قبل ثماني سنوات، في الربيع، كانت رام الله تنتظر الاجتياح الكبير. الدبابات الإسرائيلية على أطراف المدينة. طائرات الهليوكوبتر تنقض من السماء فتصطاد أهدافا بشرية على الأرض. في الشوارع المحاذية للأطراف تحصينات بدائية من أكياس الرمل، وقضبان حديدية، وأكوام من الحجارة. الطرقات التي تربط رام الله بمحيطها مقطوعة بالحواجز مرّة، وبأخاديد عميقة حفرتها الجرّافات الإسرائيلية وسط الطريق مرّة أخرى.
وكان مَنْ سيسقطون قتلى عمّا قريب على قيد الحياة. أعضاء فرقة الموسيقى العسكرية، الذين عزفوا قبل وقت قصير في الجنازة الرسمية لسليمان النجّاب، على باب المقاطعة، كانوا أحياء.
في تلك الأيام، وصل وفد البرلمان العالمي للكتّاب إلى رام الله، تلبية لدعوة من محمود درويش المُحاصر في مدينة مُحاصرة، وتضامنا مع الفلسطينيين شعبا وقضية. جاء النيجيري وول سوينكا، الحائز على جائزة نوبل للآداب، والأسباني خوان غويتسولو، والإيطالي فينسنزو كونصولو، والأميركي راسل بانكس، والجنوب أفريقي برايتن برايتنباخ، والفرنسي كريستيان سالمون، والصيني بي داو، والفلسطيني المقيم في باريس الياس صنبر، والبرتغالي خوزيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للآداب، الذي رحل، مأسوفا عليه، عن هذه الدنيا في الثامن عشر من حزيران (يونيو) الجاري.
نزلوا في فندق الغراند بارك، وفي فيلا فاتشي القريبة، التي أصبحت الآن مقرا لسفارة أجنبية، وكانت في حينها أفضل مطاعم رام الله، احتفينا بحضورهم في المساء. ليس في اللحظة ولا في المكان ما يوحي بحب الاستطلاع السياحي، أو نشوة الانخراط في مغامرة تكسر المألوف.
هؤلاء أشخاص جادون، في رحلة للبحث عن المعنى. لم تكن السترة الجلدية، والثياب الداكنة التي يرتديها ساراماغو، الأكثر إثارة للانتباه، بل قامة فارعة، ومشية وئيدة توحي بقدر مدهش من الثقة والطمأنينة، كأن الرجل يمشي في بيت العائلة، وكأن الثمانين عاما التي يحملها على منكبيه مجرد فكرة طارئة لم تنجح، بعد، في إقناع جسد مشدود بالانحناء قليلا أمام وطأة الزمن.
ذهبنا في اليوم التالي إلى جامعة بيرزيت. أوصلتنا السيارات إلى الأخدود الذي حفرته الجرّافات الإسرائيلية، بعمق متر وعرض يتجاوز المترين، على مدخل قرية سردا، لقطع الطريق ما بين رام الله وقراها في الاتجاهين. وكان علينا السير على الأقدام لاجتياز الأخدود وصولا إلى السيارات المُنتظرة على الطرف الآخر.
ما أكتبه الآن لا يقبض على المشهد بكل تفاصيله. كان الوقت منتصف النهار تقريبا، وما من أثر لظل يحمي العابر من شمس عمودية لا تبالي، هناك في الأعالي، بما نكابد، نحن، على الأرض.
على جانبي الأخدود مئات البشر في الاتجاهين. أولاد وبنات الجامعة في الطريق منها وإليها، موظفون، قرويون، مسافرون إلى الجسر، وعائدون منه. مئات من المصائر الفردية الفريدة حكمت ضرورات الحياة اليومية، وغير اليومية، على أصحابها بالعبور من هذا المكان. هذا يحجل وذاك يقفز كالماعز البري فوق أكوام الحجارة المتناثرة على جانبي الأخدود تحت شمس عمودية، الأحذية التي اجتهد أصحابها في تلميعها في الصباح أصبحت بلون التراب، وفي أعلى التل رشاشات ثقيلة تطل كأعين مطفأة تحت قماش مموّه يظلل جنودا إسرائيليين.
بيد أن المشهد لا يكتمل دون الكلام عن الغبار، الذي تثيره الأرجل، وعربات تجرها الحمير على الجانبين لنقل المتعبين، وما لا يحصى من باعة المشروبات الغازية، والقهوة، والماء، والباعة الذين اختاروا لأنفسهم مواقع “إستراتيجية” لتسويق ما لديهم من فواكه وخضروات. العبور يحتاج إلى دقائق معدودات، ولكن يحدث أحيانا أن يتغيّر مزاج الجنود الإسرائيليين فيوقفون الحركة على الجانبين إلى وقت غير معلوم، فتزدهر التجارة، وينتصر منطق السوق.
شمس عمودية، غبار، فوّهات كأعين مطفأة، صخب فوضوي من أصوات الباعة، ولهاث العابرين، وما ينجم عن احتكاك أقدامهم بالصخور المتناثرة، ونهيق حمير لا تقل تعبا عن بني البشر.
ذاك هو المشهد، الذي أصبح خوزيه ساراماغو جزءا منه قبل ثماني سنوات. مشى ابن الثمانين غاضبا ومتجهم الوجه. أطال النظر إلى القماش المموّه، وإلى فوّهات تبدو كأعين مطفأة، وإلى وجوه العابرين.
كنت أمشى حينها بينه وبين كونصولو، محاولا التعليق على بعض ما يكوّن المشهد، وسمعت منه، للمرّة الأولى، عبارة “أشم رائحة أوشفيتز”، قالها بالفرنسية كمن يُخاطب نفسه. وهي العبارة التي رددها مساء اليوم نفسه في مؤتمر صحافي، ونقلتها عنه صحافية إسرائيلية حضرت المؤتمر، فهاجت الدنيا وماجت في إسرائيل وخارجها.
احتلت عبارة ساراماغو، وما أثارته من ردود الأفعال مكانة بارزة في أخبار وصحافة وسجالات تلك الأيام، وعاقبه الناشر الإسرائيلي بالتوقف عن توزيع أعماله، وانتقده بعض الزملاء في البرلمان العالمي للكتّاب. ورد على هؤلاء في مقالة كتبها بعد الزيارة: ” إسرائيل تريد أن نرفض الاحتكام إلى أدنى مستوى من المنطق أو العقل إزاء أفعالها، وأن نتحوّل كلنا إلى تابع مطيع، سلس القياد، يخضع تماما لإرادتها”.
في اليوم التالي، كنّا في بهو فندق الغراند بارك، عندما جاء شخص وهمس في أذن محمود درويش شيئا ما، وانسحب. قال محمود درويش عندئذ للحاضرين: ثمة دعوة لزيارة الرئيس ياسر عرفات في المقاطعة، وهي غير مُلزمة لأحد، وإذا قرر أحد منكم عدم تلبية الدعوة فهذا حقه وشأنه الخاص. قبل جميع الحاضرين الدعوة. كان ساراماغو وبي داو أكثر الحاضرين حماسة.
في المساء ذهبنا إلى “المقاطعة”، التي يعود تاريخ بنائها إلى زمن الانتداب البريطاني، والتي تهدمت بعض جدرانها وأبنيتها، وسُدت نوافذها بأكياس الرمل، وتراكمت في ساحتها بقايا سيارات محترقة، ومكعبات أسمنتية وحديدية لإعاقة الدبابات، وأكداس من الحجارة والأنقاض، وتوّزع في جنباتها مقاتلون ينتظرون اجتياحا سيأتي بعد قليل.
انتظرنا في غرفة جانبية بعض الوقت، ثم دخلنا إلى مكتب عرفات، الذي كان واقفا على الباب بذراعين مفتوحتين، يعانق هذا ويضم ذاك إلى صدره بطريقة مألوفة بالنسبة لنا، لكنها كانت مفاجئة في نظر القادمين من مكان بعيد.
