الفصل الأول، والحاسم، من الانتخابات النيابية اللبنانية للعام 2009 حصلَ في العاصمة القطرية، الدوحة، منذ سنة بالضبط، في أيار (مايو) 2008. من يتذكر؟ كان وقتها اجتماع لقيادات 14 و8 آذار برعاية قطرية رسمياً، وبإدارة عربية اقليمية دولية عملياً. وذلك على اثر هجوم «كشافة حزب الله» على بيروت «دفاعا عن سلاح» هذا الحزب وما تسبّبَ به هذا الهجوم من ضحايا بالأرواح والعمران وفوضى امنية عارمة وتجاوزات الخ.
وكان من اهم بنود «التهدئة» بين الطرفين اعتماد قانون انتخابي محدّد، يعود الى نصف قرن مضى، اسمه «قانون انتخابات عام 1960»، وهو يعتمد أصغر دائرة انتخابية، أي القضاء. بل كان هذا القانون نقطة الخلاف الأعسر، التي كادت ان تنسف «لقاء القمة اللبناني» من اساسه لولا التدخلات والحسابات، وطبعا «ميزان القوى على الارض». وهكذا الى ان انتهى اللقاء القطري، وكانت التعديلات التي أرضتْ الطرف الرابح على هذه الارض، بأن امّنت له المقاعد القديمة والاخرى الاضافية لحلفائه من غير ان تطيح بالباقين… وذلك قبل عام بالضبط على حصول الانتخابات. فخُرقت بذلك واحدة من القواعد الأساسية لفعل الإنتخاب، وهي حق المواطن ان يختار مرشّحه (أو مرشّحيه) للانتخابات، واقتصار وظيفته، بالتالي، على التصويت فحسب. لا الدائرة الاوسع اعتمدت، ولا الدائرة الواحدة، تصغيراً لعقل هذا المواطن ومنعاً لجمعه مع آخرين على مشاريع تتجاوز تزفيت الطريق الى بيته او تعيين ابن عمه في احدى إدارت الدولة، او إعادة إعمار ما هدّمته الحروب العبثية الخ.
اذاً اتفق «القادة» اللبنانيون في الدوحة على ما يسمى في الاعلام بـ»المحاصصة»، مثلهم مثل اخوانهم العرب. كلٌ اخذ من «الدولة» المعطاءة حصته من البرلمان قبل سنة على الانتخابات. ثم عاد الى بلاده، مطمئنا الى نتائجها العامة، وقلقاً على آلية تحقيقها بعد عام. فقام وطرح على اللبنانيين ممارسة «حقهم الدستوري في الاقتراع». أي ان يكونوا مواطنين صالحين، فيصوّتون له، تدعمه في ذلك كل المدائح الديموقراطية والانتخابية… هكذا دخلنا كلنا مجدّداً في اللعبة، وفي الاوهام.
الانتخابات والديموقراطية تفترضان، في اقل التقديرات، «معركة انتخابية»، يقدم، أو يختار المواطنون عبر أطرهم المنظّمة، أي الاحزاب عادة، مرشحيهم الافضل، أي أؤلئك الذين تقتضيهم مصلحتهم البعيدة والقريبة، فضلا عن التوجهات. اما نحن، ففوق اننا حدّدنا لمن ستدوم السلطة، الموالية منها و»المعارضة»، فلدينا اطر طائفية تريد تجنّب، ليس فقط سقوط زعمائها، بل ايضا سقوط خصومها… الا ضمن المحاصصة في خطوطها العريضة.
لذلك، فان اللازمة التي ما هدأتْ في أي يوم من الايام الانتخابية، اللازمة الأشهر لهذه الانتخابات هي: «ضرورة تجنّب معركة انتخابية قوية في 7 حزيران» (موعد هذه الانتخابات…). يقولون «انتخابات قوية»، «معركة كسر عظم»، تهويلا علينا. ولا يقولون «انتخابات حقيقية»… وإلا أحرجوا انفسهم. وللاختصار احياناً، يسمّون هذه اللازمة «تفاهمات». فيعيّن مرشحون، وينقل آخرون، وتفرغ لائحة، كي يتاح المجال للخصوم… وتتعقّد احيانا التفاهمات بين الخصوم انفسهم وتهدّد احلاف بعينها.
لذلك كان ترشّح اسم قوي، مثل رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، في صيدا، أحد أقضية الجنوب، سبباً للمفاجأة والإستنكار والإستفزاز وحافزاً على إثارة روح التحدّي العالية، خصوصاً من قبل المرشح الصيداوي المنافس وقد أقلقته المنافسة «القوية». اذ كان ذنب فؤاد السنيورة في الحملة هذه انه يريدها معركة إنتخابية حقيقية، غير معروفة النتائج سلفا.
سالفة طريفة، مع ذلك. جزء من الفلكلور الانتخابي اللبناني الذي لا ينضب من الحكايات عن الافراد واهوائهم وتطلعاتهم. ونموذجهم الابرز هو المرشِّح نفسه للانتخابات، والباحث الدائم في الصالونات السياسية وممرّاتها عمّن يقبله في هذه اللائحة او تلك. وصاحب الحظ العاثر بالحصول حتى على لقب «مرشح سابق» المشرّف اصلا. أي الثالث في الدرجة، بعد «الفائز» من المرشحين و»الخاسر» (من قرأ رواية «الكوميديا الانسانية» للأديب الفرنسي اونوري دو بالزاك، ويتذكر شخصية راستينياك الوصولية سيجد ملامحه في شخصيتنا).
لذلك لا معنى هنا للكلام عن «برنامج انتخابي» لهذه اللائحة او تلك. فقط جماعة «الدولة» وجماعة «المقاومة». اما المعاني الاخرى الناضحة من الاقوال الانتخابية، فلا تخرج عن نطاق التجريح و»التجريص» والتحريض والتشنيع بالخصوم. ومن المضحكات فعلا ان بعضهم يصدق كذبة نزاهته ويذهب بعيدا جدا في اتهام غيره بالفساد والمال الانتخابي وشراء الذمم وغيرها. فيما هو غارق في كل هذه الموبقات امام ناظِرينا.
الاشياء، الاحداث، الكلمات… كلها فقدت معانيها في هذه الانتخابات. ولا طائل من الاخذ بها جديا، او حتى مناقشتها. بل لا شيء يغير «رأي» المقترع، المفترض انه مواطن يمارس حقه؛ ولا حتى قضية خلية «حزب الله» في الاراضي المصرية، ولا إخلاء سبيل الضباط الاربعة المتعلق باغتيال رفيق الحريري، ومن قبل المحكمة الدولية. بل الاثنان، القضية والاخلاء، رسخا «القناعات» أو «الرأي» السابقين؛ واعطيا الحق للخط او المعسكر او الموقف. فكانت انتخابات على الطريقة العربية نفسها التي يلتذّ اللبنانيون بالتميز عنها، ويدعون انها مصدر ديناميكيتهم، فيما هي المسؤولة عن إعاقة هذه الديناميكية… والديناميكية آتية من مكان آخر.
إنتخابات تعيد الى السلطة من تولوها سابقاً، أكانوا «موالاة» او «معارضة». انتخابات ضد هذه الديناميكية، ضد التغيير ومع الشلَل والجمود… هل هذا هو لبنان الابدي؟ لبنان الخالد؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة