أيًّا ما كان الشأن في مسألة قبلة
بيت المقدس، أكانت هي القبلة الأولى أم الثانية، كما نوّهت في المقالة السابقة “هل القدس حقًّا هي إولى القبلتين؟” وأيًّا ما كان الشأن في مسألتها، أكانت أمرًا إلهيًّا أم تخييرًا من لدن اللّه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: لماذا استقبال بيت المقدس، أو لماذا أصلاً استقبال صخرة بيت المقدس بالذات دون غيرها في الصّلاة؟
مرّة أخرى، ومن أجل الإجابة على هذه التّساؤلات ما علينا إلاّ أن نشدّ رحالنا إلى تضاعيف التّراث الإسلامي ذاته لنتبيّن سبيلنا، من خلال ما دوّنه لنا السّلف، ابتغاء الوصول إلى إجابة واضحة.
قبلة اليهود:
فلو أنعمنا نظرنا في هذا التّراث الإسلامي نرى أنّ ثمّة إجماعًا فيه على أنّ “صخرة بيت المقدس” هذه هي قدس أقداس اليهود، ولو حاولنا في هذا السياق استخدام التّعبير الإسلامي بخصوصها فقد أطلق عليها المسلمون بدءًا من الرسول اسم “قبلة اليهود”، كما يتّضح ذلك من الحديث النبوي: “وددتُ أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها” (طبقات ابن سعد: 1، ص 241؛ تفسير مقاتل: 1، 92; تفسير الطبري: 2، ص 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126)، إذ أنّ بيت المقدس كما تذكر الرّوايات والمأثورات الإسلاميّة المختلفة هي “قبلة اليهود”، على وجه الخصوص (تفسير ابن كثير: ج 1، 265؛ تفسير القرطبي:ج 8، 837؛ زاد المسير لابن الجوزي، ج 4، 55؛ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:ج 1، 117)، أو هي “قبلة أهل الكتاب…” تعميمًا (تفسير البغوي:ج 1، 162). وها هو ابن قيم الجوزية، عندما يتطرّق إلى قدسيّة الصّخرة يقول ذلك صراحة: “وأرفعُ شيءٍ في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود” (المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، 88)، ولا يشذّ عن هذه النّظرة المفكّر الإسلامي المعاصر سيّد قطب الذي يصرّح هو الآخر بذلك أيضًا: “بيت المقدس – قبلة اليهود ومُصَلاّهم.” (في ظلال القرآن: ج 1، 72).
فمن جميع هذه الروايات نفهم أنّ ثمّة تداخُلاً بين بيت المقدس والصخرة في المنظور الإسلامي. وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح “بيت المقدس” الذي شاع في التّراث العربي هو في الواقع مصطلح مرادف لـ”الصخرة” التي هي قبلة اليهود كما أجمع عليها المفسّرون والمفكّرون المسلمون منذ القدم وحتّى العصر الحديث. كما يتّضح جليًّا، ممّا أوردنا سالفًا، هذا الإجماع الإسلامي على أنّ الصخرة وبيت المقدس هي أقدس بقعة لدى اليهود، أو هي “قبلة اليهود”، كما ذكرت الرّوايات الإسلاميّة، مثلما هي الكعبة ومكّة قبلة للمسلمين. ولمّا كانت هذه حال هذه البقعة المحدّدة من الأرض، أكانت هي أولى القبلتين أو هي الثانية كما بيّنا من قبلُ في المقالة السّابقة، فلا مناص من إثارة السؤال المُلحّ، لماذا إذن يتوجّه إليها الرّسول والمسلمون الأوائل بالصّلاة؟
من المعلوم أنّ الكعبة
الكائنة في مكّة، ومنذ عصور قديمة، هي مكان عربيّ مقدّس وهي محجّة العرب منذ قديم الزّمان. من هنا فإنّ الإسلام العربيّ كان موجّهًا في بداية أمره إلى القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة، غير أنّ معارضة قريش وسائر العرب الجاهليّين في البداية لرسالة محمّد الجديدة هذه قد دفعتاه إلى البحث عن مكان آمن لأتباعه. هكذا كانت هجرة الحبشة بعد أن اشتدّ التّضييق على أتباعه، بينما بقي بسبب الانتماء القبلي، فالنّعرة القبليّة للبيت الذي ينتمي إليه هي التي حمته من الأذى كما تذكر الرّواية الإسلامية: “وكان رسول الله صلعم في منعة من قومه وعمّه، لا يصل إليه شيء ممّا يكره، ممّا ينال أصحابُه. فقال لهم رسول الله صلعم: إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا ممّا أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها.” (السيرة النبوية لابن اسحاق: ج 1، 74، 194؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 164؛ سنن البيهقي: ج 2، 268؛ سيرة ابن كثير: ج 2، 16؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 85).
ولذلك أيضًا بدأ الرسول صلعم يبحث عن دعم لرسالته يأتيه من مكان آخر. وهكذا بدأ البحث عن قبلة أخرى بدل الكعبة ومكّة، وقد يكون هذا هو السّبب من وراء الهجرة إلى المدينة، لذا يذكر الرّازي: “إنّ أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأنّ استقبالك بيت المقدس كان أمرًا عارضًا لغرض…” (تفسير الرّازي – مفاتيح الغيب: 2، 396؛ تفسير اللّباب لابن عادل: 2، 160)، أو أنّ هذا الاستقبال قد كان “لفائدة”، كما ورد في روايات أخرى (تفسير النيسابوري: ج 1، 355). أي أنّ أصل الرّسالة هو التوجّه إلى مكّة والكعبة، غير أنّ ما جرى مع الرّسول قد دفعه إلى استقبال صخرة بيت المقدس، وقد كان هذا التحوُّل أمرًا طارئًا لأسباب تتعلّق بمجريات الأحداث التي ألمّت به وبصحابته في بداية الرسالة، وقد كان استقبال بيت المقدس بدل استقبال الكعبة ومكّة لغرض معيّن، أي لأهداف معيّنة سنشرحها فيما يلي.
فما هو هذا الغرض، إذن؟
مرّة أخرى، لا تترك الرّوايات التي حفظها لنا السّلف مجالاً للشكّ في أهداف هذا التّحوُّل. فمن هذه الرّوايات يتّضح جليًّا أنّ الغاية من وراء استقبال صخرة بيت المقدس، أكان ذلك الاستقبالُ قد حصل قبل أو بعد الهجرة، قد كانت لهدف واحد ومحدّد، وهذا الهدف هو التقرّب إلى اليهود واستمالتهم إليه إثر المعارضة التي واجهها من عرب الجاهليّة في مكّة، كما تذكر بعض الروايات الإسلامية: “لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود…” (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ إعراب القرآن لابن سيدة: ج 1، 310؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وبرواية الثعلبي: “أمره تعالى أن يصلي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلّى إلى قبلتهم…” (الكشف والبيان للثعلبي:ج 1، 259).
ولذلك كان اليهود يعجبهم أنّ محمّدًا يتوجّه بالصلاة نحو بيت المقدس الذي هو قبلة اليهود: “وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَلَ المقدس…”، كما يورد البغوي (تفسير البغوي:ج 1، 162)، حيث كان أكثر أهل المدينة من اليهود الذين فرحوا بتوجّهه نحو قبلتهم: “ولما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فكان رسول الله صلعم يصلي نحو بيت المقدس…” (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).
إذن، لقد فعل الرسول ذلك
ابتغاء استمالة قلوب اليهود في جزيرة العرب، كما تصرّح به الروايات الإسلامية. فقد قام بهذه الخطوة بحثًا عن دعم لرسالته من أناس آخرين، واليهود منهم بخاصّة، وذلك “ليُؤمنوا به ويتبعوه.”، كما يورد الطبري (تفسير الطبري: ج 2 ص 3). وها هو القرطبي يورد رواية تشرح هذا التّوجّه قولاً صريحًا: “وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعَى لهم.” (تفسير القرطبي: ج 2، 150).
وخلاصة القول في هذه المسألة أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل تحوّلوا إلى “قبلة اليهود” كما يسمّونها هم صراحة، وذلك لكي يستميل إلى جانبه اليهود الذين يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس الّتي هي قبلتهم منذ قديم الزّمان. وهذا ما تقوله لنا الرّوايات الإسلاميّة ذاتها كما عرضناها هنا بلسانها. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
***
في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا التوجّه بالصلاة نحو “قبلة اليهود” بالذّات؟
لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟
ألم يكن من الاسهل و الاولى بالرسول ( ص ) أن يستميل أهل مكة من قريش و هم قبيلته و أهله بدلا من التوجه الى اليهودو بذلك كان يوفر على نفسه و أصحابه العذاب و التشريد و التنكيل !!؟؟؟ اقول هذا الكلام جدلا للكاتب و من يرون رأيه ممن يفسرون كل تصرفات الرسول و أحكام القرآن تفسيرا ينزع عن القرآن صفته الالهية و عن الرسول صفة الرسالة .
لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟ملاحظتي هذه موجهة للاستاذ سلمان مصالحة وللاستاذ سهل الاتاسي المحترمين, لا ارى تناقضا فيما كتبه الاستاذ سلمان وتعليق الاستاذ سهل فكلاهما اعتمد على المصادر الاسلامية القديمة, ولكن وجود اليهود في المدينة كان اكثف بكثير من وجودهم في مكة. شيخ المفسرين الامام محمد بن جرير الطبري الذي اورد لنا في تفسيره الجامع اهم الروايات القديمة والتفاسير المأثورة حتى نهايه القرن الثالث الهجري، كتب في موضوع قبلة اليهود وسبب اتجاه الرسول اليها ثم تركها والتوجه نحو الكعبة ما يلي:” عن عكرمة والحسن البصري قالا اول ما نُسِخ من القرآن الكريم القبلة وذلك ان النبي صلى الله عليه… قراءة المزيد ..
لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟عزيزي السيد سلمان مع تقديري الكبير لجهدك العظيم في هذا البحث الهام أحب أن أسجل رأيي لك وأرجو أن تعلق عليه لأني قد أكون مخطئاً وأحب أن اتبين موضع الخطأ. ما أعتقده أن عكس ما جاء في مقالك القيِّم هو الصحيح وذلك بمقتضى المنطق وبغض النظر عن الأقوال التي إستشهدت بها. أولاً هناك مسألةٌ على درجة كبيرة جداً من الأهمية لم يعرها أحد من كتاب التراث أية أهمية ولم يأت حتى على ذكرها أحدٌ. هذه المسألة هي أن الشائع أن النبي أول ما واجه اليهود كان في المدينة. وهذا غير صحيح. لقد كان اليهود موجودين… قراءة المزيد ..