إذا كانت ايجابياتكم قد ساهمت بدرجة أو بأخرى في تحديث بلدانكم، فإن سلبياتكم خطيرة ومسئولة عما جرى ويجري في بلدانكم منذ الانتفاضة التونسية . من سلبياتكم، التي تدفعون اليوم، ومعكم شعوبكم، ثمنها غالياً، التقصير في حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي الذي عفّن علاقتكم بشبابكم وحجم ايجابياتكم وجعل سلبياتكم في نظر شبابكم استفزازية.
في الدولة السلطوية autoritaire خاصة تقوم شرعية الانجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كبديل مقبول مؤقتاً للشرعية الديمقراطية الغائبة . عجزكم عن حل النزاع العربي الإسرائيلي أصاب شرعية انجازاتكم في مقتل . لماذا؟لأن شعوبكم انتظرت منكم تخليصها من عقدة الدونية التي تؤرقها جراء هزائمها الجارحة أمام إسرائيل. ولا يمكن لأي حكم أن يدوم بلا شرعية. فحصل ما حصل. لماذا قصرتم؟ لافتقادكم للشجاعة السياسية التي في غيابها تغيب الواقعية السياسة، مما جعلكم لا تقدمون التنازلات الضرورية، التي تمليها موازين القوة، إلا في اللحظة الأخيرة وفي الغرف المغلقة فضلاً عن ذلك ـالسلطة الفلسطينية نموذجاً ـ لأن جبنكم الأسطوري جعلكم خائفين من ديماغوجية خصومكم الإسلاميين و”جزيرت”هم فتذهب تنازلاتكم السرية أدراج الرياح. لو كنتم تصنعون قراركم بالمعاهد المتخصصة في صنع القرار لقدمتم تنازلاتكم في الوقت المناسب وعلناً في الإعلام القومي والعالمي، لكسب الرأي العام الإسرائيلي، ذي التأثير الحاسم على حكومته، والرأي العام العالمي الذي لا يقل عنه تأثيراً عليها. وأي حكومة إسرائيلية تخشى العزلة القومية والدولية. لو فعلتم لازدادت إيجابياتكم كمياً ونوعياً في جميع الميادين بما يساعد على تلطيف الحكم السلطوي ويسرّع الانتقال إلى دولة القانون[= استقلال القضاء وحرية الإعلام الغائبين غياباً فاجعاً والممهدين الضروريين للإنتقال إلى الديمقراطية].
ومن سلبياتكم أنكم ـ باستثناء تونس نسبياً ـ لم تصنعوا قراراً علمياً لنزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني التي تشكل العائق الأول للتنمية المستدامة وصيانة البيئة التي تشهد كل يوم مزيداً من التدهور. تعاميتم عن محاكاة نموذج الهند والصين اللتين نجحتا، الأولى بتعقيم الرجال الذين أنجبوا، والثانية بفرض الأسرة ذات الطفل الواحد، في نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني. تفاقم الفقر والتهميش والبطالة والأوبئة ورداءة التعليم وقلة المساكن اللائقة ونقص البنية التحتية وعدم ظهور طبقة وسطى عريضة ضرورية لتفادي الاحتجاج العنيف والتقدم إلى الديمقراطية . . . هي جميعاً، في المقام الأول، الآثار الوخيمة لقنبلة الانفجار السكاني. في 1980، كان سكان العالم العربي 172 مليون نسمة، في 2009 أصبحوا 320 وسيصبحون في 2015، 335 مليون نسمة، 40 % منهم يعيشون تحت حد الفقر. أي أنهم يتضاعفون كل 30 عاماً. والحال أن تضاعف السكان يجب، علمياً، أن لا يحدث إلا مرة كل قرن، لحفظ التوازنات الاقتصادية والبيئية. بالمناسبة استطاعت الصين خلال 30 عاماً التخلص من 300 مليون نسمة من الأفواه اللامجدية . كان بإمكانكم، لو كنتم تصنعون قراركم بالعلم، أن تنزعوا فتيل قنبلة الانفجار السكاني بالتعليم والإعلام وخاصة باستخدام الحافز المادي:جائزة لكل رجل أنجب طفلاً وقبل تعقيم نفسه، ولكل امرأة أنجبت طفلاً وتقبل ربط خراطيم الرحم la ligature des trompes هل سيتدارك خلفاؤكم، إذا كانوا فعلاً خيراً منكم، ما قصرتم فيه لإنقاذ أوطانهم والعالم من خطر قنبلة الانفجار السكاني النووية :75 مليون نسمه يولدون سنوياً ؟
من سلبياتكم، تحجيم المعارضة الإصلاحية البناءة لأنكم عجزتم، بسبب عماكم السياسي، عن التمييز بين المعارضة الإصلاحية البناءة والمعارضة الاحتجاجية الهدامة . المعارضة البناءة لا ترمي إلى تغيير أساسيات النظام القائم بل تريد إصلاح أخطائه بمقترحات وبدائل سلميه. أما المعارضة الهدامة فتمارس الاحتجاج للاحتجاج، وتقدم مطالب تعجيزية مستهدفة إسقاط النظام. مثلما هي معارضات أقصى اليمين العنصري في الغرب وأقصى اليمين الإسلامي في الشرق. تحجيم المعارضة البناءة طال أيضاً وخصوصاً جمعيات المجتمع المدني غير الحكومية والنقابات المستقلة . . . والحال أن هذه الوسائط الحديثة ضرورية لتلعب، خاصة في الأزمات، دور الوسيط الموثوق بين السلطات العامة والجمهور. غيابها، جعلكم تقفون وجهاً لوجه مع شبابكم المنتفض بالعواقب التي نعرف. فهل سيأخذ خلفاؤكم الدرس؟
من سلبياتكم، تغييب دولة القانون الذي كان أحد عوامل التمرد الشبابي عليكم. لو كنتم تصنعون قراركم، كما تصنعه أمريكا أو إسرائيل بالعلم مثلاً، لطلبتم من المعاهد الأجنبية المختصة ومن سفاراتكم دراسة علمية لتجربة سنغافوة، التي نجحت حتى الآن في الجمع بين غياب الدولة الديمقراطية وحضور دولة القانون، أي حضور القضاء المستقل والإعلام الحر، الضروريين للأمن والاستقرار وتسريع التنمية. القضاء المستقل هو الضمانة الأولى لحماية حريات، حقوق وكرامة الإنسان، والإعلام الحر لا غنى عنه لازدهار حرية النقاش للجميع بمنأى عن الرقابة والرقابة الذاتية اللتين كانتا، في ظل سلطويتكم، كابوس الإعلاميين والمثقفين الذي أصابهم بالاكتئاب. دولة القانون هي الأرضية الخصبة التي تترعرع عليها ثقافة الديمقراطية، لأنها، بالنقاش المتعارض، هي التي تطور”الشارع العربي” الاحتجاجي، المنقاد إلى انفعالاته وأهوائه العنيفة، إلى رأي عام مسالم، مستنير ومتنور غالباً. كما تشكل دولة القانون، بقضائها المستقل وإعلامها الحر، رقيباً ناجعاً ضد الرشوة التي كانت عاملاً أخلاقياً ساهم في إسقاطكم. فهل سيعي خلفاؤكم، إذا ما كانوا قولاً وفعلاً خيراً منكم، إن الخطوة الأولى العملاقة الصحيحة، في الاتجاه الصحيح إلى الديمقراطية، هي دولة القانون؟
من سلبياتكم التي أودت بكم هي الفساد الذي انغمستم فيه إلى ما فوق المرفقين. استغلال موقع السلطة لنهب المال العام والخاص. تصرف الخليفة في ميزانية الخلافة تصرف المالك في ملكه هو تقليد عربي إسلامي عريق. عثمان حول بيت مال المسلمين[=الميزانية] إلى مرتع لحاشيته وأقربائه بفتوى طريفة:إذا كان عمر تقرب إلى الله بحرمان أهل بيته [=من المال العام]، فإني أتقرب إليه بتمتيع أهل بيتي به !ورفع شعاره الشهير:”أرض السواد[=مصر والعراق] بستان قريش” ترتع فيه على هواها على حساب السكان الأصليين أولاً وفقراء المسلمين الذين يعيشون من جزيتهم وخراجهم ثانياً!
“َحَبر هذه الأمة” كما وصفه حديث شريف، عبد الله بن عباس، أسس تقليداً لصوصياً حوله فقهاء الإسلام إلى قاعدة شرعية مرعية. ولاه الإمام علي على البصرة فاستولى على كل ما في بيت مال المسلمين وفر به إلى مكة ! كتب إليه الإمام مناشداً إعادة المسروق:”كيف ستلقى الله بأموال المسلمين؟” فرد عليه حبر هذه الأمة: “لأن ألقى الله بأموال المسلمين خير لي من أن ألقاه بدمائهم مثلك”. حول فقهاؤنا هذه السرقة الموصوفة إلى قاعدة شرعية مازالت مرعية: لا حدّ في سرقة المال العام، إذ قد تكون في جمعه شبهة ظلم! منذ 14 قرنا لم يقصّر الحكام، محتمين بهذا القانون الشرعي، في سرقة المال العام. ملالي الجمهورية الإسلامية زعموا أن كلفة الحرب العراقية ـ الإيرانية كانت 100 مليار دولار. لكن وزير الاقتصاد في حكومة خميني الأولى راجع المحاسبة فوجد أن كلفة الحرب لا تزيد عن 30 مليار دولار فقط. أما الـ 70 مليار الباقية فقد ذهبت إلى حسابات الملالي السرية.
منذ 14 قرناً دون انقطاع رافق نهب المال العام نهب المال الخاص بالمصادرة قديماً وبالمنافسة غير الشريفة حديثا: أبناء حسن الترابي كانوا في ظل حكم أبيهم للسودان، بالحديد والنار، يرسلون السواعد المفتولة لتأديب منافسيهم من التجار. هكذا جمعوا ثروتهم! تقارير السفارة الأمريكية في طرابلس التي نشرها ويكيليكس تكشف أن عائشة القذافي فتحت، مع أمها، دكاكين لبيع الموضه الراقية متخصصة في استيراد الملابس من أوربا. تدخلت أمها شخصياً لدي مصلحة الجمارك لتجميد سلع دكاكين منافسيها في الجمارك خلال كامل فترة رأس العام (2009) . ولم تسلمهم إياها إلا بعد انتهاء موسم الهدايا! كثير من الأمراء في دول مجلس التعاون الخليجي ينافسون أيضاً تجار بلادهم منافسة سلطوية. وهكذا يعيقون ظهور طبقة وسطى عريضة. في غياب القضاء المستقل والإعلام الحر، كل التجاوزات مباحة لأنها منفلتة من أي رقابة. العنف، السادية، التعذيب، النهب، الاغتصاب والقتل جميعاً مبرمجة في أدمغتنا منذ ملايين السنين، وكلنا متأهبون نفسياً لارتكابها كلما سنحت الفرصة ! والفرصة تسنح كلما غاب الوازع الأخلاقي أو القانوني.
لم أقصد إلى تقديم إحصائية كاملة لسلبياتكم. لا أحب ما يحبه كثير من الإعلاميين والمثقفين، الطعن في القتيلة. همي الوحيد هو تشخيص أفضل إيجابياتكم عسى أن يواصلها خلفاؤكم وأخطر سلبياتكم عسى أن يتفادوها بوعي. لكن يبدو أن سؤالاً يرف على شفاه قرائي:ما هو السبب العميق الذي دفعكم إلى ارتكاب هذه السلبيات؟ بسبب إهمالكم لصناعة قراركم على غرار صنع الدول الجديرة بهذا الاسم لقرارها:صناعة القرار بالكمبيوتر في المقام الأول، كما تفعل الدول الغربية وباقي الدول المتقدمة في العالم. هذه هي أم سلبياتكم والخطأ المؤسس لجميع أخطائكم وخطاياكم.
كيف تكونت وتطورت الحضارة الحديثة؟ بتحويل الملوك المستبدين المستنيرين[=الحكومات السلطوية المعاصرة المستنيرة ] لأفكار فلاسفة الأنوار، إلى قرارات ملكية. وهكذا تعاونت قوة الاقتراح الفلسفية مع قوة القرار السياسية على إخراج أوربا الغربية تدريجياً من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، من منطق أوامر العقل الإلهي، الذي لا يقبل إلا السمع والطاعة، إلى منطق ومبادئ ومفاهيم وقيم ومؤسسات العقل البشري التي تتطلب النقاش المتعارض. فلاسفة الأنوار تحولوا اليوم إلى رأس جماعي متعدد المواهب والتخصصات يسمى:معاهد صنع القرار. هذه المعاهد نوعان: أحدهما تابع للدولة كالمخابرات المدنية والعسكرية ووزارة الخارجية، أما الثاني فمعاهد غير حكومية تمول نفسها بهبات المحسنين وبيع تقاريرها. إسهامها في صناعة القرار أساسي نظراً لاستقلالها المالي الذي يحميها من تدخل الدولة في صناعته. منذ الخمسينات، ظهرت معاهد صنع القرار بالعلم في أمريكا ثم حاكتها أوربا وباقي دول العالم المتحضر. يصنع القرار انطلاقاً من المعطيات الدقيقة التي تجمع من جميع المصادر الإستخباراتية والإعلامية و”أوعية التفكير” أي المجلات المتخصصة والرسائل الجامعية . يحول الكمبيوتر المعطيات إلى قرارات وسيناريوهات لتطبيقها. كما أن الدولة مؤسسة لا شخصية
impersonnel، لاتنتمي لأي شخص، كذلك الكمبيوتر. فهو ليس مؤمناً أو ملحداً، يمينياً أو يسارياً. يعالج المعطيات بحياد الأرقام . وهذا هو السبب في توحيد برامج وسط اليمين ووسط اليسار. وهذا هو السبب أيضاً في أن تغيير الحكومات بالانتخابات لا يؤدي إلى تغيير جوهري في السياسات الداخلية والخارجية. يطبق أوباما اليوم جوهر السياسات التي كان سلفه يطبقها في السنتين الأخيرتين من ولايته. لأن صانعها واحد:الكمبيوتر. كيف يصنع الكمبيوتر القرار؟بتعريف المصلحة القومية للأمة التي يوظف القرار في خدمتها. تصل التقارير إلى مجلس الأمن القومي، الذي يري الرئيس بعينيه ويسمع بأذنيه. مجلس الأمن القومي يعد سيناريوهات عدة كفيلة بتطبيق القرار الوحيد. لا يحق للرئيس التدخل في تعريف المصلحة القومية. له فقط أن يختار السيناريوهات التي يرتاح اليها أكثر لتحقيها. هكذا، باختصار شديد تصنع الأمم الحديثة قرارها. فكيف نصنعه نحن؟في 9 على 10 من الحالات باللامعقول. قال لي الرئيس أحمد بن بله:عبد الناصر يحكم على الرؤساء من خلال الانطباع الذي يتركه تأمل صورهم:ارتياحاً أونفوراً. ضحكت زوجته الطيبة، زهرة، قائلة أحمد أيضاً يقلد جمال، فبعد الثورة الليبية تأمل صور الضباط وارتاح أكثر لصورة، أبوبكر يونس . عندما اعتدى صدام على إيران، التقى قائد الأركان، أحمد مدني، خميني وعرض عليه استراتيجيا الجيش منذ 40 عاماً :لا يمكن إسقاط النظام العراقي إلا باحتلال بغداد. رفضها خميني مطالباً ببقاء الجيش على الحدود وقصف البصرة. حاول قائد الأركان نقاش خميني. ولكن هذا الأخير أفحمه:الإمام الغائب هو الذي أوصاني في المنام بهذا ووعدني بالنصر، بثورة إسلامية تطيح بصدام . فر قائد الأركان إلى الخارج وشرح للصحافة سبب فراره، فقتل بعد 3 أشهر في منفاه. فماذا كانت النتيجة؟ وقّع خميني هزيمته قائلاً:”تمنيت لو أني تجرعت السم بدل هذا التوقيع”. صدام ضم الكويت بحلم رآه في المنام بالعواقب التي نعرف… بالمثل، أحمدي نجاد يصنع قراره باستشارة الإمام الغائب، المقيم في بئر في طهران، فيملي عليه قراره.
ترياق الهذيان الديني والاستبداد الشرقي، وهما عادة متلازمان، هو تنصيص الدستور القادم، في كل دولة، على ضرورة صنع القرار بالمعاهد العامة والخاصة، المتخصصة في صناعة القرار، ومنع الرئيس من التدخل في تعريف المصلحة القومية تحت طائلة العزل؛وإنشاء مجلس أمن قومي بدلاً من المستشارين، الذين هم غالباً في حاجة لمن يشير عليهم بالرأي الحسن، وإعطاء المحكمة الدستورية العليا حق مراقبة عملية صنع القرار وتنفيذه.
أيها الحكام ناموا قريري العين في منافيكم، فخلفاؤكم سيكونوا بكل تأكيد أفضل منكم إذا، وفقط إذا، صنعوا قرارهم بمعاهد صنع القرار. فهل هم فاعلون؟علم ذلك عند علام الغيوب.
المقال القادم: هل الحكومات السلطوية ضرورة تاريخية؟