يمكن القول أن العالم لم يمر في كل تاريخه بمرحلة كهذه التي نعيشها اليوم، سواء لجهة ظهور المخترعات والإكتشافات الجديدة المفيدة للبشرية، أو لجهة تسارع عملية تطوير وتحديث الموجود منها كي تعمل بفاعلية أكبر أو بطاقة أقل أو بشغل حيز أصغر.
ومعنى هذا أنه لا يمر عام إلا ويصبح الغريب والمبهر مما في متناولنا حاليا من أجهزة وآليات ووسائل تكنولوجية، قديم ويجب إحلاله بالجديد الأكثر تطورا. وهذا بدوره يحدث تراكما هائلا في صورة جبال من الأجهزة العتيقة، أو ما أصطلح على تسميته بإسم “النفايات الإلكترونية” الخطيرة على صحة الإنسان وسلامته، والمسببة للعديد من الأمراض (مثل السرطان و أمراض الجهاز التنفسي) بسبب المواد والمركبات الكيميائية التي تحتويها، إن لم يسع المرء للتخلص منها بالطرق الصحيحة.
في الماضي كانت تلك النفايات محصورة في مصابيح الإضاءة المعطبة، أو البطاريات منتهية الصلاحية، أو زيوت السيارات وإطاراتها المستهلكة، أو العبوات الزجاجية والبلاستيكية الفارغة، أو أشرطة الأفلام التالفة. غير أننا نجد أنفسنا اليوم أمام تحد من نوع آخر هو كيفية التخلص من أطنان من أجهزة الكومبيوتر والتلفزة والتسجيل والهواتف النقالة ، والأقراص المدمجة والصحون اللاقطة للفضائيات، وذلك بسبب ما تطرحه وتسوقه مصانع الدول المتقدمة كل عام من أجهزة أكثر حداثة وتطويرا من سابقاتها، أو أسهل نقلا، أوأصغر حجما. وبطبيعة الحال، فإن هذا التحدي سوف يتضاعف في المستقبل القريب بفضل التطورات الجارية في علم “النانو تكنولوجي” أو علم التقنيات التكنولوجية متناهية الصغر.
بعض الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان وتايوان وألمانيا أوجدت حلولا لهذه المشكلة، فأصبحت “النفايات الإلكترونية” بالنسبة لها عبارة عن مواد خام يمكن إعادة تصنيعها وتدويرها وبالتالي مصدرا جديدا من مصادر الدخل. لكن الوضع مختلف تماما في مجتمعات الدول النامية، التي يكاد الوعي البيئي والصحي فيها أن يكون منعدما تقريبا إلى الحد الذي لم يسمع معها مواطنوها بعد بمصطلح “النفايات الإلكترونية” وأضرارها.
في هذا المقال سنركز تحديدا على التجربة التايوانية في التعاطي مع هذه المشكلة، وهي تجربة مستمدة إلى حد ما من التجربة اليابانية، وذلك من خلال الحديث عن شخصية رائدة في هذا المجال هي “وو ياو صن” صاحب مؤسسة “سوبر دراغون” أو التنين العظيم. هذه المؤسسة التي تعتبر اليوم من أضخم مؤسسات تدوير “النفايات الإلكترونية”، كونها إستطاعت في عام 2008 وحده من إستخراج ما يزيد عن 46 ألف كيلوغرام من المعادن من بطون الأجهزة الإلكترونية التي تخلى عنها اصحابها، فكونت من تلك الكمية وحدها ثروة زادت على أربع بلايين دولار تايواني أو ما يعادل 127 مليون دولار أمريكي.
لقد إكتشف الرجل وغيره من التايوانيين أنهم ليسوا إزاء جبل من النفايات، وإنما أمام “منجم من الذهب”، وهو المصطلح الذي بات يطلق على المواد التي يمكن إستخراجها من الأجهزة الإلكترونية العتيقة أو المعطوبة، ولا سيما الرقائق المعدنية والفضية ونترات الذهب، علاوة على مواد أخرى مثل البوتاسيوم والمنغنيز و البالاديوم والسيانيد وغيرها، مما يمكن بقليل من الجهد والتخطيط والمال إستخدامها في إنتاج أجهزة جديدة.
