قاومت كثيرا الكتابة في هذا الموضوع، محاولا تجنب الخوض في أمور مدينتي التي أحب. مردّ ذلك بعدي عن قلب الأحداث، كيلا تنالني اتهامات جاهزة وكلام بات شائعا يتصدره قول: “من يأكل العصي ليس كمن يعدّها”. قررت ألا التفت الى ذلك واعتبرت الصمت سلبية لا محل لها الآن في ظل سوريا تغلي بكل شئ، وكان لا بدّ من وجوب الخوض في السؤال الذي يؤرّق كل محبّ للرقة: لماذا تتخلف عن شقيقاتها؟ لماذا الرقة يخيّم عليها سكون المقابر بينما أغلب المحافظات والقرى والبلدات السورية تحفر كل يوم وكل جمعة قبر النظام وتروي أرضا عطشى بدماء شبابها؟
أستعرض صفحات الثورة السورية على الفايس بوك، انتقل من مظاهرة الى أخرى، أجول متنسما عبق الحرية في شوارع درعا وساحات حمص وحماه ودير الزور وقامشلو وادلب والسلمية واللاذقية ودمشق وريفها وكل ساحات الحرية التي انتزعت اسمها رغما عن انف النظام، وعندما لا أجد “الرقة” أحزن ويلفني شعور ثقيل هو مزيج من الحسرة والخجل.
سُألت في بداية الثورة كثيرا من قبل أصدقاء: أيّ المحافظات مرشحة لتهز عرش النظام؟ لا أدري ان كانت اجاباتي وقتها دقيقة واقتربت من الصواب، انما أجزم فيما يتعلق بـ”الرقة” فقد قلت وقتها: “ان خرجت “الرقة”، فانها ستتأخر كثيرا لتلحق بركب شقيقاتها ولي في ذلك أسباب مختلفة أضعها هنا للنقاش.
ربما “الرقة” في تركيبتها السكانية تشبه كل العواصم الكبرى، والعواصم دائما لا هوية لها، وعندما تنتفي الهوية تخفت وتتلاشى العصبية بالمعنى الخلدوني الايجابي والصاعد. ولو فتحنا قوساً هنا، ربّما مدينة “حلب” تدحض هذا التحليل حيث التجانس السكاني لا ينقصها، انما سبب انكفائها حتى الآن له أسباب أخرى، هذا المقال ليس بصددها. أغلق القوس وأعود الى “الرقة” ومما أتى “ضياع الهوية” الذي ربما بسببه تتخلف الآن عن اللحاق بركب الثورة.
معروف أن “الر”قة مدينة. وان كانت على الفرات وتقع على بعد 50 كم فقط عن ثاني أكبر السدود في الوطن العربي، وتعتبر مع شقيقاتها، الحسكة ودير الزور “سلة الغذاء” في سوريا، الا أنهنّ ربما من أكثر المحافظات السورية بحاجة الى التنمية واهتمام الدولة، وهذا موضوع لم يعد محل جدل وخلاف الا مع مطبل ومزمر للنظام. اذاً، في ظل محافظة غنية من حيث مواردها وفي ظل نظام “شبيح”، حال “الرقة” في سوريا كحال منطقة الخليج العربي لمن يقصده طلبا في تأمين مصادر الرزق. وسأسوق مثالا بسيطاً يلخص شرحاً طويلاً: مديرية النفط في المحافظة – وتعرفون معنى نفط- شخصيا ذهبت مرة الى تلك الدائرة لزيارة صديق يعمل هناك، شعرت أنّني في محافظة أو محافظات عدّة غريبة، حيث لا يتجاوز عدد العاملين ربّما في كل القطاع 5% من أبناء المحافظة.
وجه أخر ضاع معه وجه المحافظة، هو قطاع التعليم. فمحافظة “الرقة” الى جانب محافظة “الحسكة”، تعتبران من أكثر المحافظات في سوريا “عدم اكتفاء” حسب اللغة التي تعتمدها وزارة التربية، حيث نقص هائل في الكوادر التدريسية والتعليمية، يُغطى عبر استقدام المعلمين والمدرسين من محافظات أخرى. بالطبع، قبل هذا وذالك، يطول الحديث عن “الطبقة” أو مدينة الثورة” حسب التسمية الرسمية، وقوع تلك المدينة مباشرة على سد الفرات، وأي عارف لتلك المدينة يجد أن “الطبقة” طبقتين: مدينة بأحيائها الروسية الحديثة وخدماتها وعلاقاتها، تكنى بـ”الثورة” والقسم الآخر منها يدعى “القرية” وربما هي أفضل حالا بقليل من مدن التنك. بالطبع قاطنوا “الثورة” خليط من أغلب المحافظات السورية، أما “القرية” فيكاد يقتصر ساكنوها على أهل المنطقة الأصليين. يمكن سرد شواهد وأمثلة كثيرة لمدينة لا هوية لها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، السوق الرئيسي في المدينة والمسمى “شارع القوتلي”، لو تجولنا فيه من بدايته وحتى انتهائه، سنجد أن نسبة الذين لديهم محلات ويمارسون أعمال مهنية وخدمية وتجارية من أهالي “الرقة” لا يتجاوزون في أعلى النسب 20 أو 25%، ولذلك بالطبع أسباب اجتماعية وثقافية. وربما لوعرف عبد الرحمن منيف “الرقة” جيدا لضمها الى روايته الشهيرة “مدن الملح”.
من خلال هذه العوامل ضاع وجه “الرقة”. ربما، لو كنا في زمن غير زمن البعث والتشبيح، وكنّا نعيش في تنمية متوازنة ومستدامة، لكانت تلك العوامل عوامل اثراء وغنى. وهي فعلا كذلك، وان بحدودها الدنيا، رغم كل فقر وبؤس المحافظة، شكلت ذلك الوجه الايجابي من المعادلة، فالرقاوي شخص متسامح منفتح على الغريب، استفاد كثيرا من ذلك التنوع وتلك الثقافات القادمة، انما في الوجه الأخر لم تتشكل هوية جامعة بين كل تلك المكونات (تنتخي) بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، غيرية على هوية تتأكل.
من وجهة نظري المتواضعة، هذا ربما سبب رئيس لمظاهرات خجولة حتى الآن يفرقها شبيحة النظام بكل سهولة. ربّما يقول معترض أن الثورة السورية هي ثورة أرياف وليست مدن، و”الرقة” لم تكن في يوم من الأيام مدينة وما تقدمه هنا يعاني من خلل كبير. نعم اعتراض وجيه، انّما وجوه الغياب لا تقتصر على ذلك العامل فقط، لها ما يدعمها.
مرة أخرى هوية الرقة من أضاعها؟
كلّكم تذكرون الوفد الذي اسقبله بشار الأسد في بدايات الثورة السورية ومحاولات الترقيع التي أراد منها النظام احتواء تمدد وتوسع الثورة. وبما أن الحديث يجري عن “الرقة”، ولأن النظام يعرف المفاتيح في كل محافظة ظانا أنه عبر الامساك بتلك المفاتيح، يستطيع قفل الثورة. في “الرقة” تحديدا نجح النظام وبشكل كبير – حتى الآن – في حجز عنفوان الشباب وراء ابواب سميكة.
ممن كان يتشكل الوفد الذي قابل بشار الأسد؟
يمكن لي أن أعدد بالاسم والكنية كل أعضاء الوفد الذين ارتضوا على أنفسهم مشاركة القاتل في قتله، انما لا داع لذلك فالرقة كلّها تعرفهم جيدا. انهم الغالبية العظمى من شيوخ العشائر، تلك الشريحة المتحالفة دائما مع السلطات، حيث مصالحها الذيلية والفتات الذي يُرمى لها لا يمكنها الاستغناء عنه، تلك الفئة التي تسلك (دورة انتاج) طبق الأصل عن النظام الذي تتمسك بأذياله وكلاهما، النظام وزعماء العشائر كالطفيليات يقتاتون دم السوريين كي يستمروا. من هنا نفهم استشراس النظام في الدفاع لا عن سوريا الوطن انما عن “سوريا الأسد” التي هي مطابقة تماما في وعيهم ولا وعيهم لرؤيتهم، البلد مزرعة هم ملاكها الحصريون. كذلك يعرف زعماء العشائر أنّ أدوراهم مكشوفة وفي حال سقوط النظام، ذلك سيجرفهم معه. هو الدورالتابع والذيلي اذن، عبر ممارساتهم الوصائية كلٌ على أفراد عشيرته، عبر تضليل تعلموه ومواز ومكمل ايضا لتضليل النظام.
في انتخابات “مجلس الشعب” الأخيرة تصدرت “الرقة” الأخبار وبات اسمها يتردد في كبريات الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء جراء الأحداث المؤسفة التي رافقت تلك (الانتخابات)، وكادت حرب أهلية أن تنشب بين أكبر عشيرتين في المحافظة بسبب الفساد والتزوير الذي رافق ويرافق دائما كل مهازل ومسرحيات النظام السوري. وقتها، استنفر زعماء العشائر واستطاعوا بما لهم من نفوذ أن يحركوا مجاميع كبيرة نزلت الى الشوارع، كل فريق يدّعي بأن “شيخه” هو الفائز بتلك الانتخابات، وكادت الأمور وقتها أن تفلت من أيدي النظام وأولئك “الشيوخ”، حيث بات المحتجون ومن كل الأطراف يصبون جام غضبهم على رموز السلطة، محمّلينها أسباب التزوير من خلال انحيازها لطرف ضد أخر. وأذكر الاهانات والضرب الذي تعرض له “أمين فرع حزب البعث العربي الاشتراكي” في احدى القرى، مما اضطر السلطات بعدها الى انزال الجيش الى الشوارع وتعرضت المحافظة آنذاك الى حملة قمع قاسية. ما أردت قوله من ايراد هذه الحادثة أن أولئك “المشيخة” يتلاعبون بكتل بشرية ضخمة عندما تتعرض مصالحهم المافيوية للخطر، أما في وضع سوريا الآن فإنهم يصمّون آذانهم عن صرخات واستغاثات “دير الزور” القريبة جدا منهم، لا بل أنهم يُسخّرون كلّ امكانياتهم في قمع مظاهرات يقوم بها كل وطني وشريف بـ”الرقة”.
حتى الآن، “الرقة” خارج المعادلة للأسباب التي أوردت وربما غيرها، انما اتمنى ألّا يطول ذلك وأول العمل هنا المطالبة باسقاط كل تلك “المشايخ العفنة” أسوة باسقاط النظام لأنهم حليف عضوي فيه.
توضيح غير ضروري انّما لا بد منه:
ربّما في الحديث عن ضياع هوية “الرقة”، قد يجنح البعض من أصحاب الأجندات الطائفية ويفسر توصيفي كما يحلو له وهذا مردود عليه. نعم، امتلأت الرقة بمدرسين ومدرسات من محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص ومحافظات اخرى، وبحكم عملي لأكثر من عقد من السنين في “مديرية تربية الرقة”، كنت على معرفة، وكل منصف في الرقة يعرف ذلك، أن أولئك المدرسين والمدرسات والمتحدرين تحديدا من الطائفة العلوية الكريمة كانوا يوضعون في قرى أقل ما يقال عنها أنها تفتقر الى الحدود الطبيعية للحياة الأدمية، حيث قسوة ريفنا وصعوبة العيش فيه. نعم، هناك فساد يحدث، وهذا للأسف عنوان كبير في سوريا، انما المهم هو فتيات وشباب في مقتبل اعمارهم جاؤوا من مسافات بعيدة ليدرّسوا في ريفنا القاسي، ما كانوا ليأتوا لولا قسوة ظروفهم وهذا يدحض تماما ما يروج له الطائفيون عن عرى التماسك بين النظام والطائفة. هذا نظام طائفي نعم، انّما طائفيته تتجلى عبر ضرب كل المتحد السوري بعضه ببعض واقامة الحواجز والسدود في العائلة الواحدة.