لفت تعاظم شأن الإفتاء الرأي العام العربي والعالمي في السنوات الأخيرة، ولكن أغلب الفتاوى التي شغلت الناس وأثرت في نفوس الجماهير(سلبا أو إيجابا) لم تصدر عن المؤسسة الرسمية بقدر ما كانت فتاوى فردية تعكس اجتهادا شخصيا (أساتذة فقه أو حديث… أو دعاة أو شيوخ الاتجاهات الإسلامية)، وصدرت أحيانا عن أشخاص مغمورين(وعاظ الشوارع أو الأرياف،أقطاب الطرق الصوفية الجماعات الدعوية ) ولم تكن محل إجماع.
من المعلوم أن بروز المفتي المهيمن على الجماهير صاحب السلطة والمنزلة الرفيعة قد اقترن بظهور الثورة الإعلامية وتعدد قنوات الاتصال والتواصل. فبات المفتي يحتل الصدارة في الفضائيات ومواقع الأنترنت ومنابر النقاش وغيرها كما أنّ المفتي صار وجها بارزا لا يستغنى عنه في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والافتراضي.وصار التنافس على أشده بين المفتين الرسميين والمفتين غير الرسميين ، وبين المفتين والدعاة الإسلاميين، و بين المفتين والفقهاء ، و بين المفتين والمفتيات اللواتي أصبحن “يزاحمن الرجال” في مجال معرفي كان على الدوام حكرا على الرجال. وهذا التنافس الشديد على المواقع والشهرة والوجاهة أفرز حركية شفعت بفوضى وحالة من الانفلات عممت فصرنا نتحدث عن “عولمة الفتيا”. ويمكن القول إنّ المفتي الذي شغلت فتاواه الناس يصنعه الإعلام.
لم تعد المساجد فضاءات ينتصب فيها المفتون بل صاروا في التلفاز والمذياع والمواقع ولم يعد السؤال موجها بطريقة مباشرة أو عن طريق واسطة تجوب الأمصار لتبلغ السؤال: أسئلة الجمهور صارت على مسمع ومرأى الجميع وحدّث ولا حرج عن مضمون الأسئلة: أسئلة عن الجنس والمأكل والمشرب ووسائل الزينة (الرموش الاصطناعية ، الشعر المستعار التنميص،العدسات، الكعب العالي….) وغيرها. اتسعت دائرة الإفتاء ومعها تكاثر عدد المتصدين للفتوى.
ويتعيّن على دارس الفتاوى الصادرة في السنوات الأخيرة أن يفصل بين صنفين من الفتاوى: الفتاوى الإيجابية التي تقيم الدليل على وجود حراك في مجال الإفتاء، وهذا الوجه من الاجتهاد في الفكر الإسلامي هو في الواقع ،محدود ومعتّم عليه في الغالب تقلل وسائل الإعلام من شأنه لأنه يفتقر إلى عنصر الإثارة بالنسبة إلى ثقافة العصر حيث يتم البحث عن الخبر الغريب والعجيب الذي يشدّ انتباه الناس.
وهكذا يغيب في السجال الدائر حول منتجي الفتاوى ومضمونها جهد فئة تحاول أن تسد الفجوة بين الواقع المعيش المتحوّل وأسئلته التي تؤرق ضمير المسلم المعاصر ومقتضيات النصوص الدينية. نذكر من بين هذه الفتاوى فتوى تبيح التحوّل الجنسي صدرت عن الخميني في إيران وأخرى صدرت في الكويت، وفتوى سعاد صالح بشأن النقاب إذ رأت أنّه ظاهرة غريبة عن الإسلام. كما أنّها أفتت بجواز الصلاة في مساجد الفنانين، وفتوى الدكتورة عبلة الكحلاوي عميدة كلية الدراسات الإسلامية بتحريم تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، وفتوى صدرت في السعودية منذ أسبوع تعتبر أنّ الرياضة بالنسبة إلى المرأة ضرورة شرعية، والفتوى التي تبيح للمرأة الترشح لرئاسة الدولة، وفتوى أصدرها مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة أباح فيها للمرأة العمل في وظيفة مأذون لعدم تعارض ذلك مع أحكام الشريعة الإسلامية مذهب أبي حنيفة، وفتوى الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر بإجازة إجهاض المغتصبة في أي وقت وقبل مرور 120 يوماً علي الحمل وفتوى بتحريم الخفاض وغيرها من الفتاوى التي تنم عن وجود محاولة لتفعيل حركة الاجتهاد بالرغم من التعتيم الإعلامي على هذا الجهد.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى وجود صنف آخر من الفتاوى يقع ‘في منزلة بين المنزلتين’ ويتصف بسمتين: إرباك المنظومة التقليدية واستفزاز المؤسسة الرسمية. ونذهب إلى أنّ هذه الفتاوى تقيم الدليل على وجود مأزق فكريّ لم يستطع حسم المرجعيات والتعامل مع مستجدات الواقع تعاملا يخرج المسلم المعاصر من حالة الانفصام التي يعاني منها. كفتوى المرجع الشيعي فضل الله بحق المرأة في ردّ الاعتداء الموجه لها من الزوج بضربه، وفتوى سعاد صالح بعدم أحقية الرجل في الخروج من بيته إلى عمله إلا بإذن زوجته، وفتوى الشيخ القرضاوي بإباحة المشروبات بنسب كحول “ضئيلة”، وفتوى جواز ترقيع غشاء البكارة التي أصدرها مفتي مصر علي جمعة، وفتوى صحّة صيام الفنّانات حتّى لو قمن بتصوير مشاهد تمثيليّة غراميّة في نهار رمضان. وأفتي المفكر الإسلامي جمال البنا بجواز تبادل القبلات بين الشباب والفتيات غير المتزوجين معتبرا أن ذلك يأتي في إطار الذنوب الصغرى التي تمحوها الحسنات، كما أنّه رأى أنّ تدخين السجائر في رمضان لا يفطر، وأجاز للمسلم المتزوج من اثنتين في المجتمعات الغربية، تطليق أحداهما على الورق في حالة تعرضه لإشكالات قضائية، وإبقائها “كعشيقة”بشرط أن تكون في نيتهما استمرار علاقتهما الزوجية؛ والفتوى التي أباح فيها حسن الترابي زواج المرأة المسلمة من الرجل الكتابي مسيحياً كان أو يهودياً. وبقطع النظر عن مضمون هذه الفتاوى وتهافت منطقها الداخلي فإن تهميشها يعد تهميشا للقوى الإسلامية المعتدلة في مقابل الإعلاء من شأن أصوات تنتج خطابا هشا.
3- الفتاوى المسيئة للإنسان
آثرنا الحديث عن الفتاوى المسيئة للإنسان سواء كان رجلا أو امرأة (وإن كانت أكبر نسبة من هذه الفتاوى المهينة تستهدف النساء،) لنشير إلى أنّ انعكاسات هذه الفتاوى تشمل الجنسين معا، والمسلم و’غير المسلم’، والغني والفقير، والكبير والصغير إلى غير ذلك من التصنيفات التي تعكس التراتبية داخل المجتمع والنظام التمييزي السائد حسب الجنس والدين والعرق والطبقة.
ولسنا بحاجة إلى تعداد كلّ هذه الفتاوى باعتبار شيوعها وسرعة انتشارها، إنّما يقتضي المقام عرض بعض النماذج كالفتوى التي تمنع ألعاب” البوكيمون”، والفتوى التي تقول بجواز قتل أصحاب القنوات الفضائية التي تبث برامج “تحث على الفتنة والفساد والسحر والشعوذة”؛ وفتوى تحريم تعلّم اللغة الإنجليزية لأنّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله؛ وفتوى الشيخ سليمان الخراشي في جواز نهب أموال العلمانيين وانتهاك حرماتهم؛ وفتوى الشيخ عبد الله بن جبرين في الجهاد ضد الشيعة ووجوب البصق في وجوههم؛ وفتوى للشيخ محمد صالح المنجد التي تمنع مشاركة الكفار أعيادهم لأنه من التشبه؛ وفتوى للشيخ محمد المغراوي رئيس “جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش”، بخصوص زواج البنت الصغيرة؛ وفتوى سعاد صالح عميدة كلية الدراسات الاسلامية للبنات بإخصاء كلّ الشواذ إخصاء كيميائياً؛ وفتوى تذهب إلى أنّ كلّ من يبث المسلسل التركي ‘نور’ هو “عدو لله ولرسوله” فهذه المسلسلات تؤدي إلى انتشار الثقافة العلمانية.
تقوم الإساءة في جوهرها على إلحاق الضرر بالآخر وعدم الإحسان إليه وأن يفعل به ما يكره وهو فعل قبيح مشين وبالنظر إلى هذا الصنف من الفتاوى نتبيّن الآتي:
1- أنّها تمثّل اعتداء على منظومة قيمية يتمسك بها الإنسان بقطع النظر عن معتقده وعرقه ولونه وجنسه ، وهي التي ترسي قواعد العيش معا في ظل المجتمع. نذكر في هذا الصدد فتوى الشيخ عائض الدوسري في جواز الدسيسة ضد الشيعة وأصحاب الأفكار المنحرفة لإبعادهم عن التأثير على المسلمين؛ وفتوى الشيخ علي الخضير في جواز الكذب وشهادة الزور على المخالف لنصرة الدين وأهله؛ وفتوى الشيخ سليمان الخراشي في جواز نهب أموال العلمانيين وانتهاك حرماتهم؛ وفتوى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ في جواز اختراق المواقع وتخريبها والتجسس على الايملات وذلك لنصرة منهج السلف الصالح. فأين هذا من منظومة القيم الدينية والأخلاقية التي قام عليها الإسلام؟
2- تعدّ هذه الفتاوى مهينة لكرامة المرء، مخبرة عن الفجوة بين الفتوى وأسئلة العصر والقيم السائدة فيه. نشير في هذا السياق إلى فتوى شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي بجلد الصحفيين؛ فتوى الشيخ الداعية غازي الشمري نصح فيها الزوجات بلعق الصديد الخارج من أنوف أزواجهن مبيّنا أنّ ذلك من حق الأزواج عليهن وناسبا ذلك للرسول؛ فتوى الاستمتاع بالخادمات على أنهن ملك اليمين…
3- تروّج هذه الفتاوى لثقافة الكره والخوف: كره النساء Misogynie)) وكره المخالف عقديا وأيديولوجيا ومذهبيا (فتوى عدم مناصرة حزب الله واعتباره من الرافضة لابن جبرين)، وحتى المختلف على مستوى الهيئة ونمط الحياة وأسلوب العيش وكره الإبداع والفنون….كره الحياة فضلا عن توجس الريبة من الآخرين والشكّ في نواياهم.
4- تعيد هذه الفتاوى إلى الأذهان الصور النمطية التي تكرس دونية بعض الفئات كالمرأة والأقليات وغير المسلمين…في مقابل الإعلاء من شأن فئات أخرى كالرجل والمسلم. نذكر على سبيل المثال فتوى صدرت من الشيخة والداعية الإسلامية “أمّ أنس” بأن جلوس المرأة على المقعد مدعاة للفتنة، يؤدى إلى كثير من الرذائل،. أما الجلوس على الأرض فإنه يذكر المسلم بخالق الأرض وهو «الله» وهذا يزيد فى التعبد والتهجد والإقرار بعظمة الخالق وفتوى الشيخ صالح بن غانم السدلان عضو اللجنة الدائمة للإفتاء باجازة زواج الوناسه بشرط علم الزوجة وفتوى المجمع الفقهي الإسلامي بجواز عقد نكاح المسيار وغيره.
5-تسترجع هذه الفتاوى البنى الذهنية القديمة القائمة على الثنائيات المتقابلة رجل/امرأة، مسلم/غير المسلم، سني/شيعي، ملتزم /غير ملتزم،إسلامي/علماني…. ومن ثمة فإنها تحاول إرساء قواعد الفصل والفرز بين أبناء المجتمع الواحد.
6-تصادر هذه الفتاوى حق الفرد في التفكير والتعبير والأمن على ذاته وممتلكاته والحق في المعرفة والعمل والإبداع والحياة، وتخرق حقوقا تضمنتها الدساتير بحكم مصادقة الدول على قوانين حقوق الإنسان وحقوق الطفل وعدد من الاتفاقيات الدولية.(فتوى زواج القاصر).
7- أخطر ما في هذه الفتاوى أنّها تتجاوز الإساءة المعنوية إلى انتهاك حق الحياة وذلك عندما تصدر أحكام هدر الدم، فتعيد إلى أذهان وقائع ‘محاكم التفتيش’. فلئن كان قول المفتي غير ملزم باعتباره مجرد اجتهاد يترك للمرء فرصة الخيار إمّا أن يعمل بمقتضاه أو يتركه أو يطلب رأي شيخ آخر فإنّ إصدار فتاوى هدر دم بعض المفكرين أو الشخصيات الفنية أو غيرها يتجاوز العنف المعنوي والنفسي واللفظي والرمزي إلى العنف المادي بانتهاك حق الآخر المخالف في الحياة. كفتوى رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ صالح اللحيدان بجواز قتل أصحاب القنوات الفضائية التي تبث البرامج الخليعة، وفتوى الشيخ حمود بن عقلا الشعيبي بإهدار دم المغني الكويتي عبد الله الرويشد، وفتوى مائة عالم باعتبار الذين منعوا فتحوا معابر رفح خونة ومرتدين. وهذه الفتاوى المسلّطة على المبدعين تؤدي إلى تعميم الجهل وترسيخ الأميّة القانونية وتحول دون أنسنة الإنسان. إنها تعيد إلى الأذهان الصور الدموية الوحشية في تاريخنا: قصة جعد بن درهم في عصر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك الذي أهدر دمه بفتوى تكفيرية فما كان من والي الكوفة خالد بن عبد القصارة إلا أن أحضره يوم عيد الأضحى وبعد خطبة العيد نزل عن المنبر قائلا: لقد اخترت أضحيتي وشحذ سكينه وذبح جعد بن درهم من الوريد إلى الوريد على مرأى الجميع. (تاريخ ابن الأثير ج 4 ص 255)
ويمكن القول إنّ هذه الفتاوى تسيء إلى الإنسان وإلى الإسلام على حدّ سواء، إن كان ذلك على المستوى الداخلي أو الخارجي. فقد ارتفع عدد المنفصّين عن الإسلام في السنوات الأخيرة، ومن بين الأسباب التي يعلّل بها بعضهم الخروج من الإسلام ‘ خوفهم من دين يُقهر فيه البشر ولا مجال فيه للرحمة والإخاء والتضامن والتسامح والمودة والمرونة إنّما هو سيف مسلّط على الرقاب’، وخوف النساء من دين صادر فقهاؤه فيه حقّ الفتيات في التعليم والعمل وحق اختيار الزوج…. وحكموا عليهن بالوأد من جديد’. أمّا على مستوى الخارج فإنّ هذه الفتاوى تسيء إلى الإسلام وتساهم في صناعة صورة عن الإسلام والمسلمين تستغل في الحرب الإعلامية الطاحنة التي تفعّلها جهات متعددة وخاصة الأصولية الدينية المسيحية واليهودية التي تعيد إنتاج رؤى قديمة حول الإسلام. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الفتاوى تسيء إلى ماضي حضارة عريقة أنتجت أعلاما كوّنوا مجدها (الإمام مالك والشافعي وابن حزم والشاطبي والطبري وابن كثير والطبرسي والفارابي والخوارزمي والغزالي وابن خلدون وابن رشد….). هي فتاوى تدعي محاكاة السلف والسير على منوالهم، ولكنّها في الحقيقة تسيء إليهم خاصّة حينما تصدر عن أناس يطلقون الفتاوى ثمّ سرعان ما يتراجعون، يضربون بشروط المفتي وضوابط الإفتاء عرض الحائط فيساهمون بذلك في بث الفوضى من حولهم.
4- قراءة في الخلفيات
تجد أغلب الفتاوى المسيئة للإنسان لها سندا لها في المرجعية الأصولية الدينية (يسميها البعض الوهابية، ويسميها البعض الآخر التيارات الإسلامية المتشددة /الإسلاموية المتطرفة…،). ولئن تعددت مشاربها فإنّها تلتقي في مقصد واحد، ألا وهو خدمة أهداف مشروع ‘الإسلام السياسي’ من خلال العمل على إقامة الدولة الإسلامية المنشودة وتطبيق تمثّل Représentation) ) للشريعة الشريعة الإسلامية. ولا يتسنّى تحقيق هذه الأهداف إلاّ بضرب المشروع الحداثي ونسف منظومة حقوق الإنسان. فلا غرابة والحال هذه أن نتبيّن من وراء هذه الفتاوى محاولة لانتزاع صفة تميّز الإنسان عن غيره من الموجودات وهو أنّه حرّ مسؤول وقيّم على نفسه ومتحمّل تبعات أفعاله، وهو بالمفهوم الديني ‘مكلّف ‘ قبل حمل الأمانة.
وفي الوقت الذي أصبحت فيه حقوق الإنسان لغة العصر واتسعت مجالاتها بظهور الجيل الثالث لحقوق الإنسان (مثل الحق في بيئة نظيفة والحق في الماء وغيرها)، بات همّ منتجي هذه الفتاوى التحريم: فتاوى تحريم الفن، فتاوى تحريم بعض الكتب، تحريم التلفاز، الهاتف الجوال، الأنترنت، الميسانج ، “التشات “، تصوير الوجه ، تحريم الكراسي والمقاعد وما أشبهها من آرائك ونحوها وتحريم التصفيق و تحريم نظام ا”لبوفية المفتوح”، وتحريم أكل الزلابية ولبس التنورة وجمع شعر الرأس إلى فوق أو جمعه للخلف أو فرق شعر الرأس واستخدام المساحيق العصرية وتغيير لون الشعر ولبس البنطال والكاب وخاتم الخطوبة وفتح محلات تصفيف الشعر الكوافير النسائية ولبس القلادة التي وضع اسم الله عليها ووضع الرموش الصناعية ووضع الأظافر الصناعية والرسم على الظهر أو البطن والنقش على العضد أو الكتف على شكل تنين ولبس اللون الأبيض في الزفاف ووضع التاج على الرأس. . إلى غير ذلك وتحريم القول بدوران الأرض وتحريم لعبة كرة القدم وتحريم إهداء الزهور. وليست هذه الفتاوى إلاّ شاهدا على تجرّؤ منتج الفتوى على القول نيابة على الله ورؤيته للعالم وللكون من حوله عالم تتسع فيه دائرة الحرام في مقابل تضييق دائرة الحلال، عالم يسعي فيه رجل الدين إلى امتلاك وعي الفرد والهيمنة عليه يفرط في العسر ويتجاهل قواعد التيسير.
وتصبح الفتوى من خلال الطرح الأصولي المتشدّد آلية لمقاومة التحديث الكاسح سواء كان ماديا (المنتجات الجديدة) أو فكريّا(العلمانية ،الليبرالية، النسوية،…). ولئن ظهرت الفتوى في لبوس ديني يستند إلى أقوال العلماء ويجتر فتاوى قديمة كانت وليدة بيئتها وعصرها فإنّها تخبر في الحقيقة عن عجز أصحاب هذه الفتاوى عن مواجهة ما ترتّب عن التحوّلات الطارئة في نمط العيش والتفكير والسلوك وغيرها من المظاهر اليومية من نتائج. كما أنّها تثبت عدم قدرة هؤلاء على إنتاج حلول جذريّة للخروج من المآزق والأزمات التي تتخبّط فيها المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
وهذه الخلفية الأيديولوجية تعمل على الترويج لأنموذج للاجتماع العمراني يحلّ محلّ مشروع إرساء ‘المجتمع المدني’ قوام هذا المشروع نسف مفاهيم عديدة كمفهوم الشخصية القانونية ومفهوم المواطنة ومفهوم الأهلية المدنية وغيرها وتأصيل أنموذج المجتمع العشائري يتمأسس فيه التمييز بين الرجل والمرأة ، العالم والجاهل، الكبير والصغير، السيّد والعبد، المسلم وغير المسلم، الشيخ والمريد، المعلم والمتعلّم… وهكذا ينقلب الخطاب الإفتائي من مجرد إبداء رأي إلى خطاب تعبوي تحريضي.
ولا تستهدف هذه الفتاوى المستندة إلى مرجعية أيديولوجية تروّج للإسلام السياسي الفرد فحسب بل هي مشروع يهدف إلى الإطاحة بدولة المؤسسات التي يحكمها الدستور والقوانين. كما أنّ بعضها يدعو إلى العصيان المدني والتمرّد على القوانين المنظّمة للعلاقات الاجتماعية وعدم الاحتكام إلى سلطة القانون وحث الجماهير على الامتثال إلى سلطة المفتي. ونظرا إلى ‘عولمة هذه الفتاوى’، فإنّ عدوى تسريب مثل هذه الأفكار تتجاوز الرقعة الجغرافية التي صدرت فيها. فما معنى أن يفتي مفتي مصري أو سعودي بأنّ من حقّ التونسي أن يعدّد الزوجات وأنّ الزواج العرفي حلّ من بين الحلول المقترحة في ظلّ دولة لا تعمل بالشرع؟ بل ما معنى أن يفتي مفتي تونسي بأنّ الطلاق يتم مشافهة ؟ وأن يفتي شيخ تونسي آخر بأنّ ضرب الزوجات يندرج في إطار التأديب في دولة تفاخرت بمنح المرأة التونسية حقوقا تجعلها أنموذجا يقتدى به؟ هذا هو المزلق الخطير الذي نواجهه اليوم حين نعمل على تجميد صيرورة تطوير القوانين ونفقد مجلات الأحوال الشخصية أو قوانين الأسرة أو المدونات فاعليتها.
ليست هذه الفتاوى في اعتقادنا، إلاّ علامة على جدل السياسي والديني ومحاولة رجل الدين أن يسترجع موقعا يضمن له الهيمنة على الجماهير وكلّ ذلك يتمّ باسم الدين. إنّه واقع يكشف عن ‘ اختطاف المشهد الثقافي وارتهانه’ وتأزّم الفكر الدينيّ وتكلّس نسغ كان من المفروض أن يؤدي إلى تجديد الاجتهاد. ولا نبالغ إن قلنا إنّنا نعيش زمن الخواء الفكري حيث يهيمن الديني على الثقافي والعلمي والسياسي وتسيطر حالة من الخوف من التفكير.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ فوراء إنتاج هذه الفتاوى مخطط يستهدف تغيير العقليات وجعلها مهيأة لقبول نمط مختلف تأسس عليه العلاقات الاجتماعية والأدوار بين الجنسين وفق منطق ارتدادي ‘نكوصي’ ، وهو ما جوّز للبعض الحديث عن ردّة المجتمعات المعاصرة وعن زمن الانحطاط العربي وعن حلول ثقافة التراجع ،وعن أزمة الرجولة التي هبّت من سباتها لتسترجع ‘الزمن الجميل’. فإذا اعتبرنا أنّ أغلب منتجي هذه الفتاوى هم رجال فإنّ التأسيس لعودة النظام الأبوي/ البطريكي مفهوم من خلال تفكيك الفتاوى التي تروّج لثقافة كره النساء وتدعو إلى الحجر عليهن في البيوت وتصميت ‘سليطات اللسان’ صاحبات القلم اللواتي فارقن خدورهن وبتن يروجن لأفكار دخيلة على مجتمعاتنا تروم القضاء عليها وفق ‘نظرية المؤامرة.’ وليس يخفى أنّ هوامات fantasmes)) هؤلاء الرجال مجال خصب للتحليل والتفكيك.
إنّ المجتمع الذي يحلم به منتجو هذه الفتاوى تقوم فيها العلاقات على الصراع والصدام والعدوانية فالكره ليس موجها للنساء فحسب بل هو كره الشيعة/ السنة والعكس بالعكس، وكره المسيحيين(وبالخصوص الأقباط ) وكره البهائيين وكره فئات متعددة تجسّم المغاير. إنّه مجتمع التمييز وتنميط السلوك والهيئة ونمط العيش وغيرها من مظاهر الحياة، وهو مجتمع أحادي النظرة والتفكير منغلق على ذاته يعجّ بالمتناقضات والأزمات.كما أنّه مجتمع تسود فيه علاقات التسلّط والهيمنة حيث المهيمن والمهيمن عليه.
نخلص إلى القول إنّ خلفيات هذه الفتاوى المسيئة للإنسان مركبة ومعقدة منها الأيديولوجي ومنها الاجتماعي ومنها السياسي ومنها الثقافي ومنها الفكري ومنها الديني ومنها النفسي. فبريق الشهرة جعل المنافسة على البروز على الركح الإعلامي على أشدّها ، الكلّ يريد أن يدلي بدلوه في سياق ازداد فيه تواكل الفرد على الدعاة والشيوخ وفي زمن يستقيل فيه المرء عن مهامه ويتنازل عن حريته واستقلاليته لفائدة من احتكروا ‘النطق باسم الله’: يقبل بعبودية الإنسان للإنسان. وهكذا تتضارب بعض الفتاوى ويشتد التوتر بين مفتي الجمهورية وشيخ الأزهر أو بين المفتي الرسمي والداعية أو بين المفتي والمفتية الكل يحرص على أن يبدو متميزا.
ونذهب إلى أنّ هذه الفتاوى لا تعبّر عن قلق منتجها وتأزّمه (المؤسسة الرسمية للإفتاء والدعاة) فحسب بل هي مصورة لواقع الفرد عموما (تراجع الروحي في مقابل الإسلام الطقوسي الاستعراضي) ولواقع الأنظمة العربية التي تختار في الغالب التواطؤ النسبي باتخاذ الصمت موقفا وقبول هذه الانتهاكات في حق الإنسان.
على سبيل الخاتمة
هل يكفي التحليل والفضح والتشهير والتنديد بهذا الصنف من الفتاوى؟ هل يكفي نزع القداسة عن منتجي هذه الفتاوى؟ أم يجب الانتقال إلى خطوات أخرى تقوم على إطلاق دعوات إلى الرأي العامّ في شكل عرائض موجّهة إلى جمعيات حقوق الإنسان، والتعامل مع هذه الفتاوى المهينة للإنسان والمنتهكة لحقوقه من خلال الدعاوى، ونعني بذلك اللجوء إلى القضاء لمحاسبة من اعتدوا على الكرامة الإنسانيّة واستهزؤوا بالقوانين والمواثيق الدولية وروّجوا للعنف والإطاحة بالرؤوس وهو إجراء يسعى إلى إيجاد سابقة في مجال التشريع.
هذه خطوة من بين خطوات ولكنّنا نعتقد أنّ للإعلام مسؤولية تاريخيّة يتعيّن عليه النهوض بها. فقد تجاوزنا مرحلة الشغف بالاطلاع على آخر البدع في مجال الإفتاء وملاحقة الخبر المثير وإثارة الرأي العام بمواجهة هذا المفتي بذاك الداعية.وهو ما جعل محمد السمّاك يعتبر أن ‘العمل الإرهابي ليس شيئا في حد ذاته التشهير هو كل شيء’.
إنّ الوعي بالمزالق والانزياحات يدعو نساء الإعلام ورجاله إلى الكف عن الانسياق وراء متابعة هذه الفتاوى والترويج لها فذاك مسلك آخر نحو نسف العقلانية وسعي إلى شغل الرأي العام ب’التافه من الأمور’.
والناظر في الفضاء الافتراضي ،المدوّنات و منابر النقاش ، وبالخصوص منتديات الفايس بوكFace book) )يلحظ أنّ المواجهة صارت وفق استراتيجية مختلفة فإزاء ثقافة الموت يتمّ الترويج لثقافة الحياة،( نصوص درويش ونزار بيرم التونسي وتميم البرغوثي وخطب الزعيم بورقيبة وأغاني فيروز وسيد درويش ومارسال خليفة) وإزاء الخطاب الدعوي القائم على الترهيب هناك منتج ثقافي يكرس القيم الإنسانية(نصوص جمال البنا وأمينة نصير) ويتطلّع إلى الارتقاء بالفرد وأنسنته بالعمق.
فسيفساء الأذواق وتعددية الرؤى والمرجعيات إذا استطاعت التأصل والمقاومة فإنها ستثبت أن بالإمكان أن نلتقي جميعا حول فكرة المواطنة التي تعمل على إرساء ثقافة التبصّر والمسؤولية والحرية لا ثقافة ضرب الوصاية وتجذير التبعيّة والتواكل والانهزامية
فهل بإمكاننا أن نتصالح مع زماننا وأن نكون أبناء عصرنا نعيش داخل التاريخ لا خارجه ؟
amel_grami@yahoo.com
• تونس
قراءة في خلفيات الفتاوى المسيئة للإنسان“وأفتي المفكر الإسلامي جمال البنا بجواز تبادل القبلات بين الشباب والفتيات غير المتزوجين معتبرا أن ذلك يأتي في إطار الذنوب الصغرى التي تمحوها الحسنات” لقد قرأت كلام جمال البنا اكثر من اربع مرات و شاهدت مقابلات عدة له على التلفزيون، لم يقل مرة بأنه يجوز القبل او بأنه يفتي بحلها. كل ما قاله ان هذه اسبابها اجتماعيه و لها مسبباتها و قال انها ذنوب لكنها لمم. و هذه وجهه نظره ولم يذكر ان التقبيل من الكبائر غيكون بذلك كلامه لم يجانب الصواب. اكرر انه علق على ظاهرة و لم يفت بحلها و كونه رآها على… قراءة المزيد ..
قراءة في خلفيات الفتاوى المسيئة للإنسانأعتقد ان احد اهم الاسباب التي تؤدي الى تلك الفتاوى الغريبة هو التسرع بالافتاء مع ان الكل يعرف الحديث الذي يقول اجرؤكم على الفتيا اجرؤكم على النار، و هو نص عظيم لو وضعه المفتون نصب اعينهم… وواحدة من اهم اسباب التسرع في اصدار الفتوى هي برامج الافتاء المباشرة التي تكون على الهواء؛ حيث ان المفتي – و للاسف – يستحي ان يقول لا اعلم و ارى تاجيل الاجابة لموعد لاحق فيقع في المحظور. هناك برنامج للافتاء يبثه تلفزيون الكويت اسمه (مع الاسلام) للدكتور خالد المذكور، حيث يقوم الدكتور باعداد الاجابات في تأني ثم يطرحها مسلجة… قراءة المزيد ..