يحيي أتباع المذهب الشيعي الاثنى عشري ذكرى الإمام الحسين سبط النبي من ابنته الوحيدة فاطمة الزهراء، زوجة الخليفة الرابعة علي بن أبي طالب مع بداية كل عام هجري جديد، وتحديدا في العشرة الأوائل من شهر محرم، وقد ذاب الشيعة على إحياء ذكرى سبط النبي منذ مئات السنين، وتحفل مراجع التاريخ كالبداية والنهاية والكامل في التاريخ بالكثير من الحوادث والوقائع التي دونت سيرتهم في إحياء ذكرى الحسين وما تعرضوا له من محن في سبيلها.
ينتمي الحسين إلى بني هاشم وهم سلالة قصي بن كلاب الذي هيمن على مكة والبيت العتيق، وكانت له الحجابة، أي أن مفاتيح البيت كانت عنده، والسقاية، أي أن تكون له سقاية زمزم، وعندما مات قصي برز من أبنائه عبد مناف، الذي ولد له عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل، فولى السقاية والحجابة هاشم دون أخويه عبد شمس والمطلب، وتروي الأخبار أن عبد شمس وهاشم كانا توأمين ملتصقين ففصل بينهما بسلاح، فقال العرافون إنه سيكون بينهما دم إلى الأبد، وقامت منافسة ما بين هاشم وعبد شمس، رجحت فيها كفة هاشم من كافة الوجوه بحيث خصوا هاشم بالسقاية والحجابة دون عبد شمس.
وبعد موت هاشم ورثه ابنه عبد المطلب، وورث عبد شمس ابنه أمية، وكانت بينهما منافسة حادة أسفرت عن عداء شخصي وعائلي بين ابني العمومة، بيد أن عبد المطلب كان يمثل الحكمة والموضوعية، بينما كان يعرف عن أمية النرجسية والأنانية والذاتية.
عرف عن عبد المطلب حبه للخير والسلام وتحليه بصفات المؤمنين الأتقياء الموحدين، ومن نسله جاء عبد الله والد النبي الكريم، وتقول مراجع التاريخ أن العداوة بين هاشم وأمية كانت دائمة ومستمرة، وقد حاول أمية أن يفعل مثلما كان يفعل هاشم من كرم وشهامة وتقديمه للخبز واللحم والسمن والسويق والتمر للفقراء والمعوزين بسخاء وطيبة نفس، إلا إن أمية عجز عن مماثلة هاشم في ضيافته فقد كان يتكلَفها بينما كانت تنبع من أعماق ذات هاشم كينبوع الماء الصافي العذب، وقامت في يوم ما منافرة بينهما، تتمحور حول أيهما أفضل؟ يكون على الخاسر فيها أن يدفع خمسين ناقة سود الحدق لتنحر، وأن يجلو عن مكة عشر سنين , وكان الحكم بينهما في هذه المنافرة هو احد الكهنة، فحكم لهاشم على أمية، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها وخرج أمية إلى الشام.
يتساءل المفكر الإسلامي المعروف جمال البنا ” هل كان خروج أمية إلى الشام حدثا عارضاً؟ أو كان إيماء لما سيحدث لحفيده “معاوية” فيما بعد؟.
أقام أمية بالشام التي كانت تحت الحكم البيزنطي عشر سنوات، مارس أثنائها التجارة وجمع مالا وفيرا، ولما انقضت المدة المحددة اقفل راجعا إلى مكة.
*****
عندما أعلن محمد نبوته اشتدت عداوة أمية لبني هاشم، فقد حظي بنو هاشم بالنبوة علاوة على المنزلة الرفيعة بين قريش وسائر القبائل العربية، فظهر منهم أبو أحيحة سعيد بن العاص، الذي مات مشركا في السنة الأولى للهجرة، وعقبة بن أبي معيط الذي قتل في بدر، ومنهم الحكم بن أبي العاص بن أمية الذي أسلم تقية وكان له دور مهم في الأزمة التي مهدت لقتل الخليفة الثالث عثمان، وقد طرده الرسول من المدينة فأطلق عليه لقب “طريد رسول الله”، ومنهم عتبة بن ربيعه بن عبد شمس الذي قتل ببدر، وهو أبو هند التي تزوجت أبا سفيان بن حرب،والتي مثلت بجسد حمزة في أحد بعد أن قتل أباها في بدر، وقد أمر الرسول بقتلها ولكنها أسلمت وبايعت الرسول متنكرة، ومنهم الوليد بن عتبة بن ربيعه الذي قتل في بدر، قتله علي بن أبي طالب وهو خال معاوية، ومنهم شيبة بن ربيعة بن عبد شمس عم هند وقتل ببدر، ومنهم أم جميل بنت حرب بن أمية التي أطلق عليها القرآن الكريم “حمالة الحطب” التي كانت تنشد الشعر في ذم الرسول، ومنهم معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية وهو الذي جدع أنف حمزة ثم لاذ بعثمان ليحميه من رسول الله فوهبه لعثمان على أن يغادر المدينة بعد ثلاث ليالي ولكنه لم يخرج منها إلا رابع يوم فأدركه أسامة بن حارثه وعمار بن ياسر فقتلاه، ومنهم أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية قائد الأحزاب بأحد، وكاد أن يقتل إلا إن العباس عم النبي حماه وأجاره، وعندما شاهد أبو سفيان جيش النبي وهو يسير إلى مكة قال للعباس لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً فقال له العباس: إنها النبوة..ولكن أبا سفيان كان ينظر إلى الملك والرئاسة، وعندما عرض عليه الإسلام شهد بان لا اله إلا الله، فأجابوه بان يتم الشهادة فقال: أما هذه ففي النفس منها شيء.. فقيل له آمن ويلك قبل أن تقتل.. فآمن..
لقد كانت قريش بمثابة القبيلة الحاكمة، وقد خاضت افخادها صراعا على السلطة بعد وفاة النبي، فقد خلف محمد دولة ودينا، فقال بنو هاشم وهم الفرع الذي ينتمي إليه محمد أن الخلافة لعلي وأبناءه من نسل فاطمة الحسن والحسين، وأبنائهما من بعدهما، وقال الصحابة واغلبهم من قريش وعلى رأسهم أبو بكر وعمر أنها بالشورى، فتنازعوا وبعد صراعا قصير على الرئاسة آلت الخلافة إلى أبو بكر والد زوجة النبي السيدة عائشة، وهي إحدى تسع نساء تزوجهن النبي الكريم في حياته، وكانت أصغرهن سنا، وعلى رأي معظم المؤرخين فقد كانت البكر الوحيدة التي تزوجها ولم تبلغ التاسعة من عمرها بعد، ودخل بها بعد بلوغها، إلا إن بعض المؤرخين من الشيعة والسنة يقولون بأنها لم تكن بكرا وقد كانت مطلقة احد شبان قريش فتزوجها النبي بعد طلاقها.
تقلد معاوية بن أبي سفيان حكم الشام وجاهر بالعداء لعلي وال هاشم، وعندما تقلد الإمام علي مقاليد الخلافة أعلن معاوية استقلاله بالشام وعدم خضوعها لسلطة الخلافة وطالب بدم عثمان، كما خرجت على علي السيدة عائشة وبعض أصحابه وقادة جيشه الذين عرفوا فيما بعد بالخوارج.
لقد كان عليا راديكاليا، لم يقبل بتتابع المراحل والتغيير التدريجي في سياسات الحكم، فكان أن خرج عليه طلحة والزبير وعائشة، بعد أن ساوى بينهم وبين عامة المسلمين في العطاء، ولم يقبل بحكمه الخوارج فخرجوا عليه وكفروه، لقد ألغى عليا بأثر رجعي كافة الامتيازات المالية للقرشيين وكبار الصحابة، مما أوغل قلوبهم ضده وأثارهم عليه، حتى أخيه عقيل بن أبي طالب تركه والتحق بجبهة معاوية، ولم يقم علي بتحفيز جيشه الذي يتكون اغلبه من أهل الكوفة، حاضرة العراق الذي انتقل إليها نتيجة لضعف نفوذه في الحجاز وكره قريش لتوليه الخلافة، مما جعل جيش الكوفة متقاعسا عن تنفيذ أوامره وخوض حروبه، وتحفل خطب الإمام علي في نهج البلاغة بالذم اللاذع لأهل الكوفة وجيش خلافته الذي يتكون اغلبه منها.
بعد استشهاد علي على يد الخوارج تولى بكره الحسن مقاليد الخلافة إلا انه كان ضعيفا أمام معاوية بدهائه ومكره وخبرته الواسعة في شئون الحكم، مما أدى إلى استيلاء الأخير على مقاليد الخلافة، فخرج الحكم من بني هاشم إلى أبناء عمومتهم بني أمية، ووفقا للاتفاق الذي تم بين معاوية والحسن فان السلطة للحسن ومن بعده الحسين بعد وفاة معاوية إلا إن الأخير أعلن أن الحكم لبني أمية إلى الأبد.
انتقل بنو هاشم إلى المدينة المنورة، وهناك عاشوا أكثر من عشر سنوات، جرى خلالها استشهاد الإمام الحسن بسم دسته له زوجته جعده بإيعاز من معاوية، لتمهيد الطريق لتولي ابنه يزيد مقاليد الخلافة، وبعد رحيل الحسن تولى الحسين زعامة بني هاشم، في تقليد عربيا لا يشدون عنه، فقد كان كل قبيلة يتولاها الأكبر سنا والأرجح عقلا، وبعد الإسلام أضيف إلى هذين الشرطين الأتقى والابصر بأحكام الشرع، وكان لا بد لكل أهل بيت من عميد، وقد كان في بني هاشم علي ومن قبله النبي الكريم ومن بعده الحسن فآلت زعامة بني هاشم إلى الحسين، وعادة ما تنتقل الزعامة عموديا، أي من الأب إلى الابن الأكبر فالذي بعده وهكذا دواليك، بيد أن بني هاشم كانوا يعتقدون جازمين بان كرسي الخلافة من حقهم وحدهم، وتحديدا في نسل النبي المؤسس، في اندماج لما كان عليه تسلسل السلطة ونظامها في تلك العهود، حيث يتولاها نسل القائد المؤسس، وقد أضيفت على هذه العقيدة السياسية الراسخة دلالات دينية عميقة تأخذ منحى عقائدي مغاير للمفاهيم الدينية الحاكمة، التي أسسها الخلفاء الراشدين الثلاثة لا سيما الخليفة عمر بن الخطاب، وظلت عقائد أهل البيت متعارضة مع عقيدة السلطة إلى عصر تكون المذاهب الإسلامية بعقائدها ومفاهيمها السياسية وتنظيراتها الفقهية في أواخر العهد الأموي وبدايات الدولة العباسية، لقد كان نسل النبي وبني هاشم الذين عرفوا فيما بعد بأهل البيت رواد مدرسة مستقلة مغايرة لمدرسة الخليفة عمر ومن بعهد عثمان والأمويين، وعلى مدى قرون تكونت الطائفة الشيعية وتعددت مذاهبها على غرار نظيرتها المدرسة السنية، فقد خرج على التيار العقائدي السائد بين الشيعة زيد بن علي بن الحسين المعروف بالسجاد، وثار على بني أمية فقتل، ونشى عن ثورته مذهب الزيدية، وخرج أيضا إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق، وثار على بني العباس فقتل، وظهر بذلك مذهب الإسماعيلية، ونشئت مذاهب شيعية أخرى إلا إنها انقرضت ولم يبقى منها اليوم سوى الجعفرية أو الاثنى عشرية وهم أغلبية الشيعة والزيدية والإسماعيلية.
بعد وفاة معاوية تولى ابنه يزيد الحكم، فرفض الحسين مبايعته، وكان أهل الكوفة قد دعوه لينصبوه خليفة على المسلمين، وقد كانت الكوفة عاصمة أبيه وأخيه من قبل، فذهب إليهم بعد عهود ومواثيق، إلا إن السلطات الأموية تداركت الأمر وقضت على كل أنصاره في الكوفة قتلا وسجننا كمسلم بن عقيل وهاني بن عروة وآخرين، وما أن بلغ الحسين العراق حتى حاصره جيش بني أمية بالقرب من الفرات، على بعد مسافة يوم من الكوفة، وهناك دعاه القادة الأمويون إلى الاعتراف بخلافة بني عمه والتسليم لهم بالطاعة، فأبى، فقاتلوه فذاد عن نفسه وأهله ومن حوله فقتل مع نفر قليل من أنصاره وأهل بيته في وقعة عاشوراء عام 61 بعد الهجرة.
لم تستمر سلطة بني أمية كثيرا، فتكالبت عليها الثورات حتى سقطت بعد اقل من65 عاما من ثورة الحسين، وكانت الثورة التي قضت على الحكم الأموي بقيادة العباسيين، وهم أبناء العباس بن عبد المطلب، عم النبي، وهم بذلك أبناء عم النبي وفرع من آل أبي طالب الذي ينحدر منهم بنو هاشم، وقد رفع العباسيون شعار الثار لأبناء عمومتهم بني هاشم لا سيما الإمام الحسين، وقد ناصرهم بني هاشم بالعدة والسلاح والرجال، حتى بلغوا سدة الحكم، واعتقد الهاشميون أن بني عمهم آل العباس سوف يشركونهم في الحكم إلا إن الأخيرين أقصوهم عن شئون الدولة وغدروا بهم، فما كان منهم سوى الخروج على بني العباس، فناجزهم العباسيون العداء وأشبعوهم قتلا وتشريدا، وهكذا كانت سيرتهم تجاه الهاشميين طيلة أل 500 عام هي عمر الدولة العباسية.
*
من خلال هذا العرض الموجز يمكن القول أن قريش هي القبيلة الحاكمة التي كان ينتمي إليها النبي وقد تقلدت السلطة بعد وفاته حتى نهاية العهد العباسي، وقد تركز الحكم ما بين افخاذ ثلاثة من قريش، هم بني أمية (100 عام) وبنو العباس (500 عام) وبني هاشم (5 أعوام)، وقد كانت الخلافة قبل تولي علي بالشورى بين الصحابة، ولما وليها معاوية جعلها في بني عبد شمس حصرا، وقد كان هذا التكالب على الحكم في الدولة المحمدية شبيها بما كانت عليه الممالك قبل الإسلام وبعده، حيث بتقلد السلطة عادة أبناء المؤسس وفي أحيانا نادرة فرع آخر من قبيلته، وفقا لإفرازات ونتائج الصراع في القبيلة الحاكمة، وغالبا ما يجنح المتصارعون إلى سفك الدماء للوصول إلى الحكم، وذلك لعدم وجود آليات متفق عليها لانتخاب الخليفة، وهذا ما واجهته دولة النبي بعد وفاته، حيث تنازعت قريش فيما بينها، فاختلف بني هاشم وأنصارهم من جهة وزعماء قريش والصحابة من جهة أخرى على الحكم ومن له حق خلافة النبي، فقال بنو هاشم أن علي منصوب من قبل النبي وانه الأحق والأجدر بالخلافة، وقال الصحابة إنها بالشورى، ومن هذه المعضلة الكأداء انبثقت معظم العقائد والآراء والأحكام الدينية لكل من الطائفتين الشيعية والسنية على العصور.
الإسلام دين الهاشميين ودين الأمويين
إن الإسلام كدين بمثابة القاعدة الأساسية للمجتمع العربي ونظمه الحاكمة وعلى رأسها السلطة السياسية، التي تعتبر الممثل الشرعي والواجهة الكبرى للمسلمين كأمة والإسلام كدين، لذلك كان كل تيار حاكم يعلن تمسكه بالدين ويتخذه ركنا وطيدا لنظامه السياسي، حتى يتمكن من ممارسة كافة مهام الحكم بمرونة وانسيابية، علاوة على التمتع بمزايا السلطة، ومن هنا كان الخلاف الشديد ما بين بني هاشم وال أمية ومن بعدهم بني العباس، فالهاشميين اتخذوا لأنفسهم مذهبا مستقلا عن دين السلطة، عرف فيما بعد بالمذهب الشيعي أو الطائفة الشيعية بمذاهبها المختلفة، وقد كان المذهب الشيعي بمثابة مشروع حكم معد للتطبيق في مقابل مذهب السلطة الأموية أو العباسية القائمة، وقد تعرض مذهب الشيعة – كغيره- إلى التشتت، فخرجت شخصيات تاريخية تعارض النظام العقائدي والفقهي الحاكم في داخل المذهب الشيعي، الذي يتمسك بحصر الإمامة الدينية والزعامة السياسة في نسل الإمام الحسين.