يقول “وو صن” الذي إنتقل من البؤس والفاقة إلى واحد من أغنى أغنياء تايوان خلال أقل من ثلاثة عقود، بفضل دخوله مجال تدوير “النفايات الإلكترونية” في مقابلة صحفية أجريت معه مؤخرا: “كنت معدما في صغري إلى الدرجة التي لم أجد معها ما يسد رمقي من الطعام، فإمتهنت وأنا لا أزال في مرحلة التعليم الإبتدائي مهنة جمع الزجاجات الفارغة من الحقول وبراميل القمامة”. و يضيف: “اضطررت من أجل تحسين دخلي ومستواي المعيشي أن أهاجر من مسقط رأسي في مدينة “تيكسي” إلى العاصمة “تايبيه”. وفي الأخيرة إشتغلت في مهن عديدة. فمن عامل في محل للمجوهرات، إلى سائق سيارة أجرة، فإلى مالك لإحدى المطاعم الصغيرة، فمستثمر في إحدى شركات صناعة البلاستيك”.
أما النقلة الكبرى في حياته فقد حدثت – حسبما قال – في عام 1987 حينما كان في سن الخامسة والثلاثين، حيث أسس شركة صناعية لتدوير النفايات بمدخراته ومدخرات زوجته. لكن تلك المدخرات لم تكن كافية وقتذاك لشراء آلات جديدة، الأمر الذي جعله مضطرا لإستخدام الآلات المستعملة في البداية.
لم يكن المال وحده هو العقبة في هذا المنعطف الهام من حياته، وإنما واجهته، كما يروي، عقبة توفير الأيدي العاملة وتوظيفها. “كان الجميع يخشى العمل في مثل هذه المصانع بسبب وجود وعي قوي لديهم حول خطورة النفايات الإلكترونية على صحة الفرد والمجتمع. علاوة على ذلك، كان الكثيرون ينظرون إلى العمل في مصانع تدوير النفايات كعمل حقير أو غير مشرف بل مشابه لعمل من ينبشون القبور”.
في ظل تلك التحديات إعتمد “وو صن” وزوجته على نفسيهما في إدارة مصنعمها وتشغيله. ورغم ما كابداه من عناء ومشقة، فإنهما لم يتوقفا قط، وظلا يعملان لعقد متواصل من الزمن، قبل أن يحققا بعض الأرباح ويبنيا في الوقت نفسه جسورا من العلاقات مع بعض المصانع المماثلة في اليابان.
يقول “ووصن”: “لم تكن في تايوان في التسعينات التقنيات المطلوبة لتحويل النفايات الإلكترونية إلى مواد أو سلع يمكن إعادة إستخدامها، لذا كنت أجمع تلك النفايات وأقوم بتصديرها لليابانيين الذين كانوا أقدر منا على تحويلها إلى أشياء نافعة وجني الأرباح الكبيرة من ورائها. لكني لم أفقد الأمل في الحلول مكان اليابانيين، فطلبت المساعدة التكنولوجية من “معهد أبحاث تكنولوجيات التصنيع” التابع للحكومة التايوانية، لكن الأخير – بسبب تبعيته للدولة، وبيروقراطيته الجامدة، وتركيزه على إعتبارات محددة مثل مدى ربحية المشروع – لم يقدم المساعدة المطلوبة بالشكل المرغوب، مما دفعني إلى إستيراد الآلات والخبرات من ألمانيا واليابان، علاوة على تأسيس معهد تابع لشركتي من أجل تطوير مهارات العمل وتقديم الإستشارات الضرورية”.
بعد ذلك وجه “ووصن” وفريقه أنظارهم نحو تأسيس فرع ضمن شركتهم مختص بالتعاطي مع النفايات غير الإلكترونية، وعلى الأخص العبوات الزجاجية الفارغة والمواد الصمغية. حيث وجدوا حلا لها يدر مداخيل لا بأس بها، وهو تحويلها إلى مسحوق ناعم قابل للإستعمال في صناعة طوب البناء. وهذا الأسلوب لئن كان مكلفا، فإنه الأمثل من الناحية البيئية.