أخيرا، ها هو ذا الرجل الذي طالما شاهدوا وجهه على شاشة التلفزيون، وسمعوا عنه في الإذاعة، وقرأوا عنه في الصحافة والكتب، على مدار خمسة وثلاثين عاما، يقف أمامهم، بكافة التفاصيل التي يحفظونها، كما حفظها غيرهم، عن ظهر قلب:
القامة القصيرة، الكوفية، اللحية التي لم تُحلق منذ بضعة أيام، الشفاه الغليظة، والبزة العسكرية، والأقلام الملوّنة في الجيب الأمامي على الصدر، وجيب أصغر على الذراع، والمسدس الذي أصبح من علاماته الفارقة.
ها هو ذا الرجل، الذي رشحته الأخبار على مدار عقود لموت محقق، ونجا دائما، الرجل الذي ينتظر حربا ستنشب بعد قليل، وموتا قد يكون محققا، يركض أمامهم بخفة شاب في مقتبل العمر إلى خزانة في أقصى الغرفة، ويعود محملا بدبابيس صغيرة ملوّنة تحمل شعار بيت لحم 2000، ويشكها على صدورهم الواحد تلو الآخر.
وقعوا جميعهم في أسره. أنصتوا لكلام في العموميات. تكلّم عرفات عن طفولته في القدس، ثم تذكّر بأن الحاضرين يحترفون الكتابة، فغيّر الموضوع وانتقل إلى الأدب. تكلّم عن “السموأل”، الشاعر اليهودي، وعن العلاقة بينه وبين امرئ القيس. عندئذ تدخل محمود درويش قائلا بالإنكليزية: كان امرؤ القيس أعظم شعراء العرب في الجاهلية، فرد عرفات بالإنكليزية، وكان حتى ذلك الوقت يتكلّم بالعربية، بينما ليلى شهيد تتولى الترجمة إلى الفرنسية: لا، لا، لم يكن أعظم الشعراء، بل كان واحدا من الشعراء العظام.
لم يكن عرفات خبيرا في شؤون الأدب، وبدت عبارته التي تدل على محاولة للإفتاء في موضوع لن يلومه أحد لأنه لا يعرف شيئا عنه، مدهشة في نظر الحاضرين. وعندما شرع المصوّر في التقاط صور تذكارية تسابقوا للوقوف إلى جانب عرفات، والتقاط الصور معه. ساراماغو وقف إلى جانب عرفات كمن يقف إلى جانب شقيق لالتقاط الصور في مناسبة عائلية، وبي داو قال لعرفات: كنت أنت وتشي جيفارا أهم بطلين في شبابي.
بعد لقاء عرفات ذهب الحاضرون إلى مسرح القصبة في رام الله، قرأ ساراماغو بالبرتغالية، وبرايتنباخ بالإنكليزية، وسوينكا بلغة محلية أفريقية، وغويتسولو بالأسبانية، في قاعة ضاقت على الحاضرين فافترشوا الأرض، وتجمع الأقل حظا منهم خارجها للاستماع إلى ما يدور في الداخل عبر مكبرات الصوت.
قرأ عزّت غزاوي نصوصا لبعض الضيوف مترجمة إلى العربية، ثم قرأ محمود درويش، الذي اختتم الأمسية بمقطع من قصيدة مديح الظل العالي: “سقطت ذراعك فالتقطها/ واضرب عدوك بي/ فأنت الآن حرٌ، وحرٌ، وحرُ”.
كانت الحرية في ذلك المساء، في مدينة تحاصرها الدبابات، وتحوم في سمائها الطائرات، ويدوي في جنباتها الرصاص، شيئا يمكن استنشاقه كالهواء، ولمسه باليدين. كان ثمة أشخاص ما يزالون على قيد الحياة، وكانت الحياة التي ستنسحب منهم بعد قليل مفتوحة على أفق واسع وبعيد. ومَنْ ما يزال حيا من شهود ذلك اليوم يستعيد ذكرى المشهد البعيد، وقد أيقظها خبر رحيل خوزيه سارماغو، البرتغالي، الذي خسر العالم بغيابه كاتبا من القطع الكبير، وخسر الفلسطينيون بغيابه صديقا وفيا، كان هنا ذات ربيع مضى ومضى.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام