كان الأمير مضجعا ً ساعة القيلولة، حين تسللت إلي أذنه همسة من أحد عبيده الواقفين.. يا رب ألهم مولانا بشي من العطش. اعترت الدهشة الأمير فزأر : أنا عطشان.وإذا بالعبد الهامس يعدو إليه كالبرق بقارورة الماء. شرب الأمير ثم راح يراقب.بعد قليل عاد العبد إلي مكانه والارتياح يعلو وجهه.
ما الحكاية بالضبط يا هذا؟! قال العبد: كنت أشعر بالظمأ يا مولاي، فتمنيت أن تطلب الماء لأسقيك أولا ً، ثم أشرب أنا من بعدك.
ترى من صاغ نفسية العبد على هذا النحو التعس ؟ إنه نظام العبودية. ذلك النظام الذي عرفه البشر منذ ظهرت الإمبراطوريات القديمة، عبر الحروب، ليتخذ المنتصرون من أسراهم المهزومين ومن أطفالهم عبيدا ً ومن نسائهم جواري.فما هو العبد؟ ( احظ التعبير : ما، التي هي أداة الاستفهام لغير العاقل) إنه كائن موجود في ذاته، وليس موجودا لذاته، كائن يتم تشكيله باعتباره شيئا ً مملوكا للسيد، يقتله أو يستحييه، يستخدمه كأداة للإنتاج في المحاجر والمناجم والحقول، أو يدربه على المصارعة الدامية مع أقرانه لزوم الترفيه في الاحتفالات، بينما الجواري يستخدمن لإنتاج اللذة الجنسية، أو للخدمات المنزلية من تنظيف وطبخ وتربية أطفال.
هكذا تنعقد العلاقة بين العبد ( ذكرا ً كان أم أنثى) وبين سيده داخل بنية Structure، للسيد فيها مطلق الحقوق، وللعبد الواجبات المطلقة. وحتى ما يحصل عليه العبد من طعام وملبس ومأوى ليس مما يدخل في باب حقوقه، إنما هي صدقات و تفضل ٌ من السيد إن شاء استمرت، وإن رغب ألغيت.ومع الوقت تتأصل هذه المعاني داخل عقول ووجدانيات السادة والعبيد على السواء.فالسادة لا يشعرون بأدنى حرج من كونهم جبارين قساة، وبالتوازي لا يشعر العبيد بأي غبن مما يلاقون، بل وربما نهضوا لمقاومة وصد من يأتي لتحريرهم، مساندة ً منهم لسادتهم.. فعل هذا الآلاف من عبيد الجنوب الأمريكي بالضد على جيش الشماليين الذي جاء ليرفع عنهم نير العبودية !
ثقافة العبودية هذه ما كان لها أن تبقي أبد الدهر، فالثقافة التي تناقض البيولوجيا لا مندوحة أمامها من الزوال والانقراض، ذلك ما جرى تدريجيا ً عبر العصور التاريخية .. انتفض عبيد روما ثائرين بقيادة سبارتاكوس – الذي لم تكن ثقافة العبودية قد ترسخت بعد في قلبه وروحه – حيث ساهمت ثورة العبيد تلك، مع عوامل أخرى، في تآكل الإمبراطورية الرومانية، فكان أن انقسمت أولا ً إلي قسمين، ثم تحللت ثانيا ً إلي دويلات شبه مستقلة، يحكم كلا منها “لورد” لا ينظر لسكانها نظرة روما القديمة لعبيدها “القانونيين”. العبودية الصريحة إذن ما لبثت حتى حل محلها في العصر الإقطاعي نظام “الأقنان” وفيه لا يكون الفلاح القن Helot عبدا ً للسيد “اللورد”، بل يمسى فحسب مُلكا للإقطاعية، غير مصرح له بمغادرتها وقت ّ يشاء، وبهذا صار العبد نصف عبد، وصار توزيع إنتاج الأرض مناصفة بين أقنانها وبين اللورد سيد الإقطاعية نظير حمايته لهم من غارات اللوردات الآخرين !
هذا الشكل الجديد من الاسترقاق ما كان له أيضا ً أن يستمر، إلا بمقدار ما كان للنظام الإقطاعي ذاته أن يدوم .ولكن كيف يدوم نظام هو بطبيعته معوق لنمو القوى الإنتاجية ؟ كان البورجوازيون ( = سكان المدن ) قد بدءوا مسيرتهم مع التاريخ اعتبارا ً من القرن الخامس عشر، بأمواج من الكشوف الجغرافية، و البحوث العلمية، والرؤى الفكرية، واشراقات الفنون والآداب، جنبا ً إلى جنب الاختراعات المتسارعة التي أدت إلى تشييد الورش الكبيرة، فالمصانع المعتمدة على الطاقة البخارية حديثة الاكتشاف …الخ في كلمة كانت الرأسمالية قد ولدت كنظام عالمي جديد، نظام مدرك أنه لن يمضي قدما ً قبل أن يصفي النظام السابق عليه: الإقطاع .
كانت الرأسمالية في أمس الحاجة للأيدي العاملة، بيد أن الأيدي هذه كانت ” محجوزة ” لدى الإقطاعيين
البلداء، لابد إذا ً من ” تحرير ” عبيد الأرض أولئك المساكين، هكذا صاح البورجوازيون الأوربيون وهم يطوون صفحات القرن الثامن عشر : Lesser passé, lesser fair
كان هذا هو شعار الثورة الفرنسية : دعه يمر، دعه يعمل.
العبودية الصريحة إذا ً أطاح بها سقوط الإمبراطوريات القديمة ( الإغريقية فالرومانية فالعربية فالعثمانية)
والعبودية المقنـّعة في العصر الإقطاعي، ألغاها البورجوازيون رسميا ً( على الأقل ) في العصر الرأسمالي،
ليس من باب الأخوة والمرحمة، وإنما فهما ً واستيعابا ً لدرس سبارتاكوس من ناحية، ومن أخرى جراء صعود النقيض : البروليتاريا الثورية التي أشعلت الثورات في كل مكان من أوروبا.فكان ضروريا ً إبرام تسويةCompromise تاريخية، ومن هنا يمكن فهم الكيفية التي بها تتالت المواثيق الدولية تحمي حقوق الإنسان، تمنع استرقاقه بأية صورة من الصور، وتؤكد على حقه الطبيعي في أن يحيا كائنا ً لذاته، وليس مجرد شئ في ذاته، مقرة له بحقه في العمل لدى من يشاء، وبحقه في ترك العمل حين يشاء، بل ومسلمة للأجراء بحقهم في الإضراب عن العمل لا بغرض تركه فعلا ً، بل لكي يجبروا أصحاب الأعمال على التفاوض معهم لرفع الأجور، وتحسين الشروط، وتعديل العقود، بل والسماح لهم بالمشاركة في الإدارة من خلال النقابات.وقد توج هذا كله بالتسليم للعمال بحق إنشاء الأحزاب التي يمكن أن تحملهم إلى حكم البلاد من خلال انتخابات عامة حرة ونزيهة.
عبر هذا السياق التاريخي بات الرأسماليون أنفسهم مقتنعين بأن ما تكتسبه الطبقة العاملة من مساحات على دروب الحرية، إنما هو أمر في صالح الجميع: رأسماليين وعمالا ً، حيث البديل ثورات ” حمراء ” تعصف بالنظام ذاته لصالح… ماذا ؟ اشتراكية قد تفضي إلى شيوعية ؟ اضطرابات قد تؤدي إلي فوضى ؟ لا أحد يدري على وجه اليقين، فلقد اختفى اليقين منذ أن صادقت العلوم الاجتماعية، والفلسفة الحديثة، ومن قبلهما الفيزياء على أن فكرة الحتمية ليست إلا أسطورة، وفي هذا برهان كاف على أن الحرية ( نقيض الحتمية ) كامنة في صميم الوجود الطبيعي، كما في العقل البشري، لا يعكر على ِطلابها تبدل ُ أشكال القيود فيزيقية كانت أم ميتافيزيقية .
