لو كانت الكلمات، مثل الإنسان، حيوانات ناطقة، لكنتَ سمعت من بعيد أنينها على ما بلغه بعضها من اجتثاث لجذوره ولمعناه. ومن أجل ماذا هذا التشريد؟ من أجل ذلك الهدف، «النبيل» دائماً، الذي اسمه الفكرة السياسية، أو التكوين الايديولوجي المستفحل.
خذْ مثلاً كلمة «العنصرية»، أو «يمين-يسار«.
الأولى، العنصرية، وبقدرة قادر، صار يستخدمها طرف بعينه، هو «المقاوم» اللبناني، لتغطية كلمة أخرى، «الطائفية» أو «المذهبية». فتحضر «العنصرية»، لـ»تصف»، ودائماً بلهجة استنكارية، سلوك هذا الطرف أو ذاك، أو لسانهما، الذي نضح منه موقف ضد طائفة بعينها. «فلان ألقى خطاباً عنصرياً«، أو «أصدر موقفاً عنصرياً«: تفهم من هذا العنوان، وقبل أن تدقق في تفاصيله، أن لهذا الفلان موقف الكراهية أو الاحتقار أو النبذ تجاه الطائفة المدعومة من ذاك الطرف المقاوم. آخر تجليات هذا الاستخدام هو التغطية الإعلامية لأبرز الصحف «المقاومة« للتفجير الإرهابي ضد كنيسة القديسين في الاسكندرية، فكان عنوان المقال الذي تناوله: «تفجير كنيسة القديسين يفتح ملف العنصريّة المصريّة»؛ «العنصرية المصرية» بدل «الطائفية المصرية«…
في المعنى الماضي والحاضر لكلمة «عنصرية» شيء بعيد عن الدين أو الطائفة؛ إنه الاضطهاد القائم على تمييز البشر على أساس أصولهم العرقية أو الاثنية. والاثنان سواء، بمعنى أنهما يذهبان الى أبعد الأصول، تلك الوحيدة القادرة على الثبات أمام كل تقلّبات التاريخ. طبعاً الأعراق اختلطت وصار من الصعوبة بمكان ايجاد أعراق «صافية» تكون الهدف المنطقي لمستحبي اضطهادها وهدر حقوقها أو قتلها إلخ. وهي صارت أشبه بتصورات عن هذا العرق أو ذاك، وهي نفسها تصورات ايديولوجية، غرضها هيمنة «عرق» على باقي أعراق يفترض أنها بدائية، بربرية، لا تجيد حكم نفسها. ولكنها تبقى أعراقاً، تعبرها الأديان والمذاهب طولاً وعرضاً. الانزلاق اللغوي الأول الذي أصاب كلمة «عنصرية» هو بفعل تلك الحرب الحضارية الدينية، التي حوّلت المسلم المقيم في الغرب الى ضحية من ضحايا «عنصرية»، لا تقوم على العرق أو الاثنية بل على الدين. اختلاط الدين بالأصول الجغرافية سهّل هذا الانزلاق، وبتنا نسمع ونقرأ عن «عنصرية بيضاء» تجاه أهل المغرب الكبير وبعض جنوبه في فرنسا أو ايطاليا، أو تجاه الأتراك في ألمانيا!
ما الدافع وراء هذا التقلّب اللغوي الأول، الغربي المصدر؟ الأرجح أنه تعبير عن ثقل التراث العلماني ورقابته الفكرية، الذي يستطيع احتضان تمييز بين الأعراق، ولكنه لا يطيق التمييز على أساس الأديان. ويتبعه نوع من الخجل الغربي من أن يكون على أراضيه «صراع أديان»، هو بالضرورة طرف فيه، ولن يكون إلا مسيحياً، ما يتناقض مع الأسس الجمهورية العلمانية. فصارت «العنصرية» في الغرب تعني ضمناً التمييز القائم ضد الدين.
هكذا حطّت «العنصرية» في ديارنا. الآن، نستخدمها نحن أيضاً، كما يستخدمها الغرب، أي بمعنى التمييز القائم ضد مسلميه. ولكن بعضنا، وخصوصاً الإعلام «المقاوم»، لم يكتف بتلقي «العنصرية»، هكذا، من دون التدقيق بأصولها وفحواها؛ بل أضاف انزلاقاً ثانياً الى الكلمة بحيث باتت تغطي التمييز الطائفي- المذهبي.
اذا كان الغرض العميق للتلاعب بالكلمة هو إخفاء الوجه الديني للاضطهاد، فإن مرمى بعضنا يكشف عن شيء أخطر من ذلك.
فإدانة الطائفية أو المذهبية بوصفهما «عنصرية»، مع العلم بفحواها الغربي الراهن، المعطوف على معناها الأصلي، يحقق أشياء قد لا تكون في البال، وقد تكون: فهو يفضي أولاً الى حتمية الارتباط بين الصراع «العنصري» الغربي، والصراع الذي تخوضه جهتنا «المقاومة» مع خصومها المحليين. والعولمة عامل مساعد، تصبح امتدادات الصراع الدولية، والسند الذي تكون المقاومة قد نسجته مع ضحايا التمييز العنصري في الغرب، هي الحامل الجبار لصراع كوني، أطرافه الامبريالية الغربية بالتحالف مع الصهيونية بوجه جبهة شعبية عالمية مع نصف بلد يخوض «مقاومة» ضد «العنصرية«.
المآل الثاني لهكذا انزلاق لغوي يكمن في عنصر الثبات الذي تنطوي عليه مكوّنات كلمة «عنصرية». والمعنى البعيد لهذا الثبات هو أن أطراف هذا الصراع لن يتغيروا، هم هم كما كانوا سيبقون، لأن العرق، مثل الجنس، وقبل الدين، لصيق بالشرط البشري. فيما الدين يمكن تغييره في ظروف أخرى. ولكن الآن، ما يساعد على ترسيخ الدين- العرق، هو أن الصراع مغرق في دينيته، وأن الدين يبدو مستحيل التغيير أو التبديل.
ثالثاً: العنصرية بدل الطائفية أو المذهبية يسمح بالمزيد من أبْلسة العدو الوطني، غير «المقاوم»، بتضخيم الخطر الآتي منه، بتغذية البارانويا التي تسِم سلوك المقاوم ونفسيته: المذهبية والطائفية فقدا زخمهما التعبوي، أو على الأقل لم يعودا طاقة تجنيد جبارة. «العنصرية» أقوى، أشمل، تبقي الأصبع على الزناد، تحيي اليقظة. ومن دون هذا المزيد من الأبلسة، المزيد من التخويف، لا يستوي التهديد بـ»الفتنة»: تلك الكلمة الأخرى المستلّة من التاريخ، والتي تُعتبر الحروب الأهلية الراهنة أمامها لعب أطفال. الخوف والتخويف، هما أساس «الفتنة» القائمة على أسباب حديثة، مثل «العنصرية». لا شيء يمكن أن يكون ما بعد حداثي أكثر من ذلك.
اليمين-اليسار الآن. في الأساس هو انقسام داخل الجمعية الوطنية الفرنسية مباشرة بعد الثورة الفرنسية؛ النواب المؤيدون لسلطة البرلمان ورفض إعطاء الملك حقّ الفيتو، جلسوا الى يسار رئيس البرلمان، هم اليساريون. فيما اليمينيون المؤيدون للملك جلسوا الى يمينه. وحصول اليساريين على الغالبية في البرلمان لم يغير مكانهم، بقوا على اليسار. وهكذا، ومنذ بدايات الكلمة، كانت هناك مخالفة صريحة لمعناها. في الوقت الذي عنت فيه بالأصل معارضة السلطات الحاكمة، كانت كلمة «يسار» يمكن ان تصف رؤساء جمهورية ووزراء وغالبية من النواب.
طبعاً غياب المداولة السياسية عندنا كما هو حاصل في بلد منشأ «يسار- يمين»، فاقمت من عشوائيته الغربية. اليساري المعارض بالأساس للحكم القائم صار يسارياً مزمناً، عتيقاً، صاحب سلطة أخرى، متزمّتاً في لغته، المطلوب أن تكون دائماً «حادة» تجاه «الحكام» في بلاده. وبلغت الحال باليساري من اليأس في الوصول الى الحكم بأن حوّل مساره «النضالي»، من معارض يساري الى موال يساري: ليس لأنظمة الحكم فحسب، بل لكل الأنظمة السلطوية الأخرى التي أثبتت قدرتها على إحياء سلطات أخرى، أحياناً أقوى من الحكومة. موال يساري، أو معارض يساري. اختلط الاثنان، وبقيت صفة اليساري. والوظيفة؟ سهل أن تحزرها: إعادة تأكيد الصفات المحمودة المرتبطة «تاريخياً« باليساري؛ والذي بابتعاده النظري عن السلطة، احتفظ بالطهارة والإحساس الثوريين، اليساريين، ولم يحمل إلا هموم القضايا الوطنية النبيلة.
ولكن اليساري صار له منافس أيضاً في هذه الأوقات العصيبة: المعارض الإسلامي، الذي يكره نظام حكم بلاده كما يكره الشيطان، أي بنفس المشاعر الحماسية التي كانت تفيض عن اليساري الشاب السابق. ماذا عسى يفعل اليساري أمام هكذا منافس؟ يساريته ذات التكوين السوفياتي أو الماوي، وطقوسية شبه الدينية، تقربه من «المعارض» الإسلامي؛ فضلاً عن نقطة ارتكاز وجوده، اي محاربة الامبريالية والصهيونية والرأسمالية. بعض الإعلام «المقاوم» الحليف للـ»قائد» الإسلامي في حربه هذه يقوم على هذه المزاوجة السعيدة؛ غيفارا وماركس وعماد مغنية وولاية الفقيه… هذا الخلط المحض يمارسه «يساريون» مع أشكال «المقاومة»، الإسلامية بالضرورة؛ فيما يؤسس أنفارٌ لنظرية قديمة جديدة، قوامها التقاء الوحي المحمدي بالأهداف اليسارية الكبرى، أو حتى «الشيوعية».
حالة أخرى من انتحال صفة: عندما تكون السلطة القائمة ذات ادعاءات «يسارية علمانية تقدمية»، تزايد على المعارضة الدينية ولكنها تتلاعب بعلمانيتها التأسيسية المفترضة. كيف يصف اليساري المنضوي تحت هذه السلطة، هذه المعارضة الإضافية، المختلفة، هو المعارض بدوره، يصفها بالمعارضة «اليمينية». وهذه مفارقة لا يحلّها خلط الألفاظ أو التلاعب بها.
انها مفارقة تبيّن أن الكلمات التي استعملناها في السابق من دون تدقيق أصلاً تفاقمت قلة مطابقتها لما هو مفترض أن تعنيه. ما يضعنا أمام مهمة ثقيلة، قوامها إعادة تسمية الأشياء، إعادة تعريف معاني الكلمات. وإلا غرقنا أكثر فأكثر في بحر التشوّش الذي يسمح لكل أشكال الغوغائية «النبيلة» أن تعبث بعقولنا وألستنا.
“نوافذ” المستقبل