لم تشهد الحياة السياسية اللبنانية، لا في ما نذكر ولا في ما قرأنا، ظاهرة مثل ظاهرة قائد الجيش الأسبق، ورئيس الحكومة العسكرية الانتقالية (أيلول 1988 – تشرين الأول 1990) ورئيس كتلة “الإصلاح والتغيير” النيابية (2005-2009)، وصاحب لوائها إلى انتخابات 7 حزيران 2009، ميشال عون. فالرجل الذي خرج إلى المنفى “بطل تحرير” لبنان واللبنانيين من الاحتلال السوري ومن أعوانه وميليشياته، والتهامه الكيان ومراوغته واصطناعه دور “الأطفائي ومشعل النار” على ما لم يفتأ عون الترديد في مقالاته الفرنسية، هذا الرجل عاد بعد 13 عاماً إلى لبنان نصيراً مستميتاً لمطامح المحتل السابق الثابتة، وحليفاً لا يتزعزع للمنظمات الأهلية والمذهبية المسلحة والأمنية التي رعت السياسة السورية الأسدية نشأتها واشتداد عودها، أو بعثتها من رمادها، وناطت بها تمثيل اللبنانيين والاستيلاء على دولتهم ومجتمعهم.
لا نزعم أن تاريخ لبنان واللبنانيين السياسي المعاصر خلا من الانقلابات، على معنى الانتقال من موقف إلى آخر، ومن نهج إلى نهج يخالفه. فرياض الصلح لم يخالط السياسة الداخلية اللبنانية، لا ترشحاً ولا نيابة ولا وزارة، قبل مفاوضته على الميثاق والاستقلال، ودخوله لبنان “الكيان” والدولة، وترؤسه الحكومة الاستقلالية الأولى. وعلى هذا، فهو انقلب على موقفه السابق من الانتداب، وإنشاء القوة المنتدبة لبنان في حدوده، و”انفصاله” عن دولة عربية سورية مفترضة لم تبصر النور فعلاً. وسبقه إلى الإنقلاب، على نحو آخر، خير الدين الأحدب، السياسي الطرابلسي الذي رضي في 1936، وهي سنة مؤتمر الساحل الثاني وسنة المعاهدة الفرنسية – السورية والاضطرابات العامة في معظم مدن “الداخلية” وبعض مدن “الساحلية” مثل طرابلس، تأليف حكومة في “عهد” إميل إده، عَلَمَ “الانعزال” اللبناني وخصم “الاتصال” الإسلامي والعروبي بالداخل المقتصر على الكيان السوري. وبعد العَلَمين هذين، نقّل كثيرون هواهم السياسي بين الدستورية والكتلوية، أو بين الشمعونية والشهابية، أو بين “التقدمية” و”الدولة”، أو بين المنظمات الفلسطينية والدولة، إلخ.
لكن الفرق لا يقاس بين الانقلابات هذه وبين الانقلاب العوني. فالأولى مهّد لها انقلاب الأحوال، من انتداب إلى استقلال أو من انتداب غير مقيّد إلى انتداب مقيّد بمعاهدة، ومن عهد إلى عهد ونظام إقليمي ودولي إلى آخر. وكان التمهيد بطيئاً، وتطاول عقداً وبعض العقد أو عقدين. وسوّغه أصحابه، وطرحوا حججهم على الناس، واحتكموا اليهم (شأن سامي الصلح بعد انحيازه إلى كميل شمعون). وفي احوالهم هذه كلها، التزم المنقلبون، أو معظمهم، بعض التحفظ. فلم يطلقوا العنان لمخيلاتهم وألسنتهم وضغائنهم، ولم يزعموا أنهم وحدهم على عهدهم، وأن غيرهم باقٍ على “خيانته”. ولا زعموا أن تاريخ اللبنانيين كله، بقضه وقضيضه ما خلا السنتين والأسابيع الثلاثة التي تولى فيها “الجنرال” الحكم على 15 في المئة من الأراضي اللبنانية، باطل، بل باطل الأباطيل. ولا قالوا إن الإصلاح والتغيير المزمعين، وسندهما حزب خميني عمّم في شطر كبير من الناس فساداً جماهيرياً واغتيالاً شعبياً لم يسبق إليهما حزب أو فريق من قبل (ما عدا المنظمات الفلسطينية المسلحة ربما)، يحتاجان إلى “حكم كامل”، أو شامل، على شاكلة الحكم الذي يحلم به من أقام ذهنه على تصوّر عريف أو شاويش انكشاري للسلطة أو الحكم، وعلى “ثقافتهما” السياسية.
والحق أن ما قد يعرف بـ”العونية”، منذ اليوم أو في يوم آت، ليس سياسة، ولا نهجاً، بل هو، على ما نرى ونزعم، لغة أو لغو. واللغو العوني أداء مسرحي نافذ وفاعل. ويؤديه من يسمّيه الفرنجة “كوميدياً”، أدى الكوميديا التي سماها العرب “المساخر” أو أولى المآسي المحزنة والداعية إلى مرّ الدمع والبكاء الدامي، على قول “حلفاء” الرجل وسنده في بعض منادبهم وشعائرهم. ويجوب الأداء المسرحي هذا دوائر قول ومعان
لا يبلغها السياسي العادي أو الفذ، ولا المواطن السوي. فلا تبعة عن الكلام في ما يقوله الرجل أو في ما يفعله أو يساق إلى فعله، أو في ما يسكت عنه. فهو فتح باب “الهذيان” على مصراعيه، شأن صندوق باندورا. فخرجت قصص الرجل تسعى في اللبنانيين، واجتماعهم وجماعاتهم وعلائقهم، فساداً وتحريفاً وقلباً. فمن “الأكثرية الوهمية” إلى معركة “صلاحيات” نائب رئيس الحكومة، ومن “سوريا في سوريا”، إلى تحرير سعر البنزين، ومن تحميل رفيق الحريري المسؤولية عن الدين العام إلى تحميله “السنّة” التبعة عن السياسة السورية في لبنان، ومن أسطورة “السفارات” إلى حمل “فتح الإسلام” على سعد الحريري، لا تحصى “قصص” قائد الجيش الأسبق و”حكاياته” التي تدعو المواطن اللبناني إلى نسبة اللغو هذا إلى “انحراف” الرجل. لكن الرجل ليس قوّالاً يتبختر على مسرح أو يتراءى في صندوق فرجة. فهو رجلٌ عام. ويتصدر جمهوراً عريضاً من اللبنانيين، ويقرّ له جمهوره، إلى اليوم، بالقيادة والقول الفصل في أمور كثيرة. ولا ينكر عليه، ظاهراً، ما يقول إنكاراً صريحاً وحاداً. ويماشيه على بعض أفدح أفعاله، مثل احتلال ساحتي بيروت سنة ونصف السنة، مماشاة تتنكر لبعض أثمن ما خلّفه التراث (المسيحي) اللبناني، وهو تقييد السلطة وجموحها بمصالح “الناس” واجتماعهم، وصدور (بعض) السلطة عن القوة الإجتماعية. فما يسعى فيه ميشال عون ويطلبه لنفسه ولمريديه وحاشيته، على خلاف التراث السياسي اللبناني، هو سلطان مطلق لا يقبل رداً ولا خلافاً، على شاكلة سلطان صدام حسين، أو معمر القذافي، أو حافظ وبشار الأسد. وعلى شاكلة السلطان الذي أنجزه الحزب الخميني المسلح على شطر من الشيعة الإماميين. وهذا “تعريب”، على المعنى الذي حمل عليه اللبنانيون التسلط الاستخباراتي السوري وخبروه.
ولما أردنا “فهم” ما يعنيه الرجل، وولاء جمهوره ومبايعته صاحبَه وعماده، لم نرَ أن نفصله من جمهوره، ومن أطوار الجمهور وانتقال بعضه من التحزّب إلى الإنفضاض والتبرّؤ، فالنقد والفحص. ولم نرَ أن نقصر سِيَر وشهادات من كانوا أنصاراً للرجل وأشياعاً، على الوقت الذي كانوا فيه مناصرين وشيعة. فهم، على وجوه متفرقة، مرايا “مجتمعهم” و”شعبهم” المسيحيين. وهم يتحدّرون من تواريخ كثيرة ومتعرّجة ينبغي روايتها، وقد روى القسم الأول من هذا الكتاب فصولاً منها. وهم ونحن جميعاً نتحدّر من تاريخ سياسي حاول القسم الأخير، غير السِيري، تدبّر بعض سياقاته. فاللغو والمسرح العونيان لم يولدا من مخيلة هاذية فردية وحسب. وهما حساب نسدده لفصول من تاريخنا العام والفردي لم نعقلها لا جماعات ولا أفراداً.
ينقسم هذا الكتاب، إذاً، قسمين. الأول شهادات وسِيَر رواها “عونيون” سابقون من أجيال ومنابت ومناطق مختلفة، وشاركوا في الصحوة العونية الأولى (1988-1990)، والثانية (1994-2005). والبعض من أصحاب هذه السِيَر الشهادات خرج من “عونيته” وعليها، في أوقات متباينة، فأخضعها للتبصّر والمراجعة والنقد. وبعضهم الآخر لا يزال مقيماً على “عونيته” على قلق وسأم واعتراض على سلوك زعيم “التيار الوطني الحر” وقائده ميشال عون، وحاشيته. وقد ذُيّلت الشهادات بتاريخ روايتها، ولا بد هنا من الإعتراف بالشكر والإمتنان لأصحابها الذين شاؤوا إعلان أسمائهم الصريحة، والذين لم يشاؤوا لأسباب مهنية وشخصية قاهرة.
أما القسم الثاني من الكتاب، فحاول ربط الحركة العونية بسياقات التاريخ السياسي اللبناني عموماً، والمسيحي خصوصاً، والتبصّر في بعض وجوه هذه الحركة في فصليها أو صحوتيها الأولى والثانية.
محمد أبي سمرا ووضَّاح شرارة
(13 نيسان 2009)