أين كانت ثقافتنا العربية من كل هذه التطورات ؟ كانت نائمة في ما حسبته عسلا ً ! حتى جوبهت
بالعالم الرأسمالي المتقدم يزرع في أرضها بذرته الخبيثة المسماة إسرائيل، بها ينهش حصادها ويدمر مدنها ويفترس أبناءها، ضمانا ً لإبقاء العرب ضعفاء متخلفين، ليس لهم سيطرة على ثرواتهم الطبيعية ( تحديدا ً النفط Life Blood) ولا دور لهم في ترسيم أسواقهم الداخلية.فهل كان حريـّا ً بهذه الثقافة العربية أن تقبل التحدي – على الأقل – في مواجهة إسرائيل، بأن تتحول مثلها إلى النظام الديمقراطي؟
ليست الديمقراطية مجرد اختيار ساسة أو مفكرين إصلاحيين، بل هي عمل تاريخي يعبر عن حاجة المجتمعات الناهضة لبناء اقتصادي واجتماعي جديد، بناء لا يمكن تأسيسه على العلاقات الإنتاجية شبه العبودية وشبه الإقطاعية الموروثة، وهذه بدورها تبدأ في الاضمحلال والتلاشي حين تولد لدى الشعب الرغبة العارمة في الاعتماد على ذاته لا على الدولة، ومن ثم يقبل الشباب على التوسع في الصناعات الصغيرة، وإعادة الاعتبار لحرف كادت تتلاشى (مثلا صيد الأسماك وتصنيعها وتصديرها ) وابتكار موارد للرزق غير تقليدية مثل إنتاج الإلكترونيات والبرمجيات ….الخ وفي فورة النشاط اللاهب هذا سوف تنشأ
جماعات مدنية ونقابات وأحزاب سياسية جديدة تكتسب مصداقيتها من منشئيها المباشرين، وبالتوازي ستجد المؤسسات الحالية نفسها في حالة سباق إصلاحي لا مناص منه.
ساعتها سوف يرتفع البناء الديمقراطي على أساسه السليم القويم: حكم الشعب نفسه بنفسه. ساعتها
أيضا ً سوف يهب المرء ليسقي نفسه فور أن يشعر بالظمأ .
نشرت بجريدة القاهرة المصرية بتاريخ 17/2/2009
tahadyay_thakafya@yahoo.com
ثقافتنا بين نظام العبودية والانتقال إلى الديمقراطية
مقال شديد التميز كعادة كاتبنا الكبير د. مهدي بندق ، وأطالبه بالمزيد من هذه المقالات
الشائقة بالمعلومات الوفيرة الدسمة والتي يحتاج اليها القارئ المعاصر، خصوصا حين يشير إلى روابط فلسفية مثل فكرة الحتمية وعلاقتها بالحرية الانسانية
ثقافتنا بين نظام العبودية والانتقال إلى الديمقراطية برافو مهدي بندق ! اليوم ينتهي خلافي معكم , أن الحياة تفرض شروطها التاريخية وليس الإنسان يفرض شروط على عجلة التاريخ, بنظريات “فلسفية” غير مرنة , كاسدة . فقد قدمتم تسلسل تاريخي لتطور البشرية من العبودية إلى الرأسمالية بشكل ممتاز, بلا ادني شك, وما أدهشني أن وردت على لسانكم – قلمكم – هده العبارة المهمة جدا ((حيث البديل ثورات ” حمراء”)) أي الاشتراكية كأمر غير مرغوب من قبل المجتمع الرأسمالي ((عبر…………في صالح الجميع: رأسماليين وعمالا ً)) , لأنها تتعارض مع المنطق التاريخي ,لان المجتمع الرأسمالي يصحح الأخطاء في طريق سير عجلة التاريخ ,… قراءة المزيد ..