من بين اللاءات الثلاث التي رفعتها المعارضة السورية، «لا تسلّح لا طائفية لا تدخل خارجي»، فان الـ»لا» الاولى، العسْكرة، هي التي تقرر مصير الاثنتين الاولين، ومستقبل الثورة برمتها.
لماذا؟
لأن العسكرة، لو حصلت، لسوف تجرّ في طريقها الاحقاد الطائفية، الدفينة وشبه المعلنة، الى التعبير عن نفسها بالنهج نفسه الذي عبّر به النظام. النموذج الأقوى، الذي سوف يصوب نحوه السلاح، سوف تتم محاكاته، وبقوة دفع ذاتية وغريزية، وبالخروج من كل القيوده الثقافية-الحضارية. يكون ما تكبده حامل السلاح الجديد طوال أشهر التظاهر القاتل، ما وضعه في سريرته، وما خزّنه في صدره من غضب صدره، مثل حمم بركان اخرجها انفجار من بطن الارض؛ سيلٌ من الحِمَم تحرق بتوهج نارها المتدفّقة كل حياة تعترض ركضها نحو البعيد.
حامل السلاح في هذه الحالة، السورية، سوف يكون مثل ذاك الذي سبقه اليه من بين اللبنانيين والفلسطينيين الذين عسكروا نضالهم ضد اسرائيل، فتبنوا اساليبها، واصبحوا يشبهونها، حتى في «نضالهم» المدني، غير العسكري، وغرقوا في بحور الحرب الاهلية الدائمة. ان يبقى النفور الطائفي «ثقافيا» أو «مدنيا»، على كل علاته، على كل احباطاته، وعنفه اللفظي، خير من ان يخرج محمولا على سلاح، خفيف أو ثقيل أو أبيض. لذلك فان الاخفاق في رفض العسكرة سوف يؤدي حتما الى الاخفاق في رفض الطائفية.
العسْكرة ايضا، لو اعتمدت، لسوف تفتح الباب على مصراعيه امام التدخل الخارجي. من أين يأتي سلاح الدعم إن لم يكن من الخارج؟ اللبنانيون والفلسطينيون، هنا ايضا، اصحاب تجربة رائدة في هذا المجال. في نضالهم المشترك أو المنفصل من اجل تحرير الاراضي المحتلة لم يتركوا ممولاً، مستثمراً في السياسة، يعتب عليهم. ممولون انهارت عظمتهم الآن، وممولون يَعِدون أنفسهم بمناطق نفوذ وأذرع اقليمية جديدة. الجميع مرّ من هنا، كما يحاول الجميع المرور بسوريا، حتى الآن سياسيا ولوجيستيا؛ ولا احد يعلم متى يكون عسكريا، اذا ما حزمت المعارضة أمرها وقررت تحميل شبابها السلاح دفاعا عن ثورتها. اذن اول الطرق للاطاحة بالـ»لاءات» الثلاث هو ضرب الـ»لاء» المحورية، تلك المرفوعة ضد التسلح والسلاح.
ونكون ساعتئذ كما كنا بعد شهرين من هزيمة حزيران 1967 امام مجموعة اخرى من الـ»لاءات» الثلاث: «لا صلح لا تفاوض لا اعتراف» قبل ان «يعود الحق الى اصحابه». «لاءات» لم تصمد ولم تثمر ولم تفلح في استعادة شيء (الغريب في الثقافة السياسية العربية ذاك المخزون الهائل الجهر بالرفض، يقابله فقر وقحط في المبادرات).
لكن خسائر العسْكرة لا تقتصر على الاطاحة بلاءات المعارضة. انها تنال ايضا من قوتها البشرية. معروف وواضح ان النظام يتمنّى العسكرة هذه. كل فكرته تدور حولها. كل الامر بالنسبة للمتكلّمين باسمه لا يعدو كونه «مؤامرة» تنفذها «جماعات» أو «عناصر مسلحة». وقتله للمتظاهرين ليس سوى حملة «تمشيط امنية ضد هذه العناصر». الآن، ماذا لو كانت هذه الرواية صحيحة؟ هل كانت ستدوم حملة التمشيط الامنية هذه ستة أشهر ونصف من دون انقطاع يوم واحد؟ الرواية الرسمية تكذب نفسها بنفسها: فلو كانت صحيحة، لسحقت العناصر المسلحة منذ الاسبوع الاول. فالقوة الضاربة للنظام ليست بالهينة؛ انها اجهزة متداخلة ومتشابكة وممولة ومدربة ومجهزة. واذا باشرت المعارضة تسليح نفسها ابتداء من هذه اللحظة، لن تصل الى مستوى قدراتها الا بعد عقود. اذن بلغة «ميزان القوة» العسكري، قد لا تربح الثورة شيئا بمحاربتها النظام عسكريا.
ولنفترض العكس: اي ان تتسلح الثورة وتكسب معركتها ضد النظام. في هذه الحالة سوف يكون بديهيا ان الحكام الجدد هم قادة الذين حملوا السلاح. واي رفض لهذا الحكم الجديد لن ينجم عنه سوى صراع مضاعف على السلطة، اين منها سلطة «حزب الله» اللبناني، الذي ارغمنا على القبول بفكرة انتصاره التاريخي على اسرائيل، فبات هو المتحكم بأمرنا، منذ لحظة اعلانه عن هذا الانتصار؟
«صراع مضاعف»، نقول، لأن مرحلة ما بعد الثورات عادة، حتى السلمية منها، هي مرحلة صراع سلطة بين الذين شاركوا فيها، ثم بينهم وبين الذي شاركوا بقدر أقل والذين لم يشاركوا بتاتاً. اما بعد الثورات المعسكرة، فسوف يضاف اليها صراع ثالث ورابع، يقوم بين الذين حملوا السلاح، وبينهم وبين كل الآخرين. وبما ان حملة السلاح هم الاقوى «على الارض»، فسوف يغلبون «المدنيين»، الذين عملوا قليلا او كثيرا، ولكن من دون سلاح. وعندما يربح حملة السلاح، لا حاجة للكلام عن الديموقراطية، والتداول والقانون الخ. وساعتئذ يكون الاعلان عن فشل الثورة الديموقراطية مدويا. ولن يتغير شيء غير شخص الحاكم وصورته.
الا ان رفض التسلح يضع السوريين المعارضين للنظام امام مجزرة ليس معروفا حدودها ولا خواتمها. فالنظام يحصد الارواح يوميا ويبدع في الجرائم التي يرتكبها. وصلت به الامور الى حد تقطيع اوصال الذين يخطفهم ويبتر اعضائهم ويسلخ جلودهم (آخر ضحاياه شابه في 18 من العمر، زينب حسني، سلخ جلدها وتقطعت اوصالها بعدما خطفها الامن للضغط من اجل ايجاد اخيها الملاحق). ويمكن بسهولة تصور الحال النفسية للمتظاهرين الذين ينزلون يوميا الى الساحة ويعدون العدة للموت قتلا او قنصا او سحقا… الى متى يمكنهم الاستمرار بالنزول؟ وهم يقتلون كالعصافير في شوارع بلادهم غير المحتلة، صاحبة السيادة؟ هل نتصور انهم سيبقون على سلميتهم من دون ان تتحرك لديهم نوازع الردّ او الانتقام او التشنيع؟
أكثر من ذلك: المثابرون على القتل، وبهذه الوتيرة الجهنمية، ماذا يفعلون عندما تنتهي المعارك؟ هل يعودون مواطنين عاديين يحترمون نظاما أو قانونا أو عرفاً؟ وضحاياهم، في حال كتب لهم التاريخ الانتصار عليهم، كيف سيتعاملون معهم؟ بأية صفات سوف ينعتونهم؟ هل يعاملونهم بالكياسة المطلوبة تجنبا لحصول ما حصل في العراق بعد سقوط صدام والبعث العراقي، مثلا؟ هل سيكون هناك ما يكفي من القوة «العقلانية» لردع المنتصرين عن الثار، الشنيع، والثأر المضاد، الأكثر شناعة؟
ان دعوة المعارضين السوريين الى عدم استخدام السلاح هي طبعا محمودة. ولكنها تتأرجح بين اقصى السينيكية، واقصى الطهرانية: سينيكية لأنها لا تقدم افقا غير التقدم على مذبح التظاهر القاتل، التقدم اليومي، من دون كلَل. وطهرانية لأنها تتجاهل مخزون العنف المضاد الذي تختزنه النفوس المعرّضة لعنف منظّم على امتداد زمن طويل.
وما يسرّع من هذا الانجراف هو الضعف الصميمي لثقافة اللاعنف السياسي في ربوعنا. فالرجولة والشرف والتحرر وكل الاشياء التي تثير مشاعرنا السياسية مرتبطة بوجه من اوجه العنف، وعلى رأسها طبعا السلاح؛ «السلاح زينة الرجال». لذلك فان الدعوة الى السلمية، وهي دعوة ثقافية بامتياز، وليست دعوة طبيعية او غريزية، تتلمّس أكثر من الالحاح. تحتاج، لكي تحيا، الى رجال ونساء اتقنوا فنون عدم العنف وسبله وتعرجاته وطرق حمايته، الروحية منها والعملية. تحتاج الى الوقت، خصوصا الوقت.
لا حل لهذه المعضلة في المدى القريب. ولكن مجرد ادراجها ضمن «اللاءات» الثلاث في برنامج المعارضة يفتح امامها الافق العريض لمناقشتها واغنائها وتفاعلها مع الواقع. سيما وان المعركة تبدو طويلة. وهذه نقطة قوة للمعارضة لا نقطة ضعف، اذا ما اخذت على عاتقها المهمة.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
في احتمال عسْكرة الثورة السورية كم أنتِ على حق في كل فقرة من فقرات مقالك هذا. على ما يبدو، فاننا لم نتعلم من الماضي القريب ولا من تجربة اخوتنا في الدول الشقيقة . لقد لمّحتِ في مقالك الى الجهات التي موّلت وسلّحت مجموعات ومنظمات في فلسطين ولبنان وغيرهما والى الجهات المعنية اليوم بتمويل وتسليح الثورة في سورية لكسب مناطق نفوذ جديدة او لخدمة مصالحا على حساب شعوبنا. حبذا لو أفصحتِ عن اسماء هذه الدول او الجهات كي يعرف القاصي والداني ما يجري وراء الكواليس. لم يعد اليوم احد يشك في نوايا رئيس وزراء تركيا اردوغان استعادة فرض النفوذ التركي على… قراءة المزيد ..