واليوم بفضل تجربة “وو صن” الرائعة والمثيرة، إنتشرت مصانع تدوير النفايات الإلكترونية وغير الإلكترونية في جميع أرجاء تايوان حتى تجاوز عددها الرقم 1000 (نحو 95 بالمئة منها هي مصانع عائلية)، من بعد أن كان عددها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة في الثمانينات حينما بدأ الرجل مشروعه. ويعود الفضل في نمو مثل هذه المصانع إلى مبادرة الدولة بتأسيس ما يعرف بإسم “الصندوق الحكومي لدعم عمليات إعادة التدوير”.
من جهة أخرى، وطبقا لإحصائيات إدارة حماية البيئة في تايوان، فإن الأخيرة، باتت اليوم تعيد تدوير نصف إجمالي نفاياتها الإلكترونية، وبنسبة تفوق المتوسط العالمي بحوالي 15 – 30 بالمئة. هذا على الرغم من أن ظاهرة جمع النفايات الإلكترونية في هذا البلد الآسيوي، هي ظاهرة جديدة ولم يمض عليها سوى عقد من الزمن، بمعنى أن التايوانيين قبل ذلك التاريخ كانوا يشكون مثلا في إمكانية الإستفادة من حواسيبهم القديمة، أو حتى إمكانية تحويل بعض أجزائها إلى شيء نافع قابل للإستخدام مجددا.
أما الأمر الذي بات يقلق مضجع “وو صن” فليس منافسة المصانع الأخرى لمصنعه، وإنما عدم وجود منحى جدي لدى المستثمرين التايوانيين للإستثمار في تصنيع وتطوير الآلات اللازمة للقيام بعمليات التدوير وإعادة التصنيع. ولعل بسبب هذه المشكلة ينحو الكثيرون ممن دخلوا هذا المجال نحو جمع النفايات الإلكترونية وشرائها بقصد بيعها وتحقيق بعض الفوائد الضئيلة من ورائها ، دونما إستشعار بمخاطر تلك العملية والمتمثلة في قيام المشتري بإزالة ما يحتاجه من الجهاز الإلكتروني، ثم دفن الباقي في الأرض أو إحراقه في الهواء أو إغراقه في مياه البحار والإنهار. وهذه كلها، بطبيعة الحال، أعمال تندرج ضمن أعمال تخريب البيئة و الإعتداء عليها.
إلى ذلك إشتكى “وو صن” في مقابلته الصحفية من الحظر الذي تفرضه الحكومة التايوانية على شركات البلاد العاملة في مجال تدوير النفايات الإلكترونية لجهة إستيراد تلك النفايات من الخارج بقصد إعادة تصنيعها، حتى وإن كانت عبارة عن مخلفات لأجهزة إلكترونية صدرتها تايوان نفسها إلى الخارج، قائلا: “لا أفهم كيف أن الصين تسمح لشركاتها البتروكيميائية بإستيراد النفط الخام لتصفيته وتحويله إلى منتجات متنوعة، بينما يحظر علينا إستيراد ما صدرناه من أجهزة إلكترونية كي نستخلص منها المواد الخام التي وضعناها بها”.
ويضيف: “أن مثل هذه السياسات قد تجبر الكثيرين من أصحاب مصانع تدوير النفايات الإلكترونية في تايوان على نقل أعمالهم إلى البر الصيني، أو الإستثمار في أنشطة مماثلة هناك، خصوصا في ظل التطورات الإيجابية الأخيرة على صعيد الروابط الثنائية ما بين بكين وتايبيه في مجالات التبادل التجاري والإستثمار المشترك وحركة النقل والإتصالات.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
عند البعض نفايات، وعند البعض الآخر مناجم للذهب
يعرف الصديق عماد أن “الشفاف” لا يحبّذ نشر تعليقات تتضمن إهانات شخصية لآخرين!!
الشفاف
عند البعض نفايات، وعند البعض الآخر مناجم للذهب
– هذه آخر مشاركة وزيارة للموقع , يسعدني ان تكون بالتنويه والاشادة بأفضل ما قرأت هنا وهو تعليق (تلميذ ابتدائي) ادناه
– شكرا على اتاحة الفرصة , واتمنى السعادة للجميع
عند البعض نفايات، وعند البعض الآخر مناجم للذهب
تلميذ ابتدائي — jamie13124306@yahoo.com
اذا كان ثمن ٤٦,٠٠٠ كغ من المعادن ١٢٧ مليون دولار امريكي، فيكون ثمن الكيلوغرام الواحد ٢,٧٦٠ دولار فهل هذا معقول ياأستاذ