“الشفاف”- بيروت
يقول أحد أصدقاء الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إنه لم يعرفه يوماً على هذا القدر من”ا لارتباك السياسي”، حتى في أصعب المراحل السياسية التي شهدها لبنان، والتي كان البيت الجنبلاطي مؤثرا فيها أو متأثرا بها. ولعل تعبير “الارتباك السياسي” الذي استعمله هذا الصديق فيه كثير من التلطيف تجنّبا منه لاستخدام مفردة “التراجع” أو “الإنهزامية” التي طبعت سلوك جنبلاط، في أعقاب السيطرة المسلحة لـ “حزب الله” والحلفاء الأخرين لسوريا على بيروت في احداث السابع من أيار2008، ومحاولة الإقتحام العسكري للمعقل الدرزي في الجبل حيننذاك. فهل هذا الانطباع في محله؟
لا شك في أن تحولاً حصل في اللغة. فلغة التصعيد التي إتسم بها الخطاب الجنبلاطي منذ إغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005وحتى الامس القريب، وكان لها فعلها التعبوي السياسي والشعبي، لِما شكله وليد جنبلاط من محرك ورافعة لـ “ثورة الارز” التي أفضت الى خروج الجيش السوري من لبنان بشكل غير مشرف، تحوّلت لغة مهادنة وتهدئة بين ليلة وضحاها. والخط الفصل في هذا التحول هو السابع من أيار. على الاقل، هذا ما هو ظاهر للحلفاء والخصوم في آن.
الحلفاء يحارون في فهم سرعة التحوّل في مواقف جنبلاط . ولعلّ حيرتهم تنطلق من أن نتائج المسار السياسي العام بعد السابع من أيار حتى الآن لا يشكل إنتصاراً أحادياً او خسارة أحادية لفريق دون الآخر. حتى أن محاولة إقتحام “حزب الله” الجبل شكلت للحزب خسارة عسكرية وسياسية، اذا تمّت قراءة “اجتياح” الحزب وحلفائه لبيروت على أنه إنتصار عسكري وخسارة سياسية، مما أعطى جنبلاط بالتحديد هامشاً أوسع في المناورة لم يستخدمه.
والخصوم يعملون على الإفادة من مواقف جنبلاط المُهادِنة وتظهيرها على أنها “إعادة تموضع سياسي”، ويلجأون الى تكتيك التهنئة حيناً والحضّ على إستكمال التموضع حيناً، ليس تقديرأ له، بل لادراكهم أن “سحب” جنبلاط من المعسكر السياسي للرابع عشر من آذار من شأنه أن يضعف هذا المعسكر ويشتته الى حد كبير، ولاسيما على أبواب الانتخابات النيابية، التي يعتبرها فريق الثامن من آذار ضمناً مفصلية للإطباق على الخيارات السياسية للبنان ، في ظل التحولات الاقليمية والدولية التي لم تتبلور معالمها بعد، مع الادارة الاميركية الجديدة المنغمسة في رسم سياستها على وقّع سياسة الادارة السابقة، وما خلفته من تغييرات في الخريطة الاقليمية نتيجة حروبها الاستباقية في المنطقة وإرسائها لنظرية “الفوضى البناءة”.
لكن الزعيم الدزري، الذي يستظل الاشتراكية الدولية في العبور من موقعه “الضيق” في المعادلة الداخلية الى الفضاء الأرحب وربما الأحبّ اليه، يقارب مجريات الامور برؤية، يعتبر قريبون منه أنها تحاكي في أهدافها وأبعادها المرتكزات الاساسية التي تنطلق منها “إنتفاضة الاستقلال”، لكن المشكلة تكمن في نزعة جنبلاط الى التغريد منفرداً ولو لحين، إنطلاقا من قدرته على التقاط إشارات المتغيرات الآتية من هنا وهناك.
ففي غمرة المتغييرات الاقليمية والدولية، وجد جنبلاط أن الامور، وتحديداً بعد أحداث بيروت والجبل، وصلت الى حافة السقوط في الهاوية. وهو ليس سقوطاً لفريق دون أخر، وإن كانت الأثمان التي يمكن ان يدفعها هذا الفريق أو ذاك قد تكون بدايةً أكبر في حساب الجولات القتالية، لكن السقوط سيكون شاملا للجميع في المحصلة. والنتيجة صراع مذهبي سني- شيعي، يتفرع منه صراع درزي – شيعي، وسني – علوي سيؤسس الى إستعار حرب سنية – شيعية ضروس تخرج معها اللعبة من الإطار السياسي الى ما هو ديني بإمتياز، ولاسيما أن المنطقة بأسرها قد سقطت في موجة الاسلام السياسي والتطرف الديني والقتل المذهبي الذي برزت نماذج منه في العراق. عند ذلك الحد، لن يكون بمقدور الاعتدال السياسي،على أقله الإعتدال السياسي السني، الامساك بطرف الخيط، في الوقت الذي يمسك بالطرف الآخر فريق ديني شيعي متطرف. إنه السقوط في هاوية الحرب الأهلية، والمقدمة الى تحولات كبرى ستجرف معها ما تبقى من النسيج اللبناني برمّته.
وفي الواقع، يعلم المراقبون للأحداث، وفي مقدمهم “حزب الله”، أن قوى الرابع عشر من آذار لم تتخذ خلال الاعوام الماضية قراراً بالتسلح الفعلي. ولو كان هناك تسلح فعلي وتدريب وتعبئة عسكرية وتحضير للمواجهة، لما سقطت بيروت في 7 مايو من دون مقاومة تذكر.
وتروي إحدى شخصيات “إنتفاضة الإستقلال”، التي كانت لديها خبرة في العمل العسكري في زمن الحرب اللبنانية السابقة، أنها قدّمت أكثر من مرة لرئيس كتلة “تيار المستقبل” سعد الحريري دراسة مفصلة لتأمين الامكانات العسكرية الضرورية للدفاع عن بيروت وتوفير مقومات صمودها ولو لأيام، خصوصاً أن هذه القوى كانت على إدراك تام بأن “حزب الله” وحلفاء سوريا الأخرين قد أعدّوا الخطط العسكرية لـ”غزو” بيروت وجزء من جبل لبنان الجنوبي، الا أن الحريري ومعه جنبلاط لم يوافقا على ذلك لاعتبارين: الأول رفضهما نقل الصراع من سياسي الى عسكري. أما الثاني، فإدراكهما أن التسلُّح لن يغيّر في الموازين من الناحية العسكرية، وهو إن إسهم من جهة في تأمين إطالة امد المعركة ومقومات “الصمود”، الا انه سيؤول أيضاً الى زهق الأرواح وتعميق الشرخ ومضاعفة الاحقاد، بحيث لا تعود عمليات رأب الصدع ناجعة.
وبدأت بوادر هذا الصراع تظهر، بغض النظر عن المُحرك والمستفيد، من الجبل الذي جهد جنبلاط الى إحتواء مفاعيل مغامرة “حزب الله” في إتجاه منطقة لها من الخصوصية ما لها، الى الشمال حيث أعيد نكء الجرح العلوي- السني، الى البقاع الاوسط حيث تّم نصب المتاريس السنية – الشيعية وبدأت الجولات القتالية. كلها مؤشرات لما ستكون عليه شراسة المعركة: قتلٌ وتهجيرٌ وعملياتُ إنتقام وفعلٌ وردات فعل.
إرتكزت خطة جنبلاط – الحريري للمواجهة على تأكيد التمسك بخيار الدول والشرعية على ما عداها من أنواع الامن الذاتي والتسلح الجماعي، للحفاظ على ما تبقى من كيان ودولة على هشاشة مؤسساتها ولاسيما الامنية العاجزة عن حماية أبنائها، والمهددة بالإنقسام مع كل نسمة ريح طائفية ومذهبية. إلا أنها تبقى الخيار الأوحد لبقاء الدولة.
واستُكملت الخطة سياسيا ،على المستوى الجنبلاطي، بمقاربة مختلفة لا بد منها تأخذ في الحسبان المتغيرات المحلية والاقليمية والدولية، كما تفيد منها، وتمثلت بالآتي:
– هدوء في الخطاب السياسي الداخلي للتخفيف من وتيرة الشحن الطائفي والمذهبي، بعدما أدخل “إتفاق الدوحة” البلاد في وقت مستقطع بإنتظار الانتخابات النيابية وما ستسفر عنها، وأدى الى أنتخاب رئيس للجمهورية يعوَّل عليه في ان يلعب دور “صمام الامان” في ظل إنقسام الحاد في البلاد بين معسكرين يصعب على أحدهما إلغاء الأخر.
– إعادة الاعتبار للبُعد الاجتماعي – الاقتصادي الذي تراجع الى مستويات ثانوية في الاجندات السياسية.
– إيلاء قضايا مثل العروبة وفلسطين التي تشكل محور الصراع العربي- الاسرائيلي إهتماماً رئيسياً بعدما غُيبت كلياً من القاموس السياسي عقب إغتيال الحريري وإرتفاع وتيرة الصراع مع إسرائيل.
مقاربة تبدو من حيث الشكل نوعا من الهروب الى الأمام مما يعزز الانطباع بغرق جنبلاط في بحر من الإضطراب السياسي، في نظر الحلفاء. لكنها مختلفة من حيث المضمون بالنسبة الى مقربين من جنبلاط. إنها عناوين حركته السياسية لمرحلة ما بعد الانتخابات.
ذلك أن الانقسام السياسي في البلاد لن يزول بعد هذه الانتخابات . قوى الربع عشر من أذار التي شكلت جبهة عريضة ضمت مختلف المشارب السياسية من أقصى اليسار الى أقصى اليمين حققت في حركتها الاستقلالية العناوين الاساسية التي رفعتها، من المحكمة الدولية التي أضحت واقعا ملموسا ويؤمل منها أن تنجح في وضع حد للاغتيال السياسي، الى العلاقات الديبلوماسية اللبنانية – السورية التي كان مجرد الحديث فيها، حتى الامس القريب، ضرباً من الخيال، الى ترسيم الحدود وسحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات. فيما الملف الخلافي الشائك المتمثل بسلاح “حزب الله”، عُهد به الى رئيس الجمهورية لإستكمال إدارة الحوار حوله، رغم إقتناع الجميع بإمتداداته وإرتداداته الاقليمية وتالياً الحاجة الى تبلور الظروف المؤاتية خارجيا ليشق طريقه الى الحل.
ولكن في الانتظار، لا بد من إعادة صوغ مشروع سياسي داخلي يرتكز على قراءة دقيقة للخريطة السياسية والاجتماعية، ويضع في أولوياته برنامجاً انمائياً – إقتصادياً – إجتماعياً من شأنه أن يؤمن جسر العبور الى الدولة لفئات لبنانية وجدت في الطوائف والمذاهب و”المشاريع العقائدية الدينية” – وأبرزها “حزب الله” – ملاذاً سياسياً وإجتماعية وإقتصاديا، حين أخفقت الدولة عن توفير شبكة الأمان المطلوبة منها.
وفي الاطار الأوسع للرؤية الجنبلاطية، لا بد من إستراتيجية لصد الرياح الايرانية التي دخلت الى البيت العربي، سياسياً ومالياً، من بوابة الصراع العربي – الاسرائيلي. وهذه الإستراتيجية لا تكون إلا بإسترجاع هذه القضية الى الحاضنة العربية. وهو توجُّه بدأت معالمه تظهر بقوة بعد “حرب غزة” ، ولا بد من ملاقاته داخلياً عبر إعادة بث الروح في الوجدان اللبناني حيال القضية الفلسطينية التي كانت العنوان الأبرز في التاريخ النضالي للبيت الجنبلاطي ولمدن بيروت وصيدا وطرابلس التي احتضن أبناؤها الشتات الفلسطيني ولا يزالون.
يردد وليد جنبلاط دائماً: “أنا مرتاح حيث أنا”. لكن يخال للمرء أن أحداً من الحلفاء والخصوم لا يسمع.
الحلفاء منزعجون من موافقه التي تتلقفها المعارضة يومياً لتوظيفها في معركتها السياسية والانتخابية ضد قوى الرابع عشر من آذار. وجمهور “ثورة الأرز” غير قادر على فهم مغزى “التحول الجنبلاطي” وأبعاده، فيما جمهوره هو محْبَط يتحضّر للأيام الصعاب.
أما الخصوم فيمعنون في إستدراجه الى ملعبهم، والى إظهاره في موقع المخطىء والنادم على خياراته في السنوات الاربع الماضية.
جنبلاط القارىء الجيد للتحولات يدرك أن العداء لسوريا لا يمكن ان يكون أبدياً، لكن المطلوب علاقات من دولة الى دولة. وثمة من يرى في إندفاعه المبالغ فيه نحو خصومه كمن يحاول “شراء أمنه”، والأكيد أن هذا الرجل “الستيني” يعرف حق المعرفة أن غالباً ما تكون اللحظات القاتلة في… المنطقة الرمادية.
rmowaffak@yahoo.com
إقرأ أيضاً: