تمر الذكرى الخمسون على رحيل ألبير كامو، ومايزال يلهم كتابا من مختلف الأجيال. ربما يشير لهذا حجم ما نشر بهذه المناسبة في الصحف من قبل كتاب من كل الجنسيات العربية ومن مختلف الأعمار. بعض المقالات التي نشرت بخصوص المناسبة ركز على علاقة كامو بالجزائر وموقفه من استقلالها ومقارنته بمواقفه المناهضة للنازية وللأنظمة الشمولية. إلا أن موقفه الرافض لعقوبة الإعدام يبدو أقل حضورا أو استحضارا رغم أنه يكمل صورته وينسجم مع مواقفه الأخلاقية وتطلعاته الإنسانية. من المهم اليوم العودة إلى موقف كامو من عقوبة الإعدام، والتي كان قد ناقش ضرورة إلغائها في دراسة مفصلة (ترجمها للعربية جورج طرابيشي وصدرت عن دار المدى بعنوان “المقصلة، أعراس”)، كما من المهم أيضا إعادة التذكير بمبررات إلغاء العقوبة، وفضح هشاشة المهللين لها، خاصة وأن الدول العربية تحتل موقعا مرموقا في قائمة الدول التي ماتزال تطبق عقوبة الإعدام.
لنتذكر أن المسيح ربما يكون أشهر المحكوم عليهم بالإعدام، ولنتذكر أن مايثيره الإعدام في النفس البشرية لا علاقة له بضحايا الجريمة، بل بالذي ينفذ بهم حكم الإعدام، وهو ما أشار له كامو في دراسته. لهذا فحكم الإعدام إهانة للضحايا، لأن الذي يحدث يحدث حقيقة باسمهم، هم المنسيون تماما لصالح المشهد الهمجي لحبل المشنقة.
أبشع ما يتميز به المهللون لعقوبة الموت هو هذا العماء الذي لا يستدعي دقيقة شك واحدة بفعل يودي إلى طريق لارجعة فيه. إنهم واثقون ثقة الجهلة، الذين لايخشون الندم، ولايحسبون حسابا على الأقل لتغير المعايير. اليوم أقتل رفيقي في الحزب الثوري بتهمة الخيانة وإحباط عزيمة الثورة وبحجة حماية الرفاق، وغدا أنسحب من موضة الكفاح المسلح، مديرا ظهري للذين أعدموا بسبب جرائم كان لامجال للشك في فظاعتها البارحة، وأصبحت اليوم كليشيهات غير صالحة للزمن الحاضر. عقوبة الإعدام تطبق إذا على جرائم يتغير موقف القانون منها بتغير الزمن. فالقوانين اليوم تأخذ بعين الاعتبار حالة المتهم العصبية والنفسية. فما كان يعاقب عليه بالأمس على أنه جريمة تستحق القتل، صار ينظر له اليوم نظرة مختلفة، لكن الحقيقة الصادمة تبقى، وهي أن هناك مرضى لا ذنب لهم تم قتلتهم سابقا باسم قوانين ظالمة وقاصرة.
عقوبة الإعدام ماتزال تستخدم من قبل الحكومات والسلطات كأوراق ضغط وتهديد ومزاودة. ففي العام الفائت تم تنفيذ عقوبة الإعدام بشخصين في الصين لدورهما في فضيحة الحليب المجفف الذي أودى بحياة ستة أطفال. على الأرجح أن يكون قرار الإعدام هدية للميديا التي أثارت الفضيحة وأوصلتها إلى مستوى عالمي. الوسيلة الوحيدة لإسكات جشع وسائل الإعلام كان إطعامها جثتي شخصين متورطين بالجريمة، هذا ما ارتأت له السلطات الصينية. صدور العقوبة كان أيضا هدية للاقتصاد الصيني ومحاولة لحماية سمعة الصادرات الصينية خارج حدود الجمهورية العظيمة. ثم والأهم من ذلك أن صدور هذا الحكم كان الوسيلة الوحيدة لإنقاذ ماء وجه الحكومة التي اتهمت بالتقاعس والتساهل فيما يخص أمان الناس والمستهلكين.
الجدير بالذكر أن آلاف المواطنين كان قد تم تنفيذ حكم الإعدام بهم في عهد ألمانيا النازية لتهم سياسية، فعقوبة الإعدام سلاح تستخدمه الأنظمة الدكتاتورية في وجه معارضيها، ولهذا فقد حشرت فقرات تخص إعدام المنتمين إلى أحزاب محظورة في نصوص قوانين الدول التي ماتزال تنفذ العقوبة لإضفاء صفة الشرعية على عمليات التصفية بحق الناشطين المعارضين. هذه الأنظمة وحلفاؤها هم الذين يروجون لفكرة “الأثر الرادع لعقوبة الإعدام” معاندين بذلك نتائج دراسات إحصائية كانت قد أثبتت بالأرقام خلو هذا الادعاء من أي أثر للصحة. وهؤلاء الذين لا يريدون الاعتراف بالدراسات والأرقام والإحصاء، يشبهون الذين يتداوون ببول البعير ضاربين بعرض الحائط نتائج كل الأبحاث العلمية والدراسات الصيدلانية. الأرقام القادمة من كندا تؤكد أن عدد جرائم القتل بعد إلغاء عقوبة الإعدام كان أقل من عددها قبل الإلغاء بـ 23%. وتطبيق عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة لم يحل دون أن يكون معدل جرائم القتل فيها أعلى بخمس مرات منه في ألمانيا، وهي بلد تم فيه إلغاء عقوبة الإعدام. في الولايات المتحدة أيضا تشير الإحصاءات إلى أن معدل جرائم القتل في الولايات التي تم فيها إلغاء عقوبة الإعدام أقل بكثير منه في الولايات التي ماتزال عقوبة الإعدام مطبقة. ففي عام 2007 كان معدل جرائم القتل في الولايات التي لم تعد تطبق عقوبة الإعدام 4.1 لكل 100,000 من السكان وهو أقل بـ 42% من المعدل الذي تم تسجيله في الولايات التي ما تزال تطبق فيها عقوبة الإعدام وهو 5.83 لكل 100,000 من السكان.
البيانات إذا تنفي أي دور رادع لعقوبة الإعدام فيما يخص جرائم القتل. إلا أنه بالمقابل، فعقوبة الإعدام مايزال لها أثر طيب في ردع الأصوات المعارضة وترهيبها، وهذا مايحدث الآن في إيران، حيث صدرت وتصدر أحكام إعدام بحق معارضين لنظام الرئيس أحمدي نجاد. ويبدو أن هذا يشكل دافعا مهما جدا للدول التي تؤيد هذه العقوبة بل لعله الشيء الأبرز الذي يمنح هذه العقوبة جاذبيتها في أعين الجلادين. وبهذا يكون المهللون لعقوبة الإعدام من عامة الشعب هم نفسهم مطبلو الأنظمة الشمولية وحماة جرائمها، الذين يقبّلون يد الحجاج ويذودون عنه. وهم نفسهم الذين يقدمون أبناءهم هدية للمقصلة، فدية لآلهة الاستبداد.
أما أكثر ما يثير التساؤل فيما يخص مواقف المؤيدين لعقوبة القتل، فهي عملية غسل يدهم بالكامل من دم المحكوم عليهم. ثقتهم العمياء بنزاهتم، التعامي عن دور رئيسي لهم في كل مايحدث من جرائم. أين يكون هؤلاء حين تتعرض خادمة للإهانة والظلم، وكيف لا يحضرون إلا للتصفيق لإعدامها عقابا لجريمة قتل ارتكبتها بحق مخدومتها. أين يكون هؤلاء حين يربى جيل كامل في البرد والصقيع وفي مجتمعات أمية وحين لا تتاح لهم ابتسامة واحدة في وجههم. لماذا يغيب المهللون ويديرون رؤوسهم لطفل يضرب ويداس، في حين يذهبون لقول “الله أكبر” حين تنفذ عقوبة الإعدام. كيف يصبحون فجأة بهذه الفاعلية والإيجابية المجتمعية. هل يحتاجون لتعليق مشنقة أحدهم ليتأكدوا من وجودهم؟ هل يحتاجون لحكاية قتل كي يملؤوا سهراتهم بقصص “آكشن” ويكسروا رتابة أيامهم؟ أم أنها حركة قطيعية، لقطيع بامتداد زمني عدا عن امتداده الجغرافي. بمعنى أنه مستمر منذ قلع حمورابي أول عين وكسر أول سن!
