بين “كتائب الانظمة” و”التشبيح” علائق ووشائج قربى وغاية واحدة هي الحماية، او الاستيلاء على السلطة والمجتمع والمؤسسات بقوة البطش والترهيب، ومصادرة حق الانسان بإنسانيته فضلا عن مواطنيته. بينهما ايضا تناغم على استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لترويع الناس باعتبار ان المجتمع والدولة والانظمة شؤون منزلية للحاكم كما تظهر الوقائع. وبينهما رابط اساس لا يستهينان في الذود عنه وحمايته وتعميمه، الاوهو تهشيم الدولة وتهميشها في حياة المجتمع والاعلاء من الانتماءات العصبية والمذهبية والدينية لاضفاء الشرعية على الفوضى، ولتبرير الانزواء وإقامة كيانات طفيلية في الامن والسياسة والادارة على حساب الدولة، ويتم عبر ذلك كله تعميم الخوف وتسخيره للاعلاء من فضيلة الطاعة والتخلي عن المسؤولية الوطنية، وتبرير ادعاءات التميّز داخل المجتمع، وتقبل الخلل في بنيان الدولة، لتهميش اي رأي يدعو لاصلاح احوال الانظمة ومسارها، او للتواضع امام الذات والمجتمع، اودعوة لبناء الثقة مع المواطنين، وترميم ثقة المواطن بنفسه وبالسلطة.
كلّ ذلك من أجل أن يزدهر مسار تأبيد الخلل وتزيينه، لإظهار الدولة الديمقراطية، كمنجز انساني وحضاري، خيارا مستحيلا عصيا على فهم الناس وعلى سلوك العرب افرادا وجماعات.
التشبيح ليس سلوكا ماديا اداته السلاح او المال او القوة العضلية فحسب، هو نتاج ذهنية ومنظومة من القيم لا تولي الانظمة والقوانين العامة اي احترام، ولا ترى للكائن الانساني اي حقوق ولا تعترف بكيانه الذي يكتسب احترامه اولوية تأتت من احترام الخالق الذي كرمه عن بقية المخلوقات بالعقل، وتأتت من شرعة حقوق الانسان دنيويا. والذهنية هذه تعتبر ان امتلاك القوة المادية يبرر استخدامها التعسفي على من هو اقل قوة. كتائب الانظمة هي تلك التي صارت من التجليات التي ترمز الى الاستباحة، حتى للقوانين التي جرى تفصيلها على قياس الحاكم ونظامه المتسلط. انها تعبير عن فلتان غرائز السلطة من اي عقال. بين “الكتائب” و”التشبيح” ذهنية تتكشف ابعادها في ممارسة العمل السياسي، بكل ابعاده الامنية والاجتماعية والاقتصادية وصولا الى القضاء. فكلاهما يحيا على موت القانون وعلى تسفيه الحقوق الانسانية وعلى القوة الغاشمة.
بهذا المعنى تتجلى السياسية، ولاسيما على مستوى السلطة في لبنان، من خلال إدارة شؤون الدولة بهذا السلوك المقوض للدولة، كما هي احوال معظم مؤسساتنا الدستورية والقانونية، وما ينضح به واقع اكثر مؤسساتنا الامنية والعسكرية، وما هو ادهى التشبيح على السلطة القضائية وفيها، لتبدو وسيلة بيد السلطة يجري تقاسم احكامها بين اركان السلطة لصالح خدمة نفوذهم. الى حد ان نسأل بخيبة عن اهلية السلطة القضائية في تولي التحقيق واصدار الحكم في جريمة 14 شباط 2005 وبظلّ المطالبات التي دعت الى تحمل القضاء اللبناني مسؤولية هذه القضية كاملة.
“التشبيح” و”كتائب النظام” ليستا ظاهرتان استجدتا في زمن الربيع العربي، هي من الاسلحة الكتومة التي افتضحها هذا الربيع، بعد ان جلجل صوتها بأرواح الناس وكراماتهم دون وجل. وفي المشهد السوري، وامام دعوات الاصلاح السياسي المزمنة بلا رد الا السجون والمزيد من التسلط من النظام الاسدي، لم يسع النظام امام انفجار الثورة الموضوعي الا الايغال بالتشبيح واستباحة كتائب الشبيحة المجتمعَ وارواحَ الناس واجسادَهم، بعدما استباحت النظام وتغوّلت الدولة. فنموذج “رجل الأعمال” رامي مخلوف هو نموذج لهذه الكتائب والتشبيح في بعديه المافياوي والامني، ومثال يرمز إلى الكيانات الطفيلية التي تمتص ثروات الدولة وتنتعل قوانينها. وفي لبنان الذي ينحو منذ زمن نحو اعتماد الذهنية ذاتها في التعامل مع مصالح الدولة، نشهد في عهد الحكومة الحالية المزيد من تحفيز ظواهر الشبيحة بالمعنى السياسي والميداني، هذا رغم تولّي “الشبيحة” السلطة وإمساكهم بالاجهزة الامنية وغيرها على اختلافها.
وتستمر ظاهرة “التشبيح” اللبناني على اختلاف عاهاته، من خطف المعارضين السوريين في امتداد لـ”التشبيح الشقيق” إلى الخوّات في بعض المناطق “على أسوأ” مما كانت عليه الحال في أيام الحروب الأهلية، وصولا إلى عودة الحديث عن الإغتيالات، وهو أعلى مراحل التشبيح، حين يصير السياسيّ، أو الزعيم، أو الصحافي، المعارض لـ”الشبيحة” معرضا للقتل.
التشبيح الذي وصل إلى الشاشات وبات إستعراضيا على مرأى سلاح الكاميرا والإعلام، في طريقه إلى الهزيمة. في شوارع سوريا، حين يسحل شبّيحا معارضا ثائرا، ما نراه هو كاميرا تقاتل الشبّيح، وتأخذه إلى صندوق التاريخ: إنها علامات نهاية تاريخ الشبيحة في عالمنا العربي.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد