أول الكلام: عَمَارْ يا مصر.
أما بعد، فلنذهب إلى ما هو أبعد من الأحداث اليومية، فعهد الرئيس مبارك قد انتهى، سواء خرج اليوم من سدة الحكم أو غداً. والنظام المصري لم يعد نفسه، سواء وقع التغيير بطريقة سريعة، أم تجلى في تحوّلات بطيئة وبعيدة المدى. وكذلك الأمر بالنسبة للعالم العربي. فالعالم العربي لم يعد نفسه بعد الثورتين التونسية والمصرية.
في مقالة الثلاثاء الماضي كتبتُ عن عدوى الأفكار، وعن حقيقة أن شعار “الشعب يريد إسقاط الرئيس” الذي أطلقه التونسيون والمصريون يمثل تحوّلا في لغة السياسة العربية، وأن أصداء هذا التحوّل ستُسمع في أكثر من عاصمة عربية في قادم الأيام. المسألة أكبر وابعد من بن علي ومبارك.
والمهم، الآن، أن نفكّر في معنى التغيير. فقد انتهت مرحلة من مراحل التاريخ العربي وبدأت مرحلة جديدة. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالدلالة التاريخية لما حدث، يمكن الخروج بفرضيات محددة من بينها:
أن الحقبة السعودية انتهت. وهذه صعدت منذ مطلع السبعينيات في القرن الماضي، ووصلت إلى خط النهاية في يناير النور قبل أسابيع قليلة. بدأت بعد هزيمة العام 1967 ووفاة بعد الناصر، وتبلورت كظاهرة بعد حرب أكتوبر في العام 1973 وما نجم عنها من زيادة هائلة في عوائد النفط، وتجلت بشكل أكثر وضوحا بعد انخراط السعودية بالتحالف مع مصر في الحرب الباردة إلى جانب الولايات المتحدة ضد الروس في أفغانستان.
وإذا كان ثمة من ضرورة لإعادة الفضل إلى أصحابه، فإن محمد حسنين هيكل كان أوّل من رصد صعود الحقبة السعودية في سبعينيات القرن الماضي، ورد عليه آنذاك صادق جلال العظم بمقالات نشرها في كتاب بعنوان “كارتر ومنظرو الحقبة السعودية”.
ولكن ما معنى الحقبة السعودية؟
الحقبة السعودية تعني أشياء مختلفة. فهي لا تنحصر في زيادة النفوذ السياسي للدولة السعودية، بعد وفاة عبد الناصر وانهيار الحركة القومية العربية وحسب، بل تعني أيضا صعود قيم وتأويلات أيديولوجية لنظام أصبحت لديه إمكانية التأثير على الإقليم، وبالقدر نفسه أصبحت مكانته في الإقليم مشروطة بمدى نجاحه في تصدير أو إقناع الآخرين بنجاعة وجدوى نظامه في السياسة والحكم. كان نظامه في السياسة والحكم جزءا من ميراث القرون الوسطى، لكن مكانته في الإقليم ارتفعت على ساعد ثروة مفاجئة وغير مسبوقة في تاريخ بني البشر، كما كان نظامه مرفوعا على ساعد تأويلات أيديولوجية للدين كان نجاحها مشروطاً بقدرتها على التحوّل إلى موضوع للمحاكاة من جانب آخرين في مدن وحواضر بعيدة.
والواقع أن اختزال معنى الحقبة السعودية في السياسة الرسمية للدولة السعودية (التي كانت تنفق في السبعينيات ما بين مليارين إلى ثلاثة مليارات دولار في العام على شؤون “الدعوة”) يظل أمراً منقوصا. فالحقبة بالمعنى العريض للكلمة تشمل بقية الدول النفطية وكذلك الشبكات الاجتماعية والمالية والتجارية والاستثمارية الجديدة التي نجمت عن الثروة النفطية. وفي حالات كثيرة كان لتلك الشبكات، وما يزال، تأثير يتجاوز من حيث الأهمية تأثير ونفوذ الدولة نفسها. وبالقدر نفسه يشمل معنى الحقبة، أيضا، تيارات أيديولوجية وجماعات سياسية محافظة في مختلف الحواضر العربية.
وفي البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية لهذه الحقبة، حيث المزاوجة بين الاستهلاك، والربح، والتقوى، نشأت شبكات عربية مالية وتجارية واستثمارية عابرة للحدود، ذات مصالح متشابكة ومتضامنة، ونجح بعضها في تحويل ممثليه إلى حلفاء طبيعيين وشركاء للحكّام في الحواضر، كما هو الشأن بالنسبة لحكومة رجال الأعمال المصرية عشية الثورة. ولنتذكّر أن عملية نهب المصريين بدأت في السبعينيات عن طريق شركات الريّان لتوظيف الأموال في مصر، التي طرحت للمرّة الأولى فكرة المرابحة والاقتصاد الإسلامي، واشتغلت في أموال العاملين المصريين في السعودية وليبيا وبلدان الخليج.
والأهم من هذا وذاك بالمعنى الثقافي (الذي اشتغل على توليده وتعميمه وتسويقه مثقفون ورجال أعمال ودعاة وساسة على مدار العقود الأربعة الماضية) أن الثروة أصبحت بديلا عن الثورة، وأن السياسة ارتفعت من الأرض إلى السماء. لم تعد المصالح المادية من مأكل وملبس ومأوى وصحة وتعليم تحظى بما تستحق من أهمية بالمقارنة مع المصالح “الروحية” للناس، التي لم يندر اختزالها في قضايا شكلية وهامشية إلى حد مطلق وبعيد، من نوع رضاعة الكبير..الخ.
والأهم، أيضا، أن ارتفاع السياسة من الأرض إلى السماء وجد تمثيله الأسمى في القضية الفلسطينية، حيث لا خبز ولا فقراء وحرية ولا مصالح يختصم عليها الناس، بل شهداء من ناحية وكفّار من ناحية أخرى. لم يعد الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي صراعا على الأرض، لم يعد حربا ضد الكولونيالية، بل أصبح صراعا بين مطلقات دينية موغلة في القدم. والكفاح النقابي السياسي والاجتماعي، وقضايا المرأة والعدالة والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان، تراجعت كلها في عالم انقسم إلى قسمين: مؤمنين وكفّار، وإلى سنّة وشيعة، أو إلى مسلمين ومسيحيين. ومقابل المناضل الوطني، والحزبي، والنقابي، والشخصية العامة المستقلة، صعد الانتحاري باعتباره أعلى مراحل رفع السياسة من الأرض إلى السماء.
من السخافة، بالتأكيد، أن نعزو كل ما شهده العالم العربي من تدهور على مدار العقود الأربعة الماضية إلى أفاعيل أغنياء النفط الجدد، وأيديولوجياتهم الصحراوية، فالنخب الحاكمة في كل مكان من العالم العربي تشم جهة الريح، وتتأقلم مع التحوّلات الجارية في الإقليم وقد أسهمت بدورها في تدمير بلدانها.
كيف تشم النخب جهة الريح؟
صدّام حسين، مثلا، الطاغية الذي بدأ الحكم بشعارات علمانية اكتشف في سنواته الأخيرة مدى فائدة توظيف المطلق في تبرير السياسة، فتحوّل إلى حكيم تقطر من أهدابه التقوى لا يتكلّم إلا عن الخير والشر. وفي المقابل نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، الذي جاء إلى سدة الحكم على لائحة طائفية أصبح فجأة ديمقراطياً، فأعلن بعد الثورة المصرية بأنه لن يترشح لمرة ثالثة.
الأكيد أن أغنياء النفط الجدد وأيديولوجياتهم الصحراوية هم أصحاب وسائل النشر والإعلام والاتصال الأكثر انتشارا، والمصالح المالية الأكثر نفوذا، وقد أسهموا في توفير البنية التحتية للأيديولوجيات الصحراوية في الحواضر، ولجماعات التطرّف والإرهاب. ولم يدرك هؤلاء حقيقة الوحش الذي أسهموا في تسمينه بالمقويات الأيديولوجية، وحقنه بالمساعدات المالية، سوى بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وهذه حكاية أخرى.
كما أن صعود الحقبة السعودية في سياق، وبالتزامن مع، إنشاء منظومة أمنية وسياسية أميركية في الشرق الأوسط بعد العام 1973، لتأمين استقرار المنطقة، وضمان أمن وتفوّق إسرائيل، وفض العلاقة بين النفط وفلسطين، وبين الثروة والأخلاق في العقود الأخيرة، وسيادة منطق أن كل شيء ممكن طالما كان لديك المال، واللعب بالبيضة الحجر، على طريقة حكّام المشيخة القطرية (وهي من إفرازات الحقبة نفسها وأبرز تجلياتها الكاريكاتورية) حكاية أخرى، أيضا.
المهم أن الثورة المصرية، وقبلها التونسية، تعيد الاعتبار إلى العلاقة بين المواطن والسياسة. وهذا معنى نهاية الحقبة السعودية. عادت السياسة من السماء الأرض، وأصبح من حق الناس باعتبارهم مواطنين لا رعايا أن يقولوا للحاكم:
كفى، أخرج الآن. لم يفعلوا ذلك لأنه كافر، أو لأنه باع فلسطين، بل لأنه لا يوفر لهم الخبز والحرية، ولأن الحاكم ينسى حقيقة أن ما يصلح للمواطن في الديمقراطيات الغربية يصلح للعربي، أيضا: انتخابات حرّة، انتقال سلمي للسلطة في مدد معلومة، حرية تعبير وتفكير، مساواة بين النساء والرجال، وحقوق إنسان تكفلها دساتير جديدة. فلم يعد من مجال للكلام عن استثناءات ولا عن خصوصيات تاريخية وثقافية. هذه كلها سقطت بلغة وأدوات العصر. لذا، فإن خير الكلام أوّل الكلام: عَمَارْ يا مصر.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
الأيام
عَمَارْ يا مصر..!!
أبو القاسم
تحية تقدير للكاتب على الرأى الصائب