من يضمن تطبيق العدالة إذا سلمنا بجدوى العقوبة. الموضوع متعلق بحياة إنسان، ومثلما تحتاج إلى طبيب مؤهل تترك حياة طفلك بين يديه، فأنت عليك أن تضمن وجود قضاء عادل لتسلمه أبناءك. هل تضمن لولدك قاضيا عادلا ومحاكمة نظيفة؟ هل تضمن نزاهة الشهود؟ أنت الذي لا تضمن حصول عدالة بخصوص مخالفة سير كيف تتجرأ على تفويض القضاة على اتخاذ قرارات تتعلق بحياة إنسان. هل تتجرأ على تحمل مسؤوليته؟؟ الجواب نعم. المهللون للإعدام يبدو أنهم سيجدون المبررات حين يحصل الخطأ. لديهم دائما مسحوق سحري لتنظيف ضمائرهم.
القانون الذي لا يتردد في إنهاء حياة المخطئين هو نفس القانون الذي يتعامى عن جرائم الشرف ويرخص بحياة النساء والرجال. وهو نفس القانون الذي ترعرع الفساد في حضنه وأفرز أحداثا مؤسفة أودت بحياة بشر في حوادث عبثية تسبب بها أفراد وقف القانون دائما إلى جانبهم.
ليس فقط من أجل الذين تقتلهم الدول باسم القانون وليس فقط لأجل قيمتهم الإنسانية. إنه أيضا من أجل تأسيس نظرة مدنية لحياة الإنسان في هذه المنطقة. من أجل إعادة الاعتبار لـ”الفرد” وإعلائه على كل القيم وفي مقدمتها القيم الإيديولوجية. حتى في الدول التي بقيت فيها عقوبة الإعدام مجرد مادة في القانون ولم يعد يعمل بها، هناك حاجة لحذف هذه المادة من النصوص لإعادة الاعتبار لقيمة الحياة، وخطوة ذات أهمية معنوية كبيرة ستمهد الطريق أخيرا لإثارة نقاش بصوت عال فيما يخص حق الحياة و”التضامن ضد الموت” على حد تعبير ألبير كامو، عسى يكون لهذه الخطوة أثرا إيجابيا في مبادرة إنسانية سلمية تسهم في تخفيف جرعة العنف في المنطقة، وربما تحرض في القنابل البشرية أسئلة عن حق ضحاياها أيضا بالحياة.
lindaassouri@hotmail.com
كاتبة من سوريا
تأملات في عقوبة الإعدام والمهللين لها بمناسبة خمسينية الكاتب الفرنسي ألبير كاموالفرق بين (الصلب) و(الاعدام) من الناحية القانونية (فلسفة , تاريخ , تشريع) هو كالفرق بين الثرى والثريا , فالقانون (الروماني) الذي عوقب بموجبه المسيح (عليه السلام) كان يميز بين مواطني روما(عقوبة الاعدام : القتل بدون تعذيب) والغرباء (الصلب : التعذيب المؤدي للقتل) .. ومقال (Albert Camus) المشار اليه (Reflections on the Guillotine : تأملات حول المقصلة) ما هو الا (تأملات) حول تطور (تنفيذ) قانون (عقوبة الاعدام) في التشريع الفرنسي (الاوروبي) كما انتهى اليه في عصره , فالقتل بالمقصلة اقرب الى (الصلب) منه الى (الاعدام) .. فطريقة تنفيذ العقوبة جزء… قراءة المزيد ..