لا يوجد في سماء العالم العربي مكان لا يشكو من مشكلة جدية في بنيانه السياسي والانساني. وان انتبه احدنا لوجود ظواهر ايجابية في هذه الدولة او تلك فسرعان ما تتبخر من جراء قضايا اخرى تناقضها. وبينما تطرح قضية دارفور دوليا حيث توجه اصابع الاتهام في انتهاكات رئيسية لحقوق الانسان الى نظام البشير تطرح في كل دولة عربية قضية تعكر صفو انسانيتها من العمالة الى “البدون”، ومن طريقة تشكيل الحكومة الى توريث الحكم، ومن حقوق الانسان الى التمييز ضد فئات رئيسية في المجتمع انطلاقا من العرق و الطائفه والجنس او الرأي. في كل دولة عربية نجد مشكلة مع الممارسة الديمقراطية. فحتى الان لا مكان للطريقة الديمقراطية في الدول العربية، وذلك لان الحكومات لا تنتخب بل تعين ولان القادة يأتون الى سدة الرئاسة بطرق مختلفه لا تشمل الانتخاب. ان التحول من واقع تسلطي وغير ديمقراطي ومشاريع قبيلة وفئوية للحكم الى انظمة ديمقراطية يمثل ، ان وقع، انتقالا من عصر الى اخر.
ان احد الاسباب التي منعت بروز الديمقراطية في البلاد العربية حتى الان مرتبط بالثقافة . فالدولة بنظر معظم الحكومات العربية مشروع فردي، او شخصي، او عائلي، او قبلي، وهي قلما تكون مشروع وطني او قومي اكير من الجميع كما هو الحال بشكل رئيسي في تركيا والى حد كبير في ايران. . ففي كل دولة عربية قصة اسرة جاءت الى الحكم لتتوزع مناصب بلا استعداد لشراكة حقيقية مع الشعب. ونتساءل أين هو التعليم النوعي الذي يجب ان يطور قدرات الشعب، واين هي التشريعات التي تنظم الحياة السياسية والحزبيه؟ واين هو التنظيم الذي يجعل من الشعب قادر على تجاوز مرحلة الطفولة والمراهقة في السياسه؟ هكذا يمكن القول ان الحكومات العربية بشكل عام ومع اختلافات في بعض الحالات ابقت على الشعب بحالة من الضعف والتفكك ونقص في التعليم، واعتماد على البيروقراطية، وقمع وتسلط، ومنع من الممارسة السياسية.
ولا نستطيع ان نقول بأن العالم العربي لا يحتوي علي بعض التحولات. فهناك حالات من الانتقال البطيئ في بعض الانظمة الملكية الاميرية، وهناك حالة تغير في مسائل مثل الحريات الفردية وحق الانتخاب في بعض المجالات، لكن كل هذا لا يرقى لحالة النضج السياسي المطلوب الذي بأمكانه ان ينقل العرب باتجاه الديمقراطية. ان الانتقال يتطلب المقدرة على ايقاف التعسف الحكومي والاداري والسياسي وجعل المحاكم سلطة فوق سلطة النظام، ويتطلب التحول الديمقراطي هامش من الحريات في كل المجالات والاتجاهات، ويجب ان يتضمن توجها صادقا باتجاه تداول السلطة في ظل قوانين واضحة للاحزاب.
لكن من جهة اخرى ان ما يقع في العراق بالتحديد رغم اصوات الانفجارات والاقتتال يمثل احد هذه البدايات في العالم العربي. فرغم الكارثة الكبرى التي حلت بالعراق بفضل نظام البعث الذي قاده الرئيس السابق صدام حسين، ورغم الكارثة الكبرى التي حلت بالعراق بفضل سوء ادارة قوات الاحتلال للوضع العراقي منذ ٢٠٠٣، الا ان العراق يبدو في طريقه للتحول الى بلد ديمقراطي. ففي العراق لا يوجد اليوم نظام عسكري او نظام يورث الحكم من اب لابنه او اخ لاخيه. في العراق احزاب وتيارات كبرى وخلافات تقرر نتيجتها صناديق الاقترع. هذا الجديد في الواقع العراقي يمهد لمستقبل اكثر تطورا. فكل التقديرات تؤكد بأن العراق سيحتاج لعشرة الى خمسة عشرة عاما لكي تتحول فيه الديمقراطية الى نموذج متكامل النمو قابل للحياة والتطور. ان ما وقع حتى الان في العراق على صعيد الانتخابات يمثل خطوة ضمن طريق طويل لا نجد مثيل لها في الواقع العربي المأزوم. من جهة اخرى ان الاحزاب الاسلاميه التي تقود العراق بدأت هي الاخرى تتحول لاحزاب سياسية بأكثر مما هي اسلامية. مثلا حزب الدعوة الذي يقوده رئيس الوزراء المالكي، والتيار السني الذي يقودة نائب رئيس الجمهوريه الهاشمي، كلها تحولت باتجاه السياسة وايجاد حالة فصل بين ما هو سياسي وما هو ديني. التجربة العراقية تفرز كل يوم قوى جديدة ، وسوف تفرز قوة مركزية اكثر تأثيرا من غيرها.
هذا كله يؤكد لنا طبيعة التغير في المرحلة القادمة ..كان الاستعمار في السابق يقول بأن الشعوب المستعمرة غير مستعدة لحكم نفسها بنفسها وان الاستعمار يجب ان يستمر لفترات اضافية الى ان تبلغ الشعوب نقطة النضج. هذا ما كانت تقوله بريطانيا وفرنسا في كل مستعمراتهم. في المقابل كان الاستعمار يضعف من التعليم، ويحد من الممارسة السياسية ويتهم من يمارسها بالمقاومة. ولكن كيف يمكن لسلوكيات الكثير من الدول العربية ان تتقاطع وسلوكيات الاستعمار في الاستعلاء على حقوق الانسان والحياة الكريمة والتنمية والممارسة السياسية لمواطنيها؟. في التاريخ عندما سقط منطق الاستعمار وقع العنف ووقعت الثورات وتراجع الاستعمار واثبتت الشعوب انها قادرة على حكم بلادها، اما الدول التي تجاوزت العنف فقد تم هذا بفضل عدم مقاومة الاستعمار لرغبات المجتمع كما حصل باكثر من حالة جلاء بلا عنف وضمن اتفاق. الواقع العربي يعيش بين تناقضين. فاستقلال الشعب يعني ان يكون قادرا على حكم نفسه بنفسه بوسائل ديمقراطية مما يعني فقدان الحكومات الراهنة لسلطتها، اما عدم السير في الطريق الديمقراطي فيعني تآكل سلطة الدولة والحكم وتراجع مشروع الدولة وصولا لحالة انهيار.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت