فلنعد إلى عود الكبريت الصغير الذي أشعل الحريق في إمبابة، وانتهى بمقتل 12 شخصاً، أغلبهم من الأقباط المصريين. تقول الصحف المصرية إن مسلماً ومسيحية من أسيوط وقعا في الحب، وتزوّجا عرفياً، وانتقلا للعيش في مكان آخر. وعندما اختفت الزوجة، وسمع بأنها تقيم في منـزل مجاور لكنيسة قبطية، ذهب إلى بعض السلفيين طلباً للحل، فتوجهوا معه إلى الكنيسة، ثم بدأت الاشتباكات.
في السياق نفسه أوردت صحيفة “المصري اليوم” (يوم أمس) خبراً تحت عنوان: “الأزهر والكنيسة والأخوان والجماعة الإسلامية والسلفيون يحذرون: مصر على أبواب حرب أهلية”. وفي ثنايا الخبر تتهم جماعات الإخوان المسلمين والدعوة السلفية والصوفية والجماعة الإسلامية “فلول الحزب الوطني بالوقوف وراء تلك الأحداث”.
كيف نفكّر في أمر كهذا؟
بداية، وما علاقة السلفيين بالأمر، ولماذا لا يذهب الشخص المعنى إلى الشرطة، مثلاً، ولماذا يجد السلفيون في حادثة كهذه ما يبرر تحويلها إلى أمر يستدعي تدخلهم بطريقة أشعلت عود الكبريت، ووضعت مصر، كما يقول الخبر على أبواب حرب أهلية.
الحروب الطروادية وقعت بسبب امرأة. وفي متن حكاية روميو وجولييت يتجلى الحب باعتباره سخرية رفيعة من التحيّزات العائلية مرّة، ودليلاً على نهايات مأساوية تنتظر المتطاولين على حصن وحصانة ما ترفعه التحيّزات (بقطع النظر عن هويتها) إلى مرتبة التابو مرّة ثانية.
الفرق بين الحروب الطروادية، والمأساة الشكسبيرية، هو الفرق بين الزمن البطولي الأسطوري، والزمن الفيكتوري. ولكن ما الفرق بين هذه وتلك من ناحية، وحكاية شخص استعان بالسلفيين لإعادة امرأة إلى فراش الحب (أو عش الزوجية، اختر ما شئت)، فوضع بلاداً على أبواب الحرب الأهلية؟
هذه الحكاية ليست الأولى من نوعها في مصر، فهناك حكايات كثيرة مشابهة تبرر طرح السؤال نفسه، وعوامل تمزيق الوحدة الوطنية للمصريين لم تبدأ يوم السبت في إمبابة، بل بدأت قبل ذلك بعقود. ولكن ماذا عن الفرق بين طروادة وشكسبير وما نحن فيه؟
الأكيد أن في كل حادثة مهما صغرت، وبدت شخصية، وهامشية، وتافهة، عالم كبير. وهذا يشبه إلى حد بعيد المورثات الجينية، التي لا تُرى بالعين المجرّدة، لكنها تمثل بطاقة هوية للكائن الفرد، وللجنس البشري برمته.
والأكيد، أيضاً، أن الحكايات الصغيرة والكثيرة التي يمكن أن تُشعل حريق الحرب الأهلية في مصر، وإن كانت لا تنتمي إلى جنس الملحمة الهوميرية، ولا إلى المأساة الشكسبيرية عن حماقات عائلية في إيطاليا عصر النهضة، إلا أنها تحيل إلى تاريخ لا يقل ملحمية عن الأولى ومأساوية عن الثانية، أعني تاريخ بناء الدولة القومية الحديثة في زمن ما بعد الاستعمار. وفي سياق كهذا يجوز الكلام عن عود الكبريت الذي أشعل حريقاً باعتباره جزءاً من مشكلة أكبر عنوانها أزمة في النسيج الاجتماعي للأمة المصرية.
في أزمنة الحرب، والفوضى الاجتماعية، والكوارث، والثورات، تدفع الفئات الاجتماعية الأضعف الثمن مضاعفاً، وتصبح أكباشاً مثالية للفداء. وهذا يصدق على النساء والأطفال والفقراء وعلى الأقليات. في العراق دفع المسيحيون الثمن مضاعفاً، وفي مصر المأزومة أصبحوا وسيلة إيضاح مثالية لكل صاحب مشروع يريد إعادة “الأمة” إلى جادة الصواب.