وقد كان لبني أمية والعباس وغيرهم من الأسر الحاكمة مذاهب خاصة بهم أيضا على غرار بني هاشم، وبما أن مذهب السلطة متعارض مع بقية المذاهب والاتجاهات العقائدية فقد أذى ذلك إلى حدوث صراعات اتخذت طابعا دمويا في أحيان كثيرة، حيث لم يكن في الآمة الإسلامية على غرار الأمم الأخرى في تلك الحقبة التاريخية ما يمكن تسميته بالنظام الجامع، الذي يمكن من خلاله ضم المذاهب وجمع تناقضاتها في مؤسسة تشرف عليها السلطة في نطاق نظام مرن وفعال يحفظ للأمة وحدتها وقوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية ونسيجها الجماهيري، وما يزال الصراع مستمرا ما بين المذاهب الإسلامية حتى يومنا هذا.
إن الحسين عندما خرج على حكم بني أمية ممثلا في يزيد بن معاوية كان يدعو في حقيقة الأمر إلى سيادة مذهب أهل البيت وإقصاء مذهب بني أمية، الذي كان سائدا في تلك الفترة، نتيجة لطغيان السلطة الأموية واستبدادها، بحيث لم يكن مسموحا لأي مذهب آخر، خاصة مذهب الهاشميين بالبروز والانتشار الطبيعي، وكان معاوية قد قتل العشرات من الفقهاء المعروفين بولائهم لعلي وأتباع سيرته ومنهجه في الفقه والعبادة والعقيدة.
كانت ثورة الحسين عبارة عن ثورة دين ضد آخر سائد ومسيطر، تماما كما كان من أمر جده النبي، فقد كان العرب مؤمنين بوجود الله، يقول القران الكريم ﴿ولئن سألتم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكونْ﴾ إلا إن الدين الحاكم بالغلبة والقوة والإكراه كان دين الشرك، حيث عبدت العرب آلهة رمزت لها بأصنام صنعتها ووضعتها بجوار الكعبة وظلت لها عاكفة، وكان الاعتقاد السائد بأنها وسيلة إلى الله وشريكة له في إدارة الكون، وقد كان رجال الدين وتجار قريش وزعمائها يجنون مغانم جمة من الدين الوثني الحاكم، فقد كانوا يحضون بالمال والسلطة وكافة الامتيازات، علاوة على ذلك فقد كان لقريش المنزلة الأرفع بين القبائل العربية، لما تحظى به من مكانة دينية واقتصادية واسعة، فكان دين النبي ثورة ضد الدين السائد، المتسم بالشرك والاستبداد والاستعباد والاضطهاد، ومن الجدير ذكره انه عندما ساد دين محمد أبقى على الكثير من النظم والأحكام الدينية والعبادية بعد تهذيبها وتشذيبها.
لقد كانت الدعوة المحمدية تماما كدعوات الأنبياء الذين سبقوا النبي الخاتم، فقد كانت دعوات دينية ضد أديان أخرى قائمة، يسيطر عليها البرجوازيين الأنانيين ورجال الدين النفعيين، فكانت دعواتهم تنادي بالحرية والكرامة وتحرير الإنسان من كافة أشكال الاستعباد، لذلك يلاحظ أن نسبة كبيرة من أنصار الدعوات السماوية والأرضية كانت من الطبقات البوليتارية، أي الطبقات المسحوقة والمحطمة والمحرومة من كافة الحقوق، وتكاد كافة الثورات على مر تاريخ الإنسانية تتطابق فيما بينها، فقد كان اغلبها إن لم يكن جميعها ثورات- سواء كانت سماوية أو أرضية – ترفع شعارات الحرية ومقارعة الأنظمة الطاغوتية وتحقيق العدالة والرفاه، ومعظم أنصارها من الفقراء والمعدمين.
