياق توجيه شكر خاص إلى محرري الكتاب عادل اسكندر وحاكم رستم، إذ لم يسمح كلاهما بنشر نصوص من الكتاب وحسب، بل وكتبا مقدمة مشتركة للنصوص المنشورة في الكرمل. وبالقدر نفسه تحية خاصة إلى غادة كرمي وإيلان بابيه، إذ وافق كلاهما على نشر نصه بالعربية، واتسمت الموافقة بقدر واضح من الحماسة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بميراث إدوارد سعيد، لفت إيلان بابيه الأنظار إلى حقيقة أن ما يعرف بالمؤرخين الجدد في إسرائيل تأثروا بكتابيه “الاستشراق” والثقافة والإمبريالية”، وهذا التأثير طال علماء الاجتماع وحتى أوساط المستشرقين التقليدية في إسرائيل.
في باب الرواية نشر الياس خوري، وهو أحد أبرز الروائيين العرب، فصلاً من روايته الجديدة “سينالكو”. وفي الباب نفسه نشر إبراهيم نصر الله فصلين من رواية بعنوان “قناديل ملك الجليل”. إبراهيم نصر الله شاعر كبير، لكن اهتمامه بالرواية، ما نشره في هذا الحقل حتى الآن، يضعه في الصف الأوّل للمشهد الروائي العربي. وفي روايته الجديدة يحاول كتابة رواية تاريخية عن ظاهر العمر.
الرواية التاريخية نادرة في الأدب العربي، رغم أن نجيب محفوظ، مؤسس الرواية العربية، بدأ مشروعه الإبداعي الكبير بكتابة روايات تاريخية. وفي باب النصوص السردية، نجد أيضا، قصة قصيرة بعنوان “جنيّات النيل” للروائية والقاصة المصرية منصورة عز الدين، وهي من الأصوات الشابة الجديدة في المشهد الأدبي في مصر.
ثمة، أيضا، “كلام الشهود” الذي يضم شهادات لكتّاب عرب من الجنسين يشهدون على زمنهم، ويتأملون أحوال الماضي والحاضر، بما يشبه مقاطع من السيرة الذاتية. وفي هذا الباب كتب محمود شقير، القاص والكاتب الفلسطيني الكبير “تأملات يساري فلسطيني في الربيع العربي”. وكتبت الروائية والكاتبة السورية سمر يزبك نصاً بديعاً بعنوان “تقاطع نيران: يوميات الانتفاضة السورية”، سجّلت فيه تفاصيل صغيرة في حياة يومية على حافة الخطر في ظل مطالبة السوريين بالحرية والقمع الوحشي للنظام.
وقد حفل باب المكتبة بمراجعات وقراءات كثيرة تصدرتها قراءة الكاتب اللبناني حازم صاغية للعلاقة بين الشيوعية والثقافة، وجاءت في الباب نفسه قراءة سليم تماري لكتاب إلهام مقدسي “شرق المتوسط وتعميم النزعة الراديكالية”، وقراءة وليد أبو بكر لرواية حزامة حبايب “قبل أن تنام الملكة”، وقراءة مهند مصطفى لكتاب بعنوان “التعددية الثقافية”. بينما أسهم كاتب هذه السطور بقراءة لكتاب “في مصيدة الخط الأخضر” ليهودا شينهاف، إضافة إلى نص في باب الدراسات بعنوان “الإيروس في أرض حرام”.
أخيرا، وجّهت المجلة في افتتاحيتها تحية خاصة إلى من رحلوا في الأشهر القليلة الماضية، إلى الشاعرين طه محمد على، ويوسف الخطيب، وكذلك إلى روح المؤرخ اللبناني الكبير كمال صليبي.
هل قلنا كل ما ينبغي أن يُقال؟
ثمة الكثير مما يستحق أن يُقال وفي المقدمة منه تكريس حقيقة أن هذه المجلة لم تكن لتصدر، لولا الدعم المعنوي الكبير من جانب الياس خوري، وصبحي حديدي، وفيصل درّاج، ومحمود شقير، وسليم تماري، وحازم صاغية، وهؤلاء أسماء لامعة في المشهد الثقافي العربي. ومع هؤلاء وقبلهم الدكتور حنّا ناصر.
كل ما في الأمر: أصبحنا حقيقة واقعة، وفي السوق، لدينا مجلة رفيعة فلسطينية/ عربية تتكئ على ميراث واسم عريقين، وتصدر في ثلاث طبعات. العدد القادم (عدد الربيع) سيحتفي بمحمود درويش في ذكرى ميلاده، وعلى هذا وفي هذا فليتنافس المتنافسون. أما الزبد فيذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
khaderhas1@hotmail.com