عندما سألتني المرأة القادمة من دولة اسكندنافية عن معنى وجود لوحة لبيكاسو في فلسطين، شعرت بقدر نجحت في إخفائه من الغضب. لماذا يصبح بيكاسو في فلسطين موضوعاً للتساؤل والدهشة، كأن الحيّز الوحيد المسموح للفلسطينيين في الأخبار هو الموت، والشقاء، والاحتلال.
ومع ذلك، فإن الموت، والشقاء، والاحتلال، جزء من البضاعة التي يحرص فلسطينيون يصعب حصرهم على تسويقها، استناداً إلى فرضية مفادها أنها الأكثر رواجاً، والأكثر فائدة في الحرب الطويلة ضد الكولونيالية. يُضاف إلى هؤلاء ما يصعب حصره أيضاً من المتعاطفين والمؤيدين في العالم العربي، وفي العالم بشكل عام.
أحياناً، وقد لمست هذا في نقاشات حتى مع إسرائيليين لا أشك في تعاطفهم مع حق الفلسطينيين في تقرير المصير، يغضب هؤلاء إذا كان الفلسطيني أقل تشدداً في مواقفه السياسية منهم، أو حتى إذا انتقد الأصولية والنـزعة المحافظة في فلسطين. فهذه وتلك في أعين هؤلاء دليل على هوية أصيلة، لا تكل ولا تمل في الحرب الطويلة على الاحتلال.
لذلك، حتى وإن كان الغضب مبرراً، إلا أن دهشة الآخرين إزاء كل ما يجعل من حياة الفلسطينيين طبيعية مبرر ومشروع. ومن المؤكد أن علينا العيش بين هذين الحدين المتطرفين فترة طويلة من الوقت.
بيكاسو في فلسطين. فلنفكر في بعض الدلالات. أول ما يتبادر إلى الذهن العبث. العبث كلمة رديئة في اللغة العربية، وفي المخيال العام، على اعتبار أن لدى العرب أشياء أكثر أهمية دائماً. والصحيح أن للعبث طاقة تخريبية وإبداعية عالية: تخريب الراسخ والراكد، والإبداع بكل ما ينطوي عليه من إمكانية العثور على الجديد والفريد والمدهش في ثنايا الهامشي، والمبتذل، وإلى حد ما وبعيد المألوف، أيضاً.
لم تغب أشياء كهذه عن ممارسات المصريين، الذين احتشدوا لإسقاط مبارك ونظامه في ميدان التحرير. رفع أحدهم لافتة تقول “خلاط + رئيس مستعمل بخمسين جنيه”.
فلنعد التفكير في المشهد: ثورة شعبية هي الأهم والأضخم في تاريخ مصر، ملايين من بني البشر في كافة المدن والقرى المصرية، شهداء وجرحى بالمئات، دم في الشوارع، ورصاص، وجِمال، وإذاعات وتلفزيونات، وسفارات أجنبية تراقب، وجيوش تتأهب، وحكام في عواصم أخرى فقدوا أعصابهم، وتاريخ في طور التكوين. ومع هذا كله، سخرية رفيعة بديعة، وعبثية تماماً على خلفية مشهد كهذا. هل اقتربنا من معنى العبث، من طاقته التخريبية والإبداعية العالية؟ نعم، قليلاً.
فلنعد إلى بيكاسو في فلسطين. احتلال هو الأطول في التاريخ الحديث. طائرات، وحواجز، ودبابات، ومستوطنات، وجنود، ومع ذلك تأتي من مكان بعيد لوحة لفنان من أهم فناني القرن العشرين، تملك دولة الاحتلال حق تفتيش اللوحة في الصندوق، لكنها لا تملك حق منعها من الوصول إلى رام الله، كما منعت تشومسكي، مثلاً.
فلنفكر مرّة أخرى: تملك دولة الاحتلال حق منع اللوحة من الوصول إلى رام الله، لكنها تشعر بقدر لا يُستهان به من الإحراج، إذ يُفترض أنها دولة متنوّرة، وأوروبية، ومولعة بالفن الرفيع والحضارة، وكل الكلام الفارغ الذي تقوله عن نفسها. لذا، يمكن لدولة الاحتلال الهجوم على سفينة في عرض البحر للحيلولة دون وصولها إلى غزة، ويمكنها تعطيل سفن أخرى حتى قبل الإبحار، لكنها تجد مشكلة في التعامل مع لوحة تحمل اسم أحد كبار الرسامين في العالم.
ليس من الضروري أن يكون أصحاب فكرة إحضار لوحة لبيكاسو وعرضها في فلسطين قد فكروّا في أشياء كهذه، كل ما في الأمر أنهم أرادوا تطبيع وجودهم، فكان ذلك مدخلاً، ضمن أمور أخرى، لاكتشاف معنى ودلالات الجانب العبثي للاحتلال.
فإلى جانب أشياء كثيرة، للاحتلال دلالات عبثية لا تحصى تُستمد من سخافته، وحماقة الساهرين على ديمومته. هذه الأشياء لم تنل ما تستحق من الاهتمام، فلكل زمن ذائقة خاصة، وأدوات تعبير، وحساسية لا تقبل التكرار.
قبل عقود مضت، وحتى وقت قريب، كانت فكرة فرانتز فانون عن العنف كفعل من أفعال التطهير الذاتي من جانب المقموعين رائدة وسائدة. ولكن يصعب تصوّر ريادة وسيادة لفكرة كهذه في العقد الثاني من ألفية وقرن جديدين. ربما السخرية وسيلة تطهير جديدة. وهي ليست جديدة تماماً، فقد عثر عليها باختين في تقليد الكرنفال في الثقافة الأوروبية.
ينطوي العبث على سخرية رفيعة وبديعة، صافية ومدهشة. وقد لفتت انتباهي بشكل خاص عبارة لمريد البرغوثي، في مقالة عن الثورة المصرية، تفيد بأن المصريين أطاحوا بالطاغية عن طريق الضحك.
لوحة بيكاسو لن تطيح بالاحتلال، يكفي أنها فتحت الباب أمام حقل لم تُكتشف طاقاته الإبداعية بعد، أعني عبثية الاحتلال. وعندما يسقط الاحتلال، في يوم ما، سيفكر الناس في أشياء كثيرة، لن يندر أن تكون من بينها فكرة تقول: البراعة في اكتشاف واستثمار ما يسم الاحتلال من عبثية وسخافة وحماقة، لم تسهم في تجريده من أوراق التين الأخلاقية وحسب، بل ووخزته في مؤخرته بمهماز السخرية، أيضاً. ألا تحرّض فكرة كهذه على مديح العبث؟
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني