خاص – الشفاف
اذكر انه بعد التصريحات الاولى المثيرة للرئيس الايراني محمود احمدي نجاد بعد انتخابه في العام 2005 التي انكر فيها حصول الابادة الجماعية لليهود الاوروبيين خلال الحكم النازي في المانيا، وبعد تذكيره بموقف مؤسس الثورة الامام الخميني بوجوب ازالة اسرائيل من الوجود، اذكر انني في اليوم التالي كنت ضيفا على مكتب مستشار الرئيس الاعلامي “علي اكبر جوان فكر” مع ثلاثة من الزملاء الاعلاميين، إثنان منهم ايرانيون يعملون في الاعلام الايراني الناطق باللغة العربية والثالث عربي يقيم في ايران ويعمل مع احدى المؤسسات الاعلامية العربية المتلفزة المعروفة بانتقادها الشديد للسياسات الايرانية. ومن باب اختبار النوايا، سأل “جوان فكر” كيف يقرأ كل من الموجودين مواقف الرئيس هذه والأثر الذي ستتركه على المجتمعين الدولي والاسلامي.
بعد آيات المدح التي اطنب فيها الزملاء الثلاثة للرئيس وتصريحاته، وانها تعبر عن ضمير الامتين العربية والاسلامية وتنطق بما لا يدع مجالا للشك بما تكنه الشعوب الغربية من رفض لليهود، وان هذه المواقف تعيد البريق لشعارات الثورة الاسلامية، وانها تكسر الصنم الاسرائيلي الذي يهيمن على المنطقة استنادا الى ردود فعل مؤيدة ستعبر عنها الشعوب العربية والاسلامية. بعد ذلك كله، كان لا بد عند هذا الكلام من الحديث عن بعد آخر او وجه آخر للموضوع وعن آثار هذه التصريحات، ليس من باب المعارضة لما يقال، بل لمحاولة رؤية كل زوايا المسألة والآثار السلبية التي قد توجد فيها.
وبناء على تجربة سابقة مع المراكز التابعة لرئاسة الجمهورية النجادية، كنت على علم بان الجلسة خاضعة للرقابة والتسجيل وحتى التصوير الخفي. ومن الغباء توقع غير ذلك، على الاقل بسبب عمل مستشار الرئيس السابق كمندوب للوكالة الايرانية للانباء في اسبانيا اواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي. ومن باب محاولة تلمس قراءة موضوعية للحدث انطلاقا من بعض المعطيات التاريخية والحديثة المتوفرة لي بسبب معايشتي للثورة وتطوراتها السياسية الدولية والاقليمية، وحتى موقفها من اسرائيل، حاولت تقديم قراءة مختلفة عما تقدم به الزملاء المشاركون في الجلسة، تعتمد في نقطتها الاساس على انه، وبغض النظر عن الموقفين الايديولوجي والسياسي من اسرائيل، الا ان التوقيت لم يكن مناسبا وهو يدخل ايران في مواجهة مع المجتمع الدولي وسيحشد لها نقداً لن يقتصر على البعد السياسي بل قد يتعداه الى البعد الشعبي الغربي. وهو ما حدث لاحقا، وأجبر ايضا القيادة الايرانية في اعلى الهرم للتدخل وتهدئة الامور واعادة تصويب المسار. وكذلك دفع وزير الخارجية في الحكومة النجادية “منوتشهر متكي” للتذكير بان ايران ملتزمة بميثاق الامم المتحدة الذي يدين الاعتداء على أي دولة عضو في الجمعية العامة.
لا شك ان مسلسل التصريحات الرئاسية الايرانية كان يخدم استراتيجية ايرانية واضحة رسم معالمها المرشد الاعلى للنظام وكلف احمدي نجاد بتنفيذها. وكان الهدف منها ان الموقف الايراني من اسرائيل يهدف لايصال رسالة بان طهران تريد وتسعى لمشاركة اسرائيل في ادارة المنطقة، مع التركيز على اصطناعية الكيان الاسرائيلي من قبل طهران وسيطرتها على مفاتيح المنطقة بدعم دولي، وأن الحري بالمجتمع الدولي ان يعترف بالدور الايراني كشريك في المنطقة خصوصا وان ايران لا تعاني من ازمة وجود وهي تتمتع بتاريخ وحضارة عريقة غير مصطنعة في هذا الاقليم.
ليس الهدف من الكلام هنا الحديث عن الحظوة او الاستبعاد، بل للوصول الى استعراض ما جرى في العاصمة السويسرية جنيف خلال مؤتمر “دوربان 2” لمناهضة العنصرية برعاية الامم المتحدة، والزوبعة التي اثارها احمدي نجاد بخطابه ومشاركته في نشاطات هذا المؤتمر.
فهل اختار احمدي نجاد العاصمة السويسرية لاطلاق معركته الانتخابية للفوز بدورة ثانية برئاسة الجمهورية؟ ام ان طهران استشعرت ضغوطا – هذه المرة اسرائيلية – تٌمارَس على مسار الحوار المرتقب مع واشنطن، ومحاولة اسرائيلية لربط اي تقدم على مسار عملية السلام في الشرق الاوسط بالبرنامج النووي الايراني؟ وهل حاول بهذه الزوبعة صرف الانظار الدولية عن ملفات اخرى قد تثار لاحقا حول إيران بعد فتح مسار الحوار حول الملف النووي لبلاده؟
في المباشر، لم يتوقف أي من الوفود الغربية المشاركة في “مؤتمر دوربان 2” عند الشخص الذي وضع نفسه في قفص امام مدخل المؤتمر وهو يرتدي ثياب السجناء. الشخص كان من الايرانيين العرب الاهوازيين، واراد ان يوصل رسالة للمؤتمرين بان تمييزا عنصريا قاسيا على مختلف الصعد قد ارتفعت وتيرته ضد الشعب العربي الاهوازي منذ تولي احمدي نجاد مقاليد الرئاسة. لكن براعة احمدي نجاد استطاعت تحويل الانظار، وحشرت هذه الدول للتوقف عند الموضوع الاسرائيلي والتشكيك بالمحارق اليهودية الذي تحدث عنه احمدي نجاد. وقدم خدمة سهلة لاسرائيل وقطع الطريق على امكانية ادانتها بسبب حرب غزة، وكذلك للخروج من مأزق اقامة هذا المؤتمر في نسختيه الاولى والثانية وتركيزه على موضوع التمييز العنصري والاحراج الدولي الذي سببه لها. خصوصا وان نتائج الحرب على غزة ساهمت في ايجاد اجواء ناقدة لاسرائيل بين الرأي العام العالمي والغربي بالتحديد، وهو ما لم تستطع تحقيق كل التصريحات الرنانة التي اطلقها احمدي نجاد ضد اسرائيل والمحارق طوال توليه الرئاسة الايرانية.
اما في البعد الاخر لخطاب احمدي نجاد، فإن ردود الفعل عليه، المؤيدة والمعارضة في داخل ايران، تفتح التقديرات على امكانية ان يكون الرئيس الايراني قد اختار منصة المؤتمر لاطلاق حملته ومعركته الانتخابية، وانه لن يكون بحاجة لبذل الكثير من الجهود في الدعاية الاعلامية عشية هذه الانتخابات.
من ناحية اخرى، التركيز الايراني في الهجوم على اسرائيل، وامام المحافل الدولية، أُريدَ منه ايصال رسالة ايرانية واضحة بان عِقَدَ الحوار الايراني الامريكي خاصة، والغربي عامة، تكمن في الموقف الاسرائيلي، وان أي تقدم على مسار المفاوضات في أي من الملفات الاقليمية ستحاول اسرائيل التدخل فيه وعرقلته. خصوصا وان التعبير عن هذه المخاوف والضغوط لم يقتصر على احمدي نجاد، بل عبر عنه ايضا خصمه المحافظ ايضا علي لاريجاني من طهران قبل عودة احمدي نجاد الى بلاده، حيث وجه تهديدات مباشرة لاسرائيل بالقول “لم اسمع ان احدا من الخبراء في المنطقة والعالم يستطيع التكهن بردّنا في حال قامت اسرائيل بالاعتداء على ايران. لكن عليهم ان يعرفوا بان رد ايران سيكون قويا بحيث سيطرد النوم من عيونهم”.
لاريجاني كان اكثر وضوحا بالحديث عن دور اسرائيل في المنطقة واعتبر انها شكلت محور الصدامات والنزاعات على الساحتين الدولية والاقليمية، وان التهديدات الاسرائيلية لإيران هدفها الضغط على الادارة الامريكية وعرقلة الحوار حول برنامج بلاده النووي.
وخطاب لاريجاني لم يكن في النقاط التي ركز عليها بعيدا عن خطاب احمدي نجاد. لكنه كان اكثر وضوحا في طرح الاوراق الايرانية. اذ تحدث عن الملفات الاقليمية من افغانستان والعراق ولبنان وفلسطين وهاجم الادارة الامريكية السابقة ومجلس الامن الدولي ودورهما في هذه الملفات.
hassanfahs@hotmail.com