كان الدين النبوي المحمدي يمارس دعوته دون خوض أي معارك عسكرية ضد السلطة القرشية، إلا إن قريش سلت السيف ضد النبي وأتباعه، فلم يكن أمامه من خيار سوى أن يواجههم بمثله، فكانت الغزوات والحروب التي انتهت بسيطرة النبي على معظم أنحاء الجزيرة العربية وتأسيس الدولة العربية الإسلامية، وفي نظري انه لو كانت البيئة العربية مهيأة لتقبل الأفكار الجديدة والآراء الغير متعارفة لانتشر الدين الجديد دون إراقة للدماء ولساد المسلمون في كافة أوجه ومناحي الحياة بعد عقود قليلة، إلا إن البيئة العربية منذ ذلك العهد وحتى عصرنا الراهن لم تهيئ فيها الأرضية والمنظومة القانونية الحقوقية التي تمكنها من احتضان الأفكار والآراء بمختلف اتجاهاتها، وظلت هذه الإشكالية الخطيرة والتناقضات العبثية تشكل معضلة مدمرة تقف كحجر عثرة أمام تطورها وتقدمها حتى يومنا هذا، بينما تجاوزتها الأمم الأخرى وتمكنت من تحقيق تقدم أنساني وحضاري وعلمي وتقني سريع جدا خلال فترة وجيزة، فالتعددية ناموس كوني وطبيعة بشرية وإقصاء فئة أو شريحة أو تيار أو حركة أو دين أو مذهب أو أي اتجاه سيؤدي إلى دخول الأمة في نفق مظلم مليء بالصراعات الدموية على السلطة، وهذا ما كان من أمر الأمة الإسلامية طوال تاريخها.
إن تشييد منظومة التعايش التي تنمو فيها الأفكار وتتلاقح، في أجواء إنسانية يسودها الائتلاف رغم الخلاف والاختلاف، وإطلاق حرية تبادل المعلومات وتشكيل الآراء والفلسفات والمبادئ والقيم والنظم الدينية والاجتماعية، في نطاق هامش من الحرية الواسعة، تمثل الحاجة المهمة والملحة والأساسية التي يجب أن تبادر أي امة لتشييدها، حتى يمكنها انتشال شعوبها وجماهيرها ومجتمعاتها من بؤر التخلف والانحطاط الإنساني، كالذي تتمرغ فيه الأمة الإسلامية منذ قرون طويلة.
عندما تتحول الثورة إلى نظام قمعي
لم يشد الإمام الحسين عن القاعدة الحتمية في ملحمة التاريخ، فقد كان عصره اقصائيا دمويا، لا يسمح بتعدد الآراء وتنوع المذاهب، وقد كان يحمل مذهبا يخالف مذهب السلطة الحاكمة، فكان مشروعه هو إقصاء السلطة الدكتاتورية وسيادة مذهب بنو هاشم، إلا انه لم ينجح لعوامل وأسباب ومسببات متشابكة ومتداخلة، ذات خلفيات وحيثيات معقدة، إلا إن منهجه تحول إلى مبادئ عظيمة اعتنقها آلاف البشر على مر التاريخ، وتحول الحسين إلى رمز للثائرين والتائقين إلى الحرية والتحرر من نير الاستعباد، ومثالا يحتذ به في مقارعة الطغاة والعتاة وعلما خالدا من أعلام المجد والنضال والكرامة، وشعلة وضاءة ابد الدهر تنير للثائرين معالم الطريق المظلم الطويل نحو الحرية.
بيد إن الثورات، سواء تلك التي رفعت أعلام الحسين وراياته أو تلك التي نهلت منها أو ناظرتها، والتي نادت جميعها برفض الاستبداد وسيادة الأمة وقيم الحرية والكرامة، تحول معظم من انتصر منها إلى أنظمة حكم شمولية، تخلت عن شعاراتها ومبادئها وأذهبتها أدراج الرياح، فالثورة العباسية مثلا، التي اتخذت من الانتقام لدماء أهل البيت شعارا وهدفا انتصرت به، تحولت إلى نظام حكم استأثر بالسلطة وأقصى حلفائه وأنصاره وقام بتصفية من شعر بأنه خطر محدقا به، فأصبحت ثورة تأكل أبنائها الذين كانوا السبب في انتصارها وتتويجها نظاما حاكما، إن كثير من الثورات تحولت إلى أنظمة حكم تمارس سياسات دموية وذلك لخلوا تركيبتها الثقافية والدينية من قيم التعايش والتسامح واحتضان الأفكار والآراء المتنافرة في نطاق هامش متسع ومتجدد، وان هذه الإشكالية المفصلية كانت احد أسباب انهيار الدول والحضارات على مر التاريخ، حتى بروز الديمقراطية كنمط للحكم والليبرالية كمنهج فكري حضاري والتعددية والحرية وحقوق الإنسان كقيم إنسانية بديهية ومنظومة قانونية مجمع على سيادتها.
وعلى مر أكثر من ألف عام استغلت العديد من التيارات والمذاهب ثورة الإمام الحسين وجيرتها لصالح تحقيق مكاسب وأغراض وامتيازات متعددة الاتجاهات، فلقد تحولت معظم الثورات التي رفعت رايته ونادت باسمه ورفعت لواءه إلى تيارات وأنظمة سياسية واجتماعية ودينية، وجميعها لم تكن تحمل في تكوينها الحضاري والثقافي والدينية والإنساني منظومة التعايش والانتماء للأمة الإنسانية الواسعة، على غرار الأمم المتحضرة في هذا العصر.
لقد تحول الحسين إلى شعار أيدلوجي يدور في فراغ السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية المستبدة، التي لا تحمل أي أفق سوى بقائها في السلطة عبر إخضاعها الجماهير بالقيم الدينية المؤدلجة وسيطرتها على أجهزة صناعة الوعي والثقافة ومناهج التفكير العامة لتستأثر بالثروات والامتيازات، ليصبح كل من يعارض المفاهيم السائدة والنظم الحاكمة والقيم المسيطرة خارجا عن الحق والشرعية ويجب قمعه حتى لا يناجز الحق والدين الصحيح ويشكل خطرا داهما على الإسلام والنظام الشرعي المنبثق عنه.
إن معظم الشعارات التي ترفعها التيارات الدينية الحاكمة كشعارات ثورة ألطف، تحمل أكثر من معنى ودلالة ولا يمكن إسقاطها على مفهوم عقائدي أو فلسفي محدد، ذلك أن هذه الشعارات وان كانت أطلقت في زمن معين ونشئت فيه وتحركت في عصوره إلا إن مفهومها غير مطلق، أي انه قابل للتطور، باعتبار أن العلم لا متناهي، وعقل الإنسان وثقافته مرتبطة به ارتباطا شاملا ومتكاملا، إلا أن السلطات المستبدة، سواء كانت سياسية أو دينية أو ثقافية أو جماهيرية تحاول إيقاف الوعي الفردي والجماعي وحتمية تطور الارتقاء باستيعاب مضامين النص وضرورة إخضاعه للمرحلة المعرفية التي يعيشها المجتمع، وذلك عبر إنشاء آليات جامدة في مناهج التحليل والتفكير العام، ليتحرك النص وتطبق مفاهيمه في إطار ضيق ومحدود، يصب في صالح السلطة، لتحدث في نهاية الأمر الفجوة العميقة والهائلة بين النص والواقع المتحرك والمتطور باستمرار، بين القيم النظرية والعملية للنص وبين معطيات الواقع ونواميس التغير والتحول، ليصبح المجتمع في عداد المجتمعات المتخلفة والانعزالية والمتأخرة إنسانيا وحضاريا، وهذا ما كان من أمر أتباع المذاهب الدينية ومنهم الشيعة، فتقييد البحث التاريخي بعقيدة العصمة وجعلها خطا احمر لا يمكن تجاوزه، قضى على قراءة منفتحة وواعية للتاريخ باعتبار أن كل ما قام به الإمام المعصوم صائبا مطلقا، خاصة الإمام علي باعتباره مارس السلطة لأكثر من أربع سنوات، وكذلك القطع بنظرية الإمامة جعل البحث في قضايا الخلافة وإيجاد سبل التخلص من ارثها التاريخي أمر في غاية الصعوبة إن لم يكن في عداد المستحيلات، وتقديس استنباط الفقهاء ومساواة أحكامهم بالأحكام الدينية القطعية جعل من نقدها ومقارنتها بالنظم القانونية المشابهة عملية عديمة الجذوى.
وبالرغم من التقدم التقني والمعرفي والعلمي والتكنولوجي الهائل، والتبادل السريع والتدفق الرهيب للمعلومات إلا إن الممارسات الدينية للشيعة ما تزال في أطرها المتخلفة والتي لم تتطور منذ مئات السنوات، ومنها التطيير على سبيل المثال، الذي يعد عند كافة التوجهات العقائدية والفكرية والإنسانية من الممارسات البشعة، إلا إن معظم التيارات الدينية الشيعية تمارسه حتى الآن وتتعامل معه باعتباره نصا مقدسا وتنبذ كل من يحاول انتقاده وتناصبه العداء.
لقد رفعت معظم الثورات شعارات براقة تمس آمال وطموحات شعوبها، وكان بعضها يصرخ باسم الحسين عاليا باعتباره رمز الإباء والعزة والكرامة، ولكن ما أن تحولت تلك الثورات إلى أنظمة حكم بشكل من الأشكال حتى مارست كافة أنواع الاستبداد والقمع والطغيان، ولم تكتفي بذلك بل إنها أضفت على ممارساتها التعسفية الصبغة العقائدية فتحولت شعاراتها إلى أنظمة وقوانين ومفاهيم سائدة، من هذه الأنظمة نظام صدام ألبعثي، فلقد قال بان الحسين جده! وانه يسير على دربه في مقارعة الامبريالية الأمريكية، وكان أن كتب عهدا باسم الحسين أمر بان يوضع في واجهة الضريح ! يذكر التاريخ أن رجل دين خرج في عصر من العصور مناديا بالثورة والجهاد والكفاح ضد الاستبداد السياسي وذكر الجماهير بالحسين وثورته ضد بني أمية وتضحياته وآلامه العظيمة، وباعتباره رجل دين يحظى بالشرعية والمقبولية، ومسيطرا على أجهزة صناعة الوعي في صفوف شعبه، فقد استجابت له الجموع الحاشدة، لا سيما من الطبقات الكادحة، فسقط عشرات القتلى منهم، ثم إن ثورته خمدت، ونال عفو السلطة بعد حين، فعاد إلى وطنه ودعا جماهيره بان يتبعوا سيرة الإمام الحسن ومسالمته لمعاوية !
يسيطر اليوم على ذكرى الإمام الحسين التيارات الدينية المتشددة ذات الاتجاه العقائدي والفكري والثقافي الجامد، والتي تعتبر بمثابة السلطة الدينية الحاكمة، التي حولت ذكرى عاشوراء لوسيلة من اجل تحقيق مصالحها وتوسيع نفوذها، من خلال معطيات وملابسات بالغة التعقيد، إلا إنها في نهاية الأمر اتخذت من الحسين وسيلة ومطية لبقائها في الحكم، أما الجماهير فهي ليست سوى تلك الشعوب الخاضعة المخدرة، التي تقدم فروض الطاعة والولاء لمن نصبوا من أنفسهم رموزا وقادة ونواب للحسين وأبنائه من بعده، وهكذا تمر ذكرى الحسين عام بعد عام والأمة الإسلامية ليس لها من سيرته الخالدة سوى البكاء واللطم عند الشيعة! والنيل من سيرة الشيعة وشعائرهم عند السنة ! أما عباد البقر ! أمثال غاندي فقد نهل من سيرة الحسين فظفر بالحرية وانقد شعبه من الاستعمار فقال كلمته الخالدة/ لقد علمني الحسين كيف أكون مظلوما وانتصر.
إن الحسين ثورة متجددة ونهضة إنسانية عظمية إلا إن السلطات المستبدة سيطرة على مفاهيمها وقيمها ومعطياتها وخدرت الجماهير بدينها فغدا الدين أفيون الشعوب ! فمسخت المفاهيم وانصهرت العقول وساد القمع والإرهاب والتطرف وضاع دم الحسين بين آلاف الضحايا.
raedqassem@hotmail.com
كاتب من السعودية