رأى أن «حزب الله» سجين استحالتين … وقال لجنبلاط ان الدماء هي التي دفعت اللبنانيين للمطالبة بالعدالة
سمير فرنجية لـ «الراي»: مذكرات التوقيف تعني قفْل سورية باب التسوية مع لبنان
بيروت – من وسام ابو حرفوش
وفي ما يأتي نص الحديث:
• ما الدلالات السياسية لمذكرات التوقيف السورية؟
– أذهلتني الخطوة التي أقدمتْ عليها سورية بإصدار مذكرات توقيف بحق عدد من المسؤولين والناشطين اللبنانيين، فهذه الخطوة ليس لها مفعول قضائي، لكنها تعني ان سورية لم تتعلم شيئاً من تجربة الماضي وليست راغبة في بناء علاقة طبيعية مع لبنان. والامر الخطير في هذا المجال هو ان هذه المذكرات جاءت لتلغي جهداً استثنائياً قام به اللبنانيون لطيّ صفحة الخلاف مع سورية، وهو خلاف يعود الى بدايات العهد الاستقلالي. وهذا الجهد قام به رئيس الحكومة سعد الحريري الذي واجه صعوبات قصوى في إقناع جمهوره وحلفائه والرأي العام اللبناني بإمكان التأسيس لمرحلة جديدة في العلاقة بين لبنان وسورية. وتالياً جاءت مذكرات التوقيف لتلغي هذا الجو، وهو ما يشكل جريمة بحق اللبنانيين والسوريين على حد سواء. وربما تكون الاعتبارات التي دفعت سورية الى اتخاذ مثل هذا الاجراء اعتبارات تكتيكية من نوع «توجيه الرسائل»، لكن الخطر في الأمر ان قيام دمشق بهذه الخطوة في هذه اللحظات المصيرية يعني للبنانيين ان باب التسوية أُقفل وان سورية عادت الى سياستها القديمة.
• ثمة مَن يعتقد ان تلك المذكرات شكلت «رصاصة الرحمة» على التفاهم السوري ـ السعودي حول لبنان، هل يمكن بلوغ هذا الاستنتاج؟
– أعطت سورية اشارات عدة لانقلابها على التفاهمات مع السعودية، منها ما جرى في العراق، ومنها موقفها المعلن من مفاوضات السلام، ومنها ايضاً الاشارات التي أعطتها الجماعات التي تنطق باسمها في لبنان وعلى رأسها (المدير العام السابق للامن العام) اللواء جميل السيد، لكن هذه الاشارات تبقى قابلة للاخذ والرد، وقد يندرج بعضها في اطار محاولات سورية للبقاء على مسافة واحدة من طرفيْ الصراع في لبنان، لكن ما حدث مع مذكرات التوقيف له اهمية رمزية قصوى لانه يتخطى اطار الاشارات التي توجَّه من دولة الى اخرى، ليطول جمهور اللبنانيين بغالبيته وكأن الرسالة هذه المرة لم تعد موجّهة الى السعودية بل الى اللبنانيين، وهذا ما هو مؤسف.
• اللافت ان الخطوة السورية تزامنت مع قمة في طهران ضمت الرئيسين بشار الاسد واحمدي نجاد، ما سر تحفظكم عن زيارة الرئيس الايراني للبنان؟
– زار لبنان في نهاية الاضطرابات الاهلية العام 1958 الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو كما يعلم الجميع كان يتمتع بتأييد شعبي في لبنان يفوق بكثير ما يتمتع به الرئيس الايراني احمدي نجاد اليوم، ذلك ان هذا التأييد لم يكن محصوراً بجماعة من دون اخرى. وما فعله جمال عبد الناصر آنذاك انه رفض المجيء الى لبنان للقاء الرئيس فؤاد شهاب نظراً للحساسيات التي قد تحدثها هذه الزيارة، فأصرّ على لقائه على الحدود بين لبنان وسورية، التي كانت آنذاك جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، فنُصبت خيمة على الحدود والتقى الرجلان هناك. وبهذا اعطى جمال عبد الناصر إشارة لكل اللبنانيين بانه مصرّ على احترام استقلال بلادهم وسيادتها.
في العام 2003 جاء الى لبنان الرئيس الايراني السيد محمد خاتمي وأصرّ امام جمهور المحتشدين في المدينة الرياضية في بيروت على تأكيد اهمية النموذج اللبناني واهمية دور لبنان في حوار الحضارات، وهو الذي عمل على دعم العيش المشترك الاسلامي ـ المسيحي وعلى التقريب بين المذاهب الاسلامية.
اليوم وبعد سبعة اعوام، يأتي الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد ليعلن ان لبنان هو ساحة لصراع الحضارات وانه مجرد اداة في خدمة السياسة التي ترسمها ايران. فهذه الزيارة خطيرة، اولاً لانها ستزيد من حدّة الانقسام اللبناني، وثانياً لأنها قد تشكل مبرراً تستخدمه اسرائيل لعدوان جديد على لبنان، وثالثاً لانها توحي بان عروبة لبنان مسألة خلافية بين اللبنانيين وان لبنان خارج عن الاجماع العربي.
• البعض وعلى رأسهم النائب وليد جنبلاط يعتبر ان المحكمة الدولية تشكل خطراً على لبنان وسلمه الاهلي، الا يمكن تفادي هذا الامر؟
هذه المعادلة ليست واقعية. فليست العدالة هي التي تتسبب باراقة الدماء التي دفعت اللبنانيين الى المطالبة بالعدالة، وما من امكان لبناء سلمنا الاهلي وعيشنا المشترك خارج العدالة.
• في ظل «هلع عام» من فوضى محتملة، تذهبون الى مبادرات «نظرية» من أقرب ما تكون الى ترف سياسي ـ فكري من نوع «مبادرة بيروت» الأخيرة… هل بهذا السلاح ستواجهون ما تصفونه بـ «انقلاب الفريق الآخر»؟
– سبق ان واجهنا حالة اصعب بوثيقة «نظرية» كما تقولون، وذلك عندما أصدرنا «اعلان بيروت» العام 2004. وبهذا المعنى، الوثيقة فعالة، وخصوصاً انه يراد من خلالها:
اولاً، إعادة تأكيد المشترك بيننا كلبنانيين، والمشترك بيننا كلبنانيين وعرب على قاعدة ان مستقبلنا ومستقبل العرب مرتبط بقدرتنا على حماية عيشنا المشترك مسيحيين ومسلمين، ومسلمين سنّة وشيعة. فـ «مبادرة بيروت» أرادت تثبيت «قواعد» هذا العيش المشترك، تلك القواعد التي اصبحت عند البعض مجرد «وجهة نظر». فالتمسك مثلاً بأن يكون في لبنان جيش واحد لا جيشان اصبح وجهة نظر، وان تكون العدالة في اساس العيش المشترك اصبح ايضاً وجهة نظر، لذا كان لا بد من معاودة تأكيد الثوابت التي يقوم عليها الاجتماع اللبناني.
ثانياً، في «مبادرة بيروت» دعوة للمجتمع المدني لاعلان حال طوارئ مدنية لمواجهة العنف، وهذه الدعوة ليست «نظرية» لانه في العام 2005 تمكّن هذا المجتمع المدني من فرض انسحاب القوات السورية من لبنان من دون اللجوء الى العنف، والجميع يتذكرون التحركات السلمية والديموقراطية التي حصلت آنذاك. فالمجتمع المدني او الرأي العام هو قوة المواجهة الوحيدة في ظل التهديدات المتكررة التي تُطلق يومياً. والرأي العام هو ايضاً الضمانة لعدم ايقاظ الفتنة المذهبية حفاظاً على لبنان وحفاظاً على العالم العربي. فهذا «الرأي العام» يستطيع اعادة تأكيد دور لبنان النموذجي في مواجهة الفتن على كافة انواعها في اللحظة التي يعيش عالمنا العربي والاسلامي «حروباً اهلية» متنوعة.
• هل تعني ان «مبادرة بيروت» قادرة على القيام بـ «شيء ما» على هذا المستوى؟
– هناك بحث جدي في امكان اطلاق تحرك عنوانه تثبيت العيش المشترك على قواعد جديدة. عيش مشترك لا يقوم على شروط طائفة من طوائف لبنان ولا شروط طائفتين او اكثر، بل يقوم على شروط الدولة.
في تاريخ لبنان كان العيش المشترك يتم بشروط الطائفة المهيمنة. اليوم لم يعد من طائفة مهيمنة، ولا يمكن العودة الى زمن هيمنة طائفة على الطوائف الاخرى، وتالياً فإن البحث عن العيش المشترك يجب ان يتم بشروط الدولة التي ننتمي جميعاً اليها. وهذا الامر يفسح امام الجميع للخروج من القوقعة الطائفية او المذهبية حفاظاً على البلاد وحفاظاً على الطوائف عينها. والبديل عن هذا العيش المشترك المتجدد، سيكون العودة الى زمن الحرب والى زمن حماية كل طائفة من طوائف لبنان عبر الاتكاء على الخارج، اي على الآخرين. فحماية اي طائفة لا تتأمن بقواها الذاتية مهما كبرت. لذا فان هذه المبادرة هي ايضاً لتجديد العقد الاجتماعي في لبنان، وكان ينبغي ان تتم فور خروج الجيش السوري من لبنان، لكن الظروف في حينه لم تسمح بذلك. اليوم اصبحت هذه المهمة مصيرية لمستقبلنا جميعاً، وأستطيع القول انها اصبحت اساسية لمستقبلنا العربي ايضاً.
• تتحدثون عن رغبة الطوائف في تجديد العيش المشترك، فيما انتم تخشون اختزال «حزب الله» للطائفة الشيعية…
– ألفت الانتباه الى ان بين الموقّعين على «مبادرة بيروت» نسبة كبيرة من الناشطين ينتمون الى الطائفة الشيعية. فهذه الطائفة تملك حيوية تفوق بكثير كل محاولات الاختزال التي تتعرض لها. وهذه الحيوية برزت في تاريخنا الحديث في مناسبات عدة، اولاً عند محاولة تطوير النظام اللبناني على قاعدة إدخال مفهوم جديد وهو مفهوم العدالة الاجتماعية، وهذا ما قام به الامام موسى الصدر، وثانياً عندما لعبت هذه الطائفة دوراً مهماً في محاولات تطوير النظام اللبناني عن طريق انخراط الكثير من ابنائها في صفوف اليسار، وثالثاً عندما اضطلعت هذه الطائفة بدور اساسي في تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي عن طريق المقاومة الوطنية وعن طريق المقاومة الاسلامية، وايضاً كان لهذه الطائفة دور حاسم في تأكيد نهائية الكيان، اضافة الى دورها المهم على المستوى العربي عبر الطلب من الشيعة الاندماج في اوطانهم، وهذا ما كان يردده الامام الراحل محمد مهدي شمس الدين. من هنا أعتقد ان ليس هناك اي مشكلة في مشاركة النخب الشيعية في تجديد اسس العيش المشترك.
• الا تعتقد ان الاجواء السائدة اليوم قد تتسبّب في احداث امر واقع جديد يجعل المبادرة دون جدوى؟
– ما نشهده في لبنان اليوم هو نهاية لمشاريع حكمت الحياة السياسية اللبنانية لفترة طويلة، مشاريع طائفية جعلت اللبنانيين يتقابلون وجعلتهم يستدرجون الخارج الى الداخل وصولاً الى تدمير بلدهم وتدمير طوائفهم. اليوم نعيش آخر مرحلة من المشاريع الايديولوجية التي يمثلها «حزب الله». هذا النوع من المشاريع لا يحظى بتأييد خارج الاطار الضيق الذي يمثله هذا الحزب، وهو مشروع لم يعد لديه بُعد خارجي بعدما سقط النموذج الايراني سياسياً في انتخابات الـ 2009، وعملياً بسبب الحصار المفروض على ايران. وتالياً ليس هناك من مشاريع قابلة للحياة تُطرح على اللبنانيين، هناك فائض قوة يحاول «حزب الله» التهويل به، ولكن هذا الفائض من القوة اصبح عبئاً على اصحابه وخطراً عليهم.
المبادرة التي اطلقناها تدعو «حزب الله» للعودة الى لبنان، والعودة الى الدولة بشروط الدولة والاتعاظ من التجارب الشبيهة التي مرت بها احزاب كانت تملك في حينه فائضاً مماثلاً من القوة، وأدى في النهاية الى تدميرها.
• لكن «حزب الله» يواجه خطراً فعلياً اسمه المحكمة الدولية؟
«حزب الله» امام استحالتين: استحالة الغاء المحكمة لان هذا الموضوع هو في عهدة الامم المتحدة، واستحالة استخدام سلاحه لتعطيل مفاعيل هذه المحكمة، وهو سجين هاتين الاستحالتين ولا يرى سبيلاً للتحرك الا عبر هذا الكم الهائل من التهديد والوعيد. وفي رأيي ان عليه ان يبحث بجدية عن حل قابل للتنفيذ، ومن المفيد ربما ان ينظر الى ما فعله السوريون في هذا المجال وان يعيد صلاته بالاطراف اللبنانية الاخرى للبحث عن موقف مشترك على قاعدة احترام الدولة. ولا أشك للحظة في امكان تعاون الجميع مع «حزب الله» في حال اعتمد حلاً مقبولاً لأزمته الراهنة. والحل المفترض يجب الا يضع العدالة في مواجهة السلم الاهلي بل يضعها اساساً لتثبيت السلم الاهلي