أشرعت وسائط التقنية بواباتها الإعلامية للريح.. فحررت ” غصون” الكلام عبر الصحافة الالكترونية، من هيمنة احتكار الحكومات ، وحيازات رأس المال، إلى فضاء يكاد أن يكون مشاعاً أو متاحاً لكل إنسان لأن ينشئ صحيفته الخاصة، للتعبير عن وجوده وقناعاته واستهدافاته، مثلما مكـّنته من الوصول إلى المعلومة ( مهما كان مصدرها ، أو تفاوتت مستويات مصداقيتها)، ليمتلك معها بعض أسباب القدرة على الإسهام، بدرجات مختلفة، في صناعة الأخبار والرأي العام أيضاً.
وقد تم التعاطي مع هذا المناخ الجديد، بشكل سلس وطبيعي في البلدان الديمقراطية ، التي ترسّخت في حياة مجتمعاتها مفاعيل حرية التعبير و قيم التعددية واحترام الاختلاف وثقافة حقوق الإنسان، إلا أن تلك الثورة التقنية قد أحدثت في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، زلزالاً تاريخياً ومفاجئاً في بلدان العالم الثالث!
لماذا ؟
لأسباب عديدة، يقع في جوهرها غياب ثقافة الديمقراطية وآليات ممارستها في تلك البلدان المتخلفة، ولذلك فإن الأقطاب الثلاثة المولدة للحراك في أي مجتمع ، وبدرجات متفاوتة بالطبع ، ( الدولة – القوى المحافظة – التيارات التحديثية) قد وجدت نفسها في حالة صراع مع بعضها، في الحيز الممكن الذي تتيحه هذه التقنية، قبل أن تفكر في كيفية استثمار هذا المنجز الحضاري لتطوير مرتكزات قناعاتها، ومن ثم ثقافة مجتمعاتها ورقي أوطانها.
فالدولة – أولاً – رأت في هذه الوسائط الإعلامية تهديداً لسلطتها الشمولية، وتقليصاً لدورها في احتكار المعلومة ، وحقوق البرمجة الموجهة لتصنيع المجتمعات أو تعليبها، كما رأت فيها عدواً ينافسها في تشكيل مزاج المجتمع وتطلعاته و رأيه العام. ولذا لم تجد أمامها إلا استخدام سلطة القهر الاجتماعي والسياسي الذي تتفرد به لإصدار الأنظمة التي تظن أنها قادرة على الحد من حضور ذلك المنافس الجديد!
والقوى المحافظة ( المذهبية، والطائفية، والقبلية، و المناطقية، وغيرها) كطرف ثان في هذه العلاقة، قد استثمرت هذا المعطى الجديد من أجل التعبير عن آرائها وحقوقها، وعن رغبتها في الاستحواذ على حصة من فضاء السلطة الإعلامية العامة، يعينها على تأبيد الطابع التاريخي الاستاتيكي للمجتمع ( بحسب منطلقات ومصالح كل تيار وقناعاته) ، فغدت هذه الآلية الإعلامية المستوردة ذراعاً “حداثية” للتعبير عن مكوّن “محافظ”، لترفد به فاعلية تأثيرها المنتشرة في كل زاوية ومنعطف من الحياة، ولتوظفه في مسار ما تتقنه من عمليات الإقصاء والتصفية لكافة الأطراف الأخرى، عبر شتى الأساليب، بما في ذلك استدعاء المقدس الديني وتوظيفه قسراً لخدمة مشروعية ممارساتها و غاياتها.
أما التيارات التحديثية ( التنويرية والتقدمية والليبرالية) – ثالثاً- والتي تتشكل من أفراد ومجموعات ، و تتحدر من مختلف شرائح و تكوينات المجتمع، فقد انشغلت هي أيضاً في معارك ذلك الصراع غير الحضاري، للدفاع عن الذات والموقف. ولكن ما يميز أطروحاتها في هذا المجال عن القطبين الآخرين هو الوعي بحركة التغير عبر الزمن، فاهتمت (و بمستويات مختلفة) بتنمية رؤية عصرية ومستقبلية لتطوير حياة الفرد والمجتمع و رقي الوطن، وسعت إلى تعزيز عملية الإصلاح الشامل، وترسيخ بناء أسس دولة القانون والمؤسسات الحديثة، وجعلت من عناوين قيم الحرية (فكراً وإبداعاً ) والعدالة والمساواة، والتعددية والديمقراطية ، وحقوق الإنسان، مرتكزات أساسية في اشتغالاتها و استهدافاتها.
** ** **
فأين يموضع “منبر الحوار والإبداع” موقعه في هذا الحراك؟
عادة ً ما تكون الخطوة الأولى عفوية وغير واضحة على وجه التحديد، ولكن الطريق يقود السائرين عليه ليهتدوا إلى آفاق ما يتخلّق عبر تلك الخطوة من مسارات وعورة الممشى وتعب السفر ولذة المسير.
وهذا ما يدفعنا للقول – بصوت متواضع وصادق- أننا لا نخترع شيئا جديداً ، ولا نزعم لأنفسنا حيازة مكانة أكبر من غيرنا، وأن ما نهتم به لا يعدو كونه حزمة ً من عناوين ثقافية متعددة يأخذ مفهوم “الحرية” فيها موقع الناظم المركزي الذي يعني الفرد مثلما يعني مكونات المجتمع، من أجل أن يكون الوطن حضناً دافئاً يتنسّم فيه الجميع فضاءات الحرية والعزة و الكرامة ، بدون تمييز أو استثناء.
لذلك نرى أنه لا ينبغي لنا كأفراد أو كمجتمعات أو كحكومات، أن نلبس ثياب رهاب الخوف من مناخ حرية التعبير السلمي عن الرأي، الذي فتحت التقنية الإعلامية أبوابها عليه، وألا نخشى من عنف الصراع الذي يتخلّق في أحشائه أو في تمظهراته المختلفة. ذلك أن إفساح المجال لكافة الأفكار والآراء للتعبير عن حقيقة تطلعاتها، يمنحها حقها الطبيعي في التعبير السلمي عن الذات والوجود إبتداءً، ويطور أداءها لكي تصبح شريكاً سوياً في مساحة الحوار، مثلما ينزع عن بعضها ( بمختلف ألوانه) أساطير وأوهام وقداسة صحة احتكار الحقيقة والمواقف التي تتخلق في الأقبية أو في الصدور، وتضعها كمنظومات رؤى بشرية عريانة من أية عباءة ،كرأي قابل للمحاورة والقبول أو للنقض والإهمال، حيث لن يبقى من كل ذلك المعترك إلا ما يتجاوب مع حاجات المجتمع ، ومستلزمات تطور الحياة وصيرورة تقدمها.
وفي هذا الأفق نضع موقعنا ” منبر الحوار والإبداع” في خندق التنوير والتقدم والإصلاح، ونرى في فضاء التقنيات الإعلامية الحديثة رافعة لتعميق آفاق الحوار و احترام الاختلاف، وسنداً للتعبير السلمي الحر عن الرأي والفكر والإبداع، حيث ستتبلور عبر حراكه السويّ، قيم احترام الفرد لذاته ولحدود حريات الآخرين، في آنٍ معاً!
واليوم ، إذ نحتفي بمرور أربعة أعوام على تدشين ” منبر الحوار والإبداع” لموقعه الالكتروني ،إلى جوار العديد من المواقع الثقافية والتنويرية الجادة في بلادنا، حيث بدأنا نشر أولى المواد على صفحاته في 10/5/2006م، فإننا نود أن نؤكد استمرار حرصنا على المزاوجة الخلاقة بين حلم حرية التعبير وبين الضوابط العامة للثوابت التي حددناها ، رغم ما تعرضنا له من المواجهات الشرسة، والتي تمثلت في اختراق الموقع من قبل ” الهكرز” (هواة ً ومحاربين) ، وعبر آليات الحجب الرسمية والمتكررة للموقع، دون أن نعرف أسبابها على وجه الدقة ، حتى الآن!
ومع كل ذلك فما زلنا نحاول التغلب على حواجز الإعاقة ،من أجل أن يغرد الطائر الحر على السياج المطلّ على ما في العالم من متغيرات وإنجازات وتحديات، تستحق منا جميعاً إطلالة عقلانية ومعرفية على مكوناتها ، والمشاركة في التحاور معها وحولها ، من أجل غدٍ مشترك أجمل لمجتمعنا ، ولوطننا، وللبشرية جمعاء.
** ** **
وفي هذه المناسبة يحتفي ” منبر الحوار والإبداع” بمرور أربعة أعوام على بدء نشاطه، ويصدر العدد التجريبي الأول لمجلة ” غصون” الإلكترونية، كما يصدر مع “ديوانية الملتقى الثقافي ” ملفاً خاصاً يغطي فعالية الديوانية و “أصدقاء الإبداع” في ليلة احتفائهما بذكرى وذاكرة الراحل ” عبد العزيز مشري” في مناسبة مرور عشر سنوات على وفاته، رحمه الله.
ونأمل بأن تواصل مجلة ” غصون ” الالكترونية عملها على إبراز المواضيع والأنشطة الهامة التي يعنى بها الموقع، ومنها المواد الخاصة به فكراً وإبداعاً، والمقالات الممنوعة من النشر، والأخرى التي حذف قلم الرقيب الصحفي بعض أجزائها، وسوى ذلك من الموضوعات والبيانات الحقوقية، التي نرى أنها تسهم في تعميق مكونات ثقافة ” العدالة والحرية و الديمقراطية وحقوق الإنسان” التي اختارها الموقع عنواناً أساساً لانشغالاته.
وضمن هذا المسار ستحرص مجلة “غصون ” مستقبلا على نشر العديد من المواد الخاصة بها، من أجل إغناء مسيرة الموقع وتعميق تواصله مع أصدقائه وقرائه الحريصين على استمراريته داخل الوطن وخارجه.
الظهران 10/5/2010م
رابط مجلة غصـــــــــــــون