منذ بدايات الحرب في العام 1975، كان السكن في الضاحية قد بدأ بالاقتصار على الشيعة. غير أنه بقي مقتصراً على الشيعة ممن لا يملكون خيارات أخرى من معدمين أو ما شابه، ذلك أن معظم مناطق الضاحية كانت آنذاك قريبة من بؤر الحرب المستعرة، ومتاخمة لخطوط التماس. تبدلت هذه الحال غداة انتهاء الحرب أوائل التسعينيات، حيث شهدت المنطقة ازدهارا عمرانياً لافتاً أحال ما تبقى من أراض زراعية إلى مجمعات سكنية هائلة الضخامة والكثافة، وفد إليها مهجرون شيعة كانوا تقاضوا بدلات مالية مرتفعة لقاء إخلاء منازل كانو يشغلونها في بيروت، خاصة في منطقة وادي ابي جميل، إضافة إلى مغتربين في أفريقيا والخليج العربي؛ فلم يعد السكن مقتصرا على فقراء الشيعة بل تعداهم ليشمل عموم الشيعة الذين يقطن اثرياؤهم في المباني الفخمة التي شيدت حديثاً في احياء حارة حريك المحاذية لطريق المطار ومنطقة الحي الابيض. وأضحت الضاحية في معنى ما بيروت الشيعة. فحين يقول جنوبي أو بقاعي شيعي إنه ذاهب إلى بيروت أو إنه يقطن في بيروت، فبيروت هذه على الارجح لا تعني أكثر من الضاحية.
وقد بات للضاحية مركز واطراف واسواق فخمة في حارة حريك، العاصمة السياسية للضاحية، حيث مراكز حزب الله ومؤسساته وأماكن سكن قادته ومجلس شوراه، وحيث الجامع الكبير (جامع الحسنيين) الذي أقيمت فيه أول صلاة جمعة في تاريخ شيعة لبنان. وهذا اضافة الى اسواق شعبية في الأطراف كبرج البراجنة وحي السلم.
وفي فترة السلم جرى تثبيت التحول الديمغرافي الذي حدث خلال الحرب, عبر الحركة الناشطة لبيع العقارات والأراضي التي ما فتئت تنتقل من ملاك مختلفين الى مالك شيعي بالضرورة.
حولوا الضاحية وتحولوا فيها
غير ان الذين نزلوا في الضاحية منذ العام 1975 لم ينزلوا فيها بوصفهم شيعة بل حلوا فيها تبعا لانتماءاتهم الحزبية الموزعة على احزاب شتى، من الشيوعية الى الناصرية الى الفلسطينية خالصة. فكان كل حزب يضطلع بتأمين بيوت لأنصاره في الناحية التي يسيطر عليها. هكذا غلب الشيوعيين على النازلين في صفير، في حين نزل أنصار “امل” و”حزب الدعوة ” النواة الاولى لـ “حزب الله” ناحية بئر العبد وحي ماضي، حيث استوطنوا المسجد ومحيطه، ونزل البقاعيون في النواحي التي جرى عليها البناء بوضع اليد برعاية مباشرة من المليشيات الفلسطينية التي كانت التنظيمات اليسارية آنذاك تدين لها بالمرجعية الحاسمة والناهية.
فالنازلون في الضاحية وقتها لم يكونوا منذ اليوم الأول لنزولهم فيها على ما هم عليه اليوم، تجمعهم عصبية شيعية خالصة لاتقبل التركيب اوالتجزئة، بل حولوا المنطقة وتحولوا فيها على إيقاع الأحداث التي توالت عليهم.
وكانت بوادر هذا التحول قد بدأت بالظهور على اثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، في وقت اشتدت فيه موجات التهديد الجدي أحيانا بالافناء إبان ابتداء الدولة اللبنانية آنذاك بإعادة بسط سلطتها. فكان ان بدأت بإزالة المخالفات في الاسواق الشعبية التي كانت أنشئت في سنوات الحرب الاولى، وكانت تعود في قسمها الاكبر الى مهجرين شيعة فقدوا اعمالهم وموارد رزقهم بفعل الحرب والتهجير. وفي الأثناء أيضاً باشرت الدولة بهدم البيوت في المواضع التي كان جرى البناء عليها خلافا للقانون. تبع ذلك خطوة إخلاء المهجرين عنوة من دون معالجة لمشاكل النزوح القسري. هذه الاجراءات كلها رافقها مواجهات بين الاهل والدولة ذهب في بعضها قتلى وجرحى في صفوف الاهالي. الأمر الذي أسهم في تعميق نظرية الاستهداف المباشر للأهالي بصفتهم الطائفية، وعمق إحساسهم بجسد الجماعة الطائفي. ذلك أن معظم الأمور التي طاولتها إجراءات الدولة آنذاك كانت تعود إلى مهجرين شيعة شاءت تفاصيل الحرب ومجرياتها ان تصيبهم بالقدر الكبير من أضرارها.
رحلة التيه الشيعي
فقد كان لتشتت السكن الشيعي وتوزعه على مناطق متفرقة في ضواحي المدينة قبل الحرب، وتطابق المناطق هذه ومواضع الحروب المتنقلة اثره الكبير عليهم. ففي الوقت الذي اقتصرت فيه اعمال التهجير التي مارستها الجماعات المتحاربة في لبنان، الواحدة ضد الاخرى على ما يشبه عمليات تبادل سكاني من ضفة الى اخرى، كان تهجير السكان الشيعة يجري على اكثر من جهة ووجهة، وفي تواريخ متقاربة. ما جعل الامر يبدو لهم اشبه بمطاردة متعمدة. فالقليل القليل ممن استقروا في الضاحية لم يسلكوا خط تهجير كانوا قد سلكوه مجتمعين، تمثل في توجههم بادىء الامر على اثر نزوحهم عن احياء الضواحي الشمالية والجنوبية لبيروت وجهة قراهم في الجنوب والبقاع، ثم ما لبث الجنوبيين منهم ان اضطروا الى اخلاء قراهم إبان انتقال المواجهات الحربية عام 1976 إلى قرى الجنوب الحدودية ليعود ويلحق بهم من بقي فيها على اثر الاجتياح الاسرائيلي في العام 1978 ويستقروا في الضاحية التي اضطروا الى مغادرتها اثناء الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 باتجاه قراهم التي عادوا وغادروها الى الضاحية، بعد جلاء الاسرائيلين عن العاصمة بيروت، مع اعداد كبيرة من مهجرين لم يسبق لهم قط ترك قراهم. مسيرة التيه والتهجير هذه أظهرت الحرب بالنسبة لهم كما لو انها ليس لها غاية سوى مطاردتهم حيث هم والحاق الآذى بهم.
يبقى أن هذه التواريخ 75_76 و78 و82 ليست سوى المحطات الرئيسية في الهجرات القسرية، من غير أن يعني هذا أن موجات التهجير والنزول في الضاحية توقفت يوماً، من نيسان 75 حتى نيسان 96، تاريخ حملة عناقيد الغضب الاسرائيلية، مروراً بتهجير انتقائي مارسته سلطات الاحتلال الإسرائيلي على بعض اهالي القرى الجنوبية وآخر أختياري أقتصر على الشبان هرباً من التجنيد الاجباري في صفوف جيش لبنان الجنوبي المتعاون مع الاحتلال.
صعود الأصولية الشيعية
تزامنت الصدامات التي وقعت بين مهجري الضاحية الشيعة من جهة والدولة من جهة اخرى، مع افول الحقبة الفلسطينية وتبعاتها، إثر مغادرة منظمة التحرير بيروت بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، ما أدى الى شح في الموارد المالية لدى التنظيمات العروبية واليسارية التي كانت من تبعات الحقبة تلك، فلم يعد لهذه التنظيمات المقدرة على التصدي للحاجات المتولدة عن الحطام الاجتماعي الذي خلفه الاجتياح الاسرائيلي، وزادته اجراءات الدولة حدة ، في وقت بدأ صعود نجم الاصولية الشيعية في تنظيماتها الفتية . وكانت هذه التنظيمات عبارة عن مجموعات من “المؤمنين” لم يكونوا قد أعلنوا بعد عن اطارهم السياسي الجامع، والذي سيعرف في ما بعد بـ”حزب الله”. فكان أن تصدرت المجموعات الفتية هذه مقاومة الدولة واجهزتها في ظل اجواء نقمة عامة، استُدرجت الدولة فيها الى صنوف من القتال-(قصف عشوائي للضاحية من جميع الجهات,واستهداف دور العبادة اتي اتخذ منها المقاتلون الاسلاميون حصونا لهم)- بدا معها الامر بالنسبة للمهجرين الشيعة كما لو انهم في صدد ابادة جماعية تنفذها الدولة ضدهم. وقد كان لحداثة عهد هذه المجموعات وضعف صلاتها المحلية، الى تمتعها بموارد مالية متعاظمة من ايران، أن وسع لها خوض حرب “دفاع” عن المنطقة لا تقف عند حدود هدنة أو مساومة لطالما كان الأهالي يعيبون على الاحزاب السالفة اجراءها. وتوجت المجموعات هذه حروب تحريرها ضد الدولة بانتفاضة 6 شباط 1984، التاريخ الذي يعدّ بمثابة يوم استقلال الضاحية عن سلطة الدولة التي لم تعد اليها على نحو فعلي حتى هذا التاريخ.
في موازاة تلك الاحداث التي خلفت شعورا حادا بالهوية الطائفية لدى الشيعة، بدأت عودة موجات الأبناء الضاليين في صفوف الشيعة إلى اهلهم، فراحوا يتركون احزابهم اليسارية والعروبية التي كان يشكلون في بعضها غلبة عددية واضحة.وحمل هؤلاء معهم من تجربتهم الحزبية روايات استفاقت تحت وطأة الأحداث على هوية قادتهم المذهبية ووقوفهم من الأحداث التي تعرض لها اهلهم وقوف المتفرج أو العاجز. وحمل العائدون معهم شعورا ً بالذنب والخطيئة إزاء اهلهم، ما لبثوا ان كفروا عنه من طريق شراسة أبدوها في القتال مع احزابهم الطائفية ضد احزابهم السابقة. وفي الفترة عينها شاع ارتداء الحجاب بين النساء بشكل مضطرد، وكف عن كونه زياً ملازماً لكون المرأة امرأة، كما هي الحال في القرى حتى الآن، بل أضحت له طرق في الوضع، وأضحت الطرق هذه علامات يتم التعرف من خلالها على ولاء المحجبة السياسي والحزبي إذ ان طريقة وضع محجبات “امل” لحجابهن تختلف عن المحجبات اللواتي من “حزب الله”. وفي الفترة عينها أيضاً بدأت بيوت الضاحية تعج بالمفتين الصغار الذين كانوا يعودون يومياً إلى أهلهم محملين بفتاوى طازجة كانوا قد تلقوها في دروس الدين التي نشطت حركتها آنذاك . وراح المفتون الصغار يتلونها على مسامع الأهل فتكتشف الأم على سبيل المثال أن طريقة وضوئها التي عهدتها منذ سنوات عدة تعد باطلة، وأن الشيعة لا يتوضؤون هكذا كما يفعل السنة من أسفل الى أعلى، بل بالعكس، وأن سجدة الصلاة التي لا يعيرها الوالد أهمية إن لم تكن مزودة قرصاً ترابياً خاصاً فإن مصير صلاته البطلان، وأن الحال نفسها يتهدد صلاته إن لم ينزع من بنطاله حزامه الجلدي اثناءها. والانقلاب هذا أكثر ما خبره باعة الأحذية، فلئن شاع في الناس ان الجلد الطبيعي نجس، صار عليهم ان يبذلوا جهداً في اقناع زبائنهم “المؤمنين” بأن الحذاء الذي اختاروه ليس من الجلد الطبيعي بعد ان اعتادوا لسنوات خلت الزعم، كذبا احياناً، بان كل الاحذية التي لديهم هي من الجلد الطبيعي. وإذ ما أفلحوا بإقناع الزبون”المؤمن” بجواز انتعاله حذاءً من الجلد الطبيعي كان الأخير يطلب اليهم ان يقسموا بإن الحيوان صاحب جلد الحذاء قد ذبح وفقاً للطريقة الشرعية.
وفي الفترة عينها ايضا راجت اسماء لم تكن معهودة بكثرة في السابق، فراح الأهل الملتزمون حديثاً يسمون اولادهم بأسماء من قبيل آية واسراء وحوراء وجواد ومهدي- أسماء بدت غريبة وقتها- بناء على نصائح من المشايخ الذين زادت حظوتهم انذاك كما شاع اتخاذ التجار اسماء الأئمة اسماء لمحالهم.وطرأ تحول على محال التصوير الفوتغرافي فاستبدلت صور الراقصات والمشاهير التي كانت تحفل بها واجهتها، وتدلل في آن على اهمية المصوّر، بصور للسيد محمد حسين فضل الله، والخميني ونائبه في حينها منتظري وخامنئي، فضلاً عن قادة ايرانيين اخرين، وصور أبرز الشهداء أمثال بلال فحص وأحمد قصير، وتحولت محال الفليبرز في المنطقة الى مصليات ومراكز حزبية، فعدمت امكنة للقاء خارج المساجد ومحيطها، وأقفلت سينما سندريلا الواقعة في بئر العبد ولم تفتح بعد ذلك سوى لمدة أسبوع بمناسبة مهرجان أفلام إيرانية تمحورت مواضيعها حول الحرب العراقية الايرانية، وارتفعت قبالة السينما لافتة كبيرة كتب عليها قول للخميني في الفنون ووظائفها، يعكس نظرة اليها تدنو من تلك التي اشاعها عنها ارباب الواقعية الاشتراكية.
كل هذه الأجواء شاعت وسط مجتمع خائر القوى ناقم على كل ما يتصل بالماضي، غير آسف على تحطيمه، وينظر الى كل ما حوله بريبة وحذر، ولدت الاحداث التي وقعت عليه، على شدتها واستغلاقها على فهمه، استعداداً تاماً لديه لتقبل كل ما يسبغ عليه الدين شرعية.
وبالتزامن مع الصحوة الدينية هذه جرى الانقضاض على الشيوعين وإخراجهم من الضاحية، فآذن خروج هؤلاء بتحقق غلبة شيعية تامة. كان من نتائجها إخراج بعض المسيحين الذين كانت شيوعيتهم قد أبقتهم في المنطقة، وخرج في ركاب هؤلاء عدد من الشيعة ممن لم تفعل الصحوة الدينية فعلها فيهم. هكذا انحسر الوجود الشيعي على شكله الطائفي الصريح، ولم تبقى سيطرة سياسية وعسكرية على المنطقة سوى لـ”حركة امل”و”حزب الله” والأخير قصر سيطرته في المنطقة على المساجد واماكن العبادة من مصليات عدة كان استحدثها في اوساط احياء التهجير. وفي الاثناء تحقق الاستقلال عن الدولة والنأي من سلطتها على نحو فعلي وملموس، اتخذ في بعضها منحى صدامياً فحرم على كل من يمت بصلة الى الدولة واجهزتها، خصوصا العسكرية منها، الدخول الى الضاحية في زيه العسكري وإلا تعرض للاهانة والتحرش. وانتشرت على نحو مضطرد أعمال التعدي على الاملاك العامة والخاصة وازدهرت حركة العمران على أراضي الدولة، خصوصاً في الاماكن التي أنطلقت منها أولى المجابهات مع الدولة في الرمل العالي والاوزاعي , وسط رعاية وتشجيع حزبييين لهذه الاعمال التي اتخذت طابع الاعلان عن التحلل من سلطة الدولة .