“لوقتٍ طويلٍ لن يولد، هذا إذا وُلِدَ،
(سودانيٌّ) جليّ مثلك، وغنيّ بالمغامرة مثلك،
ذا أنا أُعظّم أناقتَه بنائح الكلمات،
ومتذكراً نسمة حزينة تخلّلت أشجار (النخيل)”
الشاعر الإسباني الكبير غارسيا لوركا في (بكائية من أجل إغناثيو سانشيز ميخياس) – ترجمة الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي، وبتعديل كلمتي (إسباني) إلى (سوداني)، و(الزيتون) إلى (النخيل).
الموت منتصر في النهاية !
الموتُ منتصرٌ في النهاية، كما هجس الشاعر الإسباني، غارسيا لوركا.الموت يهزمنا نحن الباقين بعد رحيل من هزموا الموت.الموت يشرقنا بالبكاء.وكلما سقط “عصرٌ من الكلمات”، ونشيدٌ إنسانيٌ صرف، كالطيب صالح، سقطت ورقة من أوراق العمر، عمرنا نحن.
الموت منتصر في النهاية.هزمنا – عنوة – مرات ومرات، بسرقة أجمل المخلوقات منّا، المخلوقات التي تفيض شعرا وموسيقى، وقادهم إلى “ممر لولبي”، هو ممر بياض لن يعودوا منه أبدا.وها هو، اليوم، يجرحنا إلى أقصى حد، ويزرع طعم العلقم في حلوقنا، باختياره، هذه المرة، “المهاتما/الروح العظيمة”، الطيب صالح !
يستعصي عليّ إلى أبعد درجة، ألا أرى الطيب صالح مرة أخرى، ولا أسمع صوته.وأن أعيش اليوم الذي أراه فيه – على شاشات التلفزيون -، محمولا على الأعناق، إلى مثواه الأخير.
يصعب تصوّر ذلك، فالأمر فادح جدا.أن يغيب عن العالم فجأة، ذلك الطيف النوراني المشع إنسانية، كأنه ضوء الفجر الخفيف الذي ينسرب بين هامات النخل، ناهضا من النيل، ليعم الأرجاء، ويبعث في الناس شعورا عميقا بمعنى الحياة.
إن كان الأمرُ أمرَ عبقرية أدبية متفجرة وحسب، لهان، لكنه أمرُ “إنسانٍ نادرٍ على طريقته” فعلا.إنسان “لا يجرح خدا”، ولا يؤذي زهرة، ولا فراشة. إنسان كأنه مخلوق من طينة سماوية، لا أرضية.
هكذا كان الطيب صالح، لكل من عرفه عن قرب.روح خفيفة كالنسمة، وعقل جبّار.في حضرته، يصبح المرء – بلا إرادة – تلميذا صغيرا ينهل من نبع الإنسانية.ينهل من رجل عظيم، على ثقافته الشديدة الاتساع، إلا أنه آسر للغاية بمعشره وروحه الإنسانية المتوقدة الفذّة.
ولعل ذلك هو سر عبقريته، التي لا انفصام بين شقها الأدبي العبقري، وجوهرها الروحي الذي قلّ أن تجد له نظيرا بين الناس، عامة الناس، الذين ما إن يبلغ الواحد منهم مرتبة ما، في سياق اللهث والصراع الدنيوي الفاني، حتى يحسّ بنشوة ذلك، وتعظم في عينيه نفسه، فما بالك بروائي عالمي كالطيب صالح! لكنه أبدى على مرّ السنوات، زهدا غريبا، وتقشفا نادرا، وتواضعا، وبساطة، وقلبا رقيقا، كقلوب الرضع، لا يخدش أحدا، ولا تغرّه الدنيا، ولا ينتظر من متاعها إلا أقلّ القليل، تصغر في عينيه العظائم.
هذه هي عبقرية الطيب صالح.عبقرية السوداني البسيط، البالغ البساطة، الذي تكفيه تمرات يلتقطها من “نخلة على الجدول”، وجرعات من ماء عكِر، لينام قرير العين، متفيأً ظلال شجيرة، تغطي بالكاد جسده.
ما أقسى خسارة أمثاله. وما أكبر فجيعتنا فيه على الصعيدين، الأدبي والإنساني.خسارته لا تُعوض.والمرارة ستبقى في حلوقنا للأبد، لأن أمثال الطيب صالح لا يولدون كل يوم، ولا كل سنة، ولا كل قرن. إنهم كالمستحيل، يضيئون سماوات العالم بأسره، ويشعون عليه، ويسبغون على شعوبهم، وعلى الإنسانية جمعاء، نورا وإلهاما يبقى أبد الدهر.
عازف عن الضوء، وزاهد في الأضواء عاش سيدي الطيب صالح.وهكذا رحل في صمت.صمت الفلاسفة الكبار.عرف الدنيا وأختبرها وأدرك حقائقها الكبرى، فعزف عنها وعن إغوائها.بل حتى سخر منها ومن أضوائها الزائفة. كان ناموسا بحدّ ذاته، كالنواميس الكونية الكبرى، وكالظواهر الخارقة، غير أنها في غاية البساطة، وفي هذه المعادلة الصعبة، بين الخارق والبسيط تكمن عظمة الطيب صالح.
khalidowais@hotmail.com
* روائي سوداني مقيم في الإمارات
– منشور في (الرأي العام) السودانية