في الشهر الرابع من الاحتجاجات التي تعم معظم المدن والبلدات السورية ازداد زخم المظاهرات وتواترها ولم تعد تقتصر على أيام الجمعة فقط. وما زال الفرق شاسعا بين ما يحدث على الأرض وما يفهمه النظام منه، أو ما يحاول أن يصوّره ليقدم له الحلول تبعاً لذلك، والتي تتعلق بتلبية بعض المطالب الخدمية؛ فالمطالب الشعبية مشروعة على أن لا تصل إلى مطلب الحرية وترجماته السياسية والحقوقية، التي تعني تغيير النظام بالكامل، وهو ما يهز أركان النظام بالفعل كما تقول كلمات أغنية سميح شقير “يا حيف”.
وبعد الخطاب الثالث لرأس النظام لا شيء جديد ليتم تقديمه كاستجابة لمطالب الشعب المنتفض، وخاصة بالسرعة والإيقاع المطلوبين في مثل هذه الظروف. كما لم يكن الخطاب على مستوى ما حدث في سوريا من قتل واعتقال وتهجير، وكأنما ثمة حالة من الإنكار والتجاهل في محاولة للقول بأن الأمور تحت السيطرة، سواء للجهات الخارجية أو لمن لا يزال يدعم النظام في الداخل. ومنذ لحظة انتهاء هذا الخطاب، فُقد آخر أمل كان قد تبقى عند المتظاهرين ومن يدعمهم في الداخل، كما عند معظم الدول المهتمة بالوضع السوري، بينما اعتبره المؤيدون الخطوة القصوى التي يمكن أن يصل إليها الإصلاح.
لم يكن الشعب يدخل في حسابات النظام في أي وقت سوى فيما يتعلق بالتحكم به والسيطرة عليه وقمع من يخرج من أفراده على عصا الطاعة، فكيف يمكن أن يقدم هذا النظام تنازلات لعبيده؟ إنه لن يفعل ذلك، وهو لم يعتد يوما على احترام إرادة الشعب، لأنه لم يأتِ بإرادته. فالمكابرة ما زالت سيدة الموقف، والاحتماء بالمناصرين، سواء منهم الخائفين أو من يرتبطون به بشبكة المصالح، لا يقدم ضمانة أكيدة في وقت تتسارع فيه خطى التاريخ.
تلت الخطاب الثالث مظاهرات تندد به، وأعقبتها في اليوم التالي مسيرات مؤيدة لسياسات النظام في معظم المحافظات. وبالطبع استُخدمت أجهزة الدولة جميعها في تأمين الحشد لهذه التظاهرات. ووصلتني رسالة من نقابة الأطباء تدعوني للتظاهرة المؤيدة، هذه النقابة التي لم تحرك ساكنا بالطبع، لا هي ولا نقابة المعلمين، عندما فُصِلتُ من الجامعة بسبب التعبير عن الرأي وتهمة الانتماء إلى ربيع دمشق! هذا هو دور النقابات في جملوكية البعث، وهذا ما يفسر تلكؤ النظام في إلغاء المادة الثامنة من الدستور، والتي تنص على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع، هذا الحزب الذي اقتصر دوره على تأمين وتنظيم المسيرات المؤيدة من خلال سيطرته على مؤسسات الدولة والنقابات. وبعيدا عن ذلك ليس لهذا الحزب إلا أن ينفذ السياسات والتوجيهات التي يتم صوغها في الدائرة الضيقة التي تسيطر على كل شيء في سوريا، بوساطة يدها الضاربة، الأجهزة الأمنية.
وقدم الخطاب وعوداً بإجراء إصلاحات سياسية، لكنه هو من يحدد طبيعتها ومحتواها، دون مشاركة من الآخرين، ما يجعلها فاقدة المضمون منطقياً. ونظراً لاستفحال أزمة الثقة بين النظام ومعارضيه، فليس من المرجح أن تكون هذه الإجراءات ذات معنى عملياً. ولو بدأت مشاريع الإصلاح المزعومة بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، بما فيهم معتقلي التظاهرات الأخيرة، وسحب الجيش من الشوارع، ومحاكمة من أطلق النار على المتظاهرين والجيش، والسماح بالتظاهر السلمي للمعارضين، مثل المؤيدين، وحمايتهم من “العناصر المسلحة التي تطلق النار على المتظاهرين والأمن” لكان ذلك منطلقاً يمكن البناء عليه. وبخلاف ما سبق فلا حل جدياً يلوح في الأفق لهذه الأزمة الوطنية السورية العميقة.
وأتى المؤتمر الصحفي “الهادئ” لوزير الخارجية السوري بالطريقة نفسها التي لا تلامس جوهر المشكلة، وتتهم العصابات التي أضيف لها نكهة “القاعدة” في تأخر ربما كان سببه عدم تقليد القذافي حرفياً! والمضحك المبكي هو ما ختم به المعلم مؤتمره الصحفي بأن سوريا ستكون بعد ثلاثة أشهر مثالاً يُحتذى في الديمقراطية في منطقتنا كلها! أما قوله بأنه سينسى وجود أوروبا من على الخارطة فهو منتهى عدم النضج السياسي، ويقوم الطفل بمثل هذا السلوك عندما يغمض عينيه معتقدا بأن ذلك يحميه من خطرٍ ما.
المسكوت عنه دوماً في هذه الخطابات والمؤتمرات الصحفية هو سيطرة الأجهزة الأمنية والقوى الفاعلة الأساسية في السلطة السورية، والتي تجعل من الحديث عن الأمور والمشاكل الأخرى في المجتمع أمراً بلا معنى تقريباً
، ولا يمكن استبدال مطلب الحرية، أي التحرر من القبضة الأمنية، بمطالب صارت ثانويةً جداً مثل تخفيض سعر المازوت!
وانعقد الاجتماع التشاوري لأشخاص من المعارضة السورية ومستقلين بضوء أخضر من السلطة، وأثار جدلاً معظمه صحيحاً. ولا شك في أن انعقاده في دمشق أمر جديد يحاول من خلاله النظام شق صفوف المعارضة والقول للعالم بأن الإصلاح السياسي قد انطلق، بينما أصدر المجتمعون بياناً جيداً نسبياً، وكانت هذه جائزتهم. لكل حق التعبير عن رأيه، لا تخوين، ومع ذلك يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
1. الطريقة الانتقائية التي تمت من خلالها الدعوة، ويبدو أن ذلك كان مهما لاستجلاب الموافقة الأمنية.
2. إدعاء البعض من المشاركين أن المعارضة الداخلية هي الوطنية، مع أن الدعوة لم تشمل المعارضين الداخليين كلهم ولا ممثلين عن حركة الاحتجاج، وهذا موقف يؤثر على وحدة جهود المعارضة في الداخل والخارج.
3. يبدو أن المجتمعين تعلقوا بكلمة الرئيس بأن كل شيء قابل للبحث فيما يتعلق بالإصلاح، فكانوا يأملون أن يصلحوا النظام مثلما حاول النظام إصلاح المعارضة من خلالهم!
4. لا يمكن لأي أحد أن يتغافل عن مطالب الشارع، كمحرك أساسي للأحداث، ومع أن جميع المعارضين يدعمونها نظرياً، معترفين بمحوريتها، فمنهم من يبحث عن دور بمسك العصا من المنتصف.
ليس النظام السوري مؤهلاً لحل المشكلة التي تسبب بها عبر عقود، فهو طرف فيها تتمثل وظيفته في الحفاظ على الواقع الذي أنتجها، وبعض المناورات في هذا الخصوص يجب أن لا تحجب عنا هذه الحقيقة. ولم يعد الحديث عن المؤامرات الخارجية والخارجون على القانون قابلاً للتصديق إلا عند الذين يريدون تصديق ذلك ممن يعتبرون أنفسهم معلقين بحبل سرة النظام. ولكن لم تنته القصة هنا، فالخوف أن يوضع المؤيدون في مواجهة المتظاهرين، عوضاً عن المندسين، فيمهد ذلك عمليا للحرب الأهلية التي ستطيح بآمال الشعب السوري المنتظرة من عملية التغيير، ولو إلى حين. وكلها محاولات يبدو أن النظام الأمني يمتلك منها الكثير للحفاظ على بقائه، ولكن إلى متى؟ وبأي ثمن؟
والطرف الأكثر تأييدا للنظام هو معظم الكتلة الشعبية العلوية التي نجح في تخويفها عبر عقود، وربط مصيرها به. وهنا يجب ألا ننسى الصامتين من أهل الطائفة الذين لا يملكون سوى الانتظار لمد يدهم إلى إخوتهم في الوطن. أما موقف “ناشطي الطائفة ومثقفيها” فلا يحسدون عليه؛ لأنهم فقدوا حاضنهم الاجتماعي وتهجروا للأماكن التي يمكن متابعة نشاطاتهم فيها، طلباً للنجاة من الإزعاجات والتهديدات. وسيكون العلاج للمتخوفين بالصدمة، كبداية لتعقلهم وإعادة صوغ خياراتهم، وهذا يحتاج لوقت وصبر وتفهم.
وفيما يتعلق بالضغوط والمواقف الخارجية التي يبدو أن النظام مهتم بها أكثر، رغم مكابرته، فهي تحدد الدرجة التي يمكن أن يصل إليها النظام في قمعه لمعارضيه في الداخل. والموقف الروسي لم يتغير منذ حرب العراق الأولى؛ فهو يحاول أن يملأ فراغ القوة التي كان يشكله الاتحاد السوفييتي، تلك القوة التي لم يبق منها سوى بعض الصواريخ النووية التي يتآكلها الصدأ وحق الفيتو في مجلس الأمن. ومع ذلك لا يمكن أن يعتمد النظام على الموقف الروسي، فهو يبدأ دائما قويا ولكنه يعود إلى الموقف الدولي في النهاية أو يعدل فيه على أبعد تقدير. “الدب الروسي” يتحرك ببطء وبرودة ولكنه يرمي بثقله في نهاية المطاف. وحسناً فعل وفد المعارضة السورية بلقاء المسؤولين الروس لوضعهم أمام النتائج التي يمكن أن تتمخض على مصالحهم بسبب وقوفهم إلى جانب النظام السوري.
وتركيا واجهة الموقف الدولي وأداته التنفيذية التي تتابع الوضع السوري عن كثب، ومواقفها تضغط بطرق شتى، وتشكل ملاذاً للاجئين السوريين على أراضيها. وأهمية الموقف التركي هو في تقبله من أطراف داخلية في سوريا.
النظام السوري الحالي خارج العصر، ومن غير المقبول استمراره معيقاً لتطلعات الشعب السوري إلى الحرية والتقدم في كافة مناحي الحياة، بعيداً عن الخوف والقمع والإقصاء والتهميش الذي تمارسه أجهزة لا ترحم ولا تغفر ولا تنسى.
لا عودة للوراء في سوريا، والأيام القادمة ستحمل معها مصاعب وتطورات عصيبة تسم المرحلة الانتقالية للمسار السوري من أجل تحقيق الديمقراطية؛ بسبب تعقيد الواقع السوري وإهمال الحلول الاجتماعية والاقتصادية لعقود. ومهما يكن فالتقدم إلى الأمام وتحفيز حركة الشارع السلمية ودعمها هو الوسيلة الأسرع والأقل كلفة للانتقال إلى سوريا الجديدة.
mshahhoud@yahoo.com
كاتب سوري- دمشق