الانذاران الإسلاميان في تونس والمغرب لم يكونا كافيين لردع مفاجأتنا. كنا في سريرتنا نحلم بأن تفاجئنا انتخابات ما بعد الثورة المصرية، أو على الأقل أن توازن هذه الانتخابات بين «جناحي» مصر السياسيين، الموغلين في القدم، بل الأقدم من بين الثنائية العربية منذ محمد علي باشا، والتي تسبّبت باستقطاب حاد عشية الانتخابات. إنها ثنائية الأصالة أو المعاصرة، وقد كُتب لها عمر جديد اليوم مع اكتساح الإسلاميين العرب برلمانات ما بعد الثورة. كنا نتمنى أن يفاجئنا المصريون، على الأقل المصريون، كما فاجأونا في 25 يناير، معوّلين بذلك على الإرث الحداثي المصري، ومتناسين، في الوقت نفسه، أن حزب «النهضة» الإسلامي التونسي ربح ثلث الأصوات في بلد لا يقل عراقة في إصلاحاته العلمانية.
مجرّد أمنية… انتهت، مثل الأمنيات غير المتبصّرة، بإحباط يتكرر بموجبه السؤال عن أسباب هذا الاكتساح. سؤال يُعاد الى الواجهة، ملمّعاً، وكأنه جديد. «أسباب» الاكتساح الإسلامي أشبع بحثاً، قبل حصوله، مثل «أسباب» الثورة بعد اندلاعها. وهذه الأسباب هي، من البديهية بحيث أنه يسهل إدراجها تحت الشيء ونقيضه. لذلك فلنأخذ منها فترة من السماح، ولنغص في معنى ما يحصل. قد يفهمنا شيئاً آخر. قد…
سقوط الطاغية كان مثل كشف لحجاب عن أسرار قناعات الشعب، وعما ينغل في دواخله من طاقات منظمة. الأسرار هذه لم تكن عميقة، كانت نصف مكشوفة. كان يمكنك أن تخمن، أن تلاحظ، أن تحدس. وهذا الجزء المكشوف عن الشعب كان يشي بالدرجة التي بلغته أسلمته على يد كل الطاقات المنظمة، محظورة كانت أو مدعومة. سلطة مبارك كانت تحارب الاخوان المسلمين أمنياً، وترعى السلفيين كاحتياط ضدهم، أي تتلاعب بالاثنين، والاثنان يردان، كلٌ بحسب أجندته…. تحاربهم سلطة مبارك، لكنها أيضا تدعمهم ايديولوجياً بكل أنظمة صناعة المعاني التي بحوزتها: دعاة، افتاء، إعلام، تعليم، قوانين… كل ما كان يبث من معانٍ على الملأ كان يجب أن يكون «إسلامياً«، ذا صفة أو لون أو لسان أو تاثير أو لغة… إسلامية. عملية أسلمة المجتمع ليست من اختراع مبارك. إنها من بنات خيال السادات، وقد دشنها بتغيير المادة الثانية من الدستور التي تقول بأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين. والبقية، أي خطى الأسلمة الساداتية قصتها مثيرة، تحتاج الى من يرويها. لكن الوقت، مفسد كل السلطات، فعل فعله، وأفرغ في طريقه تدريجياً ما تبقى من شرعية الحكم السلالي العسكري الذي جسده مبارك بعد مقتل السادات. استنزاف الشرعية هذا كان لا بد أن يُملأ فراغه، فحصلت عملية الأسلمة الفكرية شيئاً فشيئاً، الى أن أصبحت الشرائح الجماهيرية والنخبوية على حد سواء لا تتلفظ بحرف من دون أن تسنده الى الشرعية الدينية، قرآناً كريماً كان أم حديثاً أم سنن الصحابة وأقوالهم. في تلك الأوقات السابقة على الثورة، بدا الأمر مفارقاً: نتيجة الأسلمة هذه، كان الطلب الاجتماعي السياسي على الدين يفوق قدرة الاخوان المسلمين على استيعابه. منظَّمون وأثرياء، صحيح، ولكنهم لا يحتملون التوسع إلا على حساب طاقاتهم التنظيمية. السلفيون ملأوا هذا النقص بعد الثورة. هذا السيناريو ماركة مسجلة باسم المصريين. ولكنه تكرر في جميع البلدان العربية. الشرعية المنقوصة للأنظمة كان يتم التعويض عنها بتشجيع كل مظاهر الأسلمة. ليس المقصود القول إن الأسلمة هي فعل النظام وحده، إنما هي أيضاً نتيجة للفراغ الذي خلفته وراءها كل الاتجاهات الأخرى غير الإسلامية، من ليبرالية وتقدمية وحداثية وعلمانية إلخ… والتي فرغت ذخيرتها، فلم يبق في الميدان غير تسييس الإسلام ليحتل مكانها.
لؤم التاريخ وحده هو المسؤول عن اكتساح الإسلاميين للسلطة في البلدان العربية بعد الثورة. الشباب الثوار هم الذين أشعلوها. وهم الذين استمروا بالدفاع عنها ضد العسكرة. والذين قطفوا ثمارها هم الاخوان أولاً، الذين التحقوا بها عملاً بقاعدة ذهبية أبدية، من أن الأكثر ترشحاً للسلطة الجديدة بعد تغير جذري ينذر غيره بأنه سوف يحققه، عليه أن يسارع الى قيادة هذا التغيير الذي لم يكن هو صانعه. فيما السلفيون كانوا ضد الثورة، ينبغي ألا ننسى أنهم كانوا احتياطيي النظام، وتمتعوا بعد الثورة بانطلاقة لم يكن لهم اليد فيها، إلا قليلاً. هذا ما جعل أحد أبرز المعلقين المصريين يكتب، بعد صدور النتائج الأولى للانتخابات: «الرابحون لا يتحدثون باسم الثورة»، «الديموقراطية تأتي بغير الديموقراطيين»، «الخيار الديموقراطي أتى على حساب الثورة» إلخ. وأبلغ الوقائع الرمزية على ذلك هو أن جورج اسحق، مؤسس حركة «كفاية» عام 2003، ومن أوائل النازلين الى الشارع احتجاجاً على التمديد لمبارك والتوريث لابنه، خسر الانتخابات في دائرته بور سعيد مقابل المرشح الاخواني المغمور أكرم الشاعر…
إذاً، الموجة الثورية العربية أتت بالإسلاميين الى السلطة الجديدة. وفي سياق عام مشجّع، يعبّر عن الوحدة الثقافية العربية كما لم يعبر يوماً. مثل كرة ثلج (أو كرة نار؟)، تنذر بالمزيد، بل يمكن القول إن قوة دفع بلوغ الإسلاميين السلطة كانت أقوى من قوة دفع الثورة التي أتت بهم. صحيح أن الاخوان المسلمين المغاربة استفادوا من انتفاضة حركة 20 فبراير، التي دفعت الملك الى المبادرة الى إقرار الإصلاحات الدستورية، وإحدى نتائجها فوز الاخوان. ولكن في المغرب لم تحصل ثورة. كما لم يحصل شيء بعد في الجزائر، لا ثورة ولا صعود إسلاميين الى البرلمان. ومع ذلك، في سابقة لم تحدث منذ سنوات، وبعد فوز اخوان المغرب، تعرضت فتاتان للهجوم بقنابل المسيلة للدموع من شاب كان يستنكر عدم ارتدائهن الحجاب. والمعروف أن هكذا ممارسة شبيهة بتلك التي كانت الجماعات الإسلامية المسلحة تقوم بها في تسعينات القرن الماضي.
كذلك مصر، التي لم ينتظر إسلاميوها انتهاء الجولات الانتخابية المتبقية ليعدّوا لمعركتهم المقبلة مع القوات المسلحة. من يحكم مصر؟ هم أم الجيش؟ شعار الاثنين مشترك، «المدنية»: الاخوان يريدون دولة مدنية، والجيش كذلك. ولكن مع فارق، أن «مدنية» الاخوان تعني نزع الصفة العسكرية عن الحكم، «مدني«، أي غير عسكري؛ فيما «مدنية» الجيش تعني لا دينية الدولة المنشودة. قد يحتدم الصراع بين الطرفين الأقوى وقد ينتهي بصفقة. ولكن في كل الأحوال لن تكون النتيجة لصالح الفكرة التي أشعلت الثورة. أي دولة قانون ومواطنة وتداول ومؤسسات، دولة لا دينية ولا عسكرية. لا لن تكون.
في الضفة الأخرى من المشهد يقع معسكر الخاسرين (مؤقتاً؟) في انتخابات ما بعد الثورة. ماذا نسميهم؟ غير الإسلاميين؟ إنه تعريف سلبي، لا يصف إلا جانباً من فكرتهم. ديموقراطيون؟ تعريف حصري، وغير صحيح، يفترض بأن لا ديموقراطيين غيرهم. مدنيون؟ أي غير عسكريين، أم غير دينيين؟ أم الاثنان معاً؟ تعريف يوجب التوضيح، ويبقى عائماً إن لم يُفصّل. وطنيين؟ هو تعريف قليل التداول، ولكنه موجود، ولا حاجة الى القول بأنه يحمل نفس الصفة الحصرية للـ»الديموقراطيين«. أما بقية التعريفات من حداثيين ويساريين واشتراكيين وليبراليين وناصريين وقوميين وعلمانيين وتقدميين… فهي إما بائدة أو مفوّتة أو ناقصة أو صاحبة سمعة أو، ببساطة، فارغة من المضمون. الفئة الوحيدة التي تحتفظ لنفسها بصفة هي ثوار التحرير، ولكن ما ينقصهم هو الصفة السياسية، خصوصاً بعدما صار لمعظم الأحزاب شبابه في الميدان. الأمر هنا لا يتعلق بمجرد تسميات، إنما بهوية فكرية وسياسية. وغياب الهوية السياسية يجعلها لقمة سائغة، أو كبش فداء لأي صفقة بين الاخوان والعسكر، أو أي صراع.
إن عملاً طويلاً ينتظر هذا الفريق إن رغب بأن لا يتحول الى ضحية من ضحايا الثورة، بعدما كانت إحدى فصائله هي صانعته. والعمل المفترض هو على النفس أولاً، وعلى العلاقة مع الرابحين، مع طروحاتهم وممارساتهم، وعلى العلاقة مع جمهور أولئك الرابحين، توسيعاً وتعميقاً. والخطوة الأولى بلا ريب هو القرار بعدم الانكفاء الى الأسى والتحسّر، ثم التشكّل كمعارضة قوية تتوحد طروحاتها وتتفّتح وتتبلور في خضم معاركها مع الأكثرية المنتصرة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل – نوافذ