كنّا نتكلّم، في وقت مضى، عن مصر المتوسطية، الرانية إلى الضفة الأوروبية للمتوسط، كما أراد لها طه حسين، أو مصر العربية، كما تصوّرها جمال حمدان، وحتى عن مصر في دوائرها الثلاث: العربية، والأفريقية، والإسلامية، كما اجتهد كاتب فلسفة الثورة، الكتاب الذي حمل اسم جمال عبد الناصر.
ولكن، في بحث مصر المأزومة عن هويتها، تطل الوهابية، بصيغتيها النجدية والإخوانية، كهوية محتملة، نسجت خيوطها شبكات محلية، وإقليمية، ودولية، بأدوات أيديولوجية، ومالية، وسياسية. وهذه الشبكات مسلحة بالدولارات النفطية، ومحمية بالمصالح، والتحالفات، تجد في أرض مصر الفقيرة والجائعة، منذ أربعة عقود على الأقل، دفيئة مرشحة لما يبرر هذا الطموح.
عاشت تركيا أزمة هوية بعد الحرب العالمية الأولى، عندما وجد الأتراك أنفسهم ممزقين بين تركيا الآسيوية، وتركيا الأوروبية، فأداروا ظهورهم للشرق، وسعوا للاندماج في الغرب.
ما تزال التجربة التركية في طور التكوين بطبيعة الحال، مع التأكيد على: أن الأتاتوركية تركت بصمة شبه نهائية على صورة تركيا الحديثة أولا، وأن الإسلاميين الأتراك هم الأكثر حماسة لالتحاق بالاتحاد الأوروبي ثانياً، وأن علمانية الدولة غير مطروحة للنقاش ثالثاً، وأن عودة تركيا إلى الشرق لم تنجم عن “صحوة” في الهوية، بقدر ما فرضتها ضرورات إستراتيجية لتركيا كدولة إقليمية كبرى رابعاً.
في المقابل نشأ بعد الحرب العالمية الثانية كيان اسمه باكستان، بلا مقوّمات لدولة قومية تجد مبررها في الثقافة والتاريخ، ما عدا هوية دينية، لم تحل دون انفصال الأقاليم الشرقية، وإعلان استقلالها باسم بنغلاديش.
قامت الدولة الباكستانية على رافعتين هما الجيش والانتماء الديني، ولم تتمكن حتى الآن من صهر مواطنيها في هوية دولانية موّحدة. والمفارقة أن التجربة الباكستانية، بالمعنى الثقافي والسياسي، والتي كان ضياء الحق أعلى مراحلها، مارست فتنة طاغية ومزدوجة على النخب السائدة في مصر الساداتية والمباركية، على النخب الحاكمة من ناحية، وعلى معارضيها الأصوليين من ناحية ثانية، مع التذكير بحقيقة أن النموذج الأتاتوركي تكبّد هزيمة مبكّرة في مصر الناصرية أولاً.
الثورة المصرية، التي أطاحت بالنظام المباركي، وريث الساداتية والناصرية معاً، فتحت مستقبل مصر على احتمالات كثيرة. كل ما في الأمر، وبقدر ما يتعلّق الأمر بهذا المقالة، القول إن ما لا نراه على شاشة التلفزيون، وعلى صفحات الجرائد، والإنترنت، لا يعني بأنه لم يحدث في الواقع.
خبراء الجماعات الإسلامية، ومفكرو الفضائيات، وأغلب المهتمين بالشأن العام، لا يأخذون الكلام إلى حيث ينبغي أن يذهب، أي إلى الشبكات المحلية، والإقليمية، والدولية التي صنعت الدفيئة الوهابية وبنيتها التحتية في مصر.
وطالما لم يحدث ذلك، سيتكلّم الناس عن حادثة رومانسية صغيرة تكاد تشعل حرباً أهلية، دون التساؤل عن معنى ومبنى تلك الحادثة، وربما يقتنع البعض بحكاية “فلول” الحزب الحاكم، ويفسّر البعض الآخر الأمر كله بسوء الطالع. وفي الحالتين ثمة ما هو أبعد. وما هو أبعد اسمه الصراع على هوية مصر.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
Khaderhas1@hotmail.com
الأيام