وجود آسيويين في القارة الإفريقية السمراء ليس بالشيء المستنكر أو العجيب. فمجرد النظر إلى خارطتي آسيا وأفريقيا يوحي بأن روابط واتصالات لابد وأنها نشأت منذ القدم ( منذ مئات السنين إن لم تكن منذ آلاف السنين) ما بين الساحل الغربي لشبه القارة الهندية والساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية من جهة والساحل الشرقي والجنوبي لأفريقيا من جهة أخرى، ولاسيما حينما كانت المناطق الثلاث خاضعة لإدارة واحدة ممثلة في الإدارة الاستعمارية البريطانية.
عبيد كرومي ينهي الحكم العربي في زنجبار
وتروي المصادر التاريخية أن “فاسكو دي غاما” حينما وصل إلى موزامبيق وممباسا وليندي في طريقه إلى الهند في عام 1497 استغرب من وجود أعداد كبيرة من العرب والهنود هناك، وهو ما تضاعف على مر السنوات والعقود لأكثر من سبب، ولا سيما مع ازدياد حركة التجارة التي كانت تعتمد على الرياح الموسمية في تسيير المراكب الشراعية المحملة بالأقطان والحرائر والبهارات والعاج والفخار و الأرقاء. أما العرب فقد لوحظ تزايد نفوذهم وحضورهم في القارة السمراء منذ أن عمد السلطان سيد سعيد البوسعيدي سلطان عمان إلى نقل عاصمته من مسقط إلى زنجبار في عام 1832 ، كنتيجة لتراجع دور مسقط بفعل النزاعات القبلية في جزيرة العرب، ثم بسبب توقعه الصائب لدور اقتصادي منتظر لساحل زنجبار خصوصا وسواحل إفريقيا الشرقية عموما. هذا طبعا قبل أن يأتي معتوه يدعى “عبيد كرومي” في الستينات و يقوم بانقلاب دموي احمر ضد سلاطين آل بوسعيد، كان من تداعياته إلحاق زنجبار بتنجنيقا في الدولة المعروفة حاليا بتنزانيا، وعودة الأفارقة من أصل عماني إلى وطنهم الأم، وذهاب عدد صغير منهم إلى المنفى البريطاني مع آخر سلاطينهم “السلطان جمشيد”.
أما رعايا شبه القارة الهندية فيعزى حضورهم ونفوذهم القوي في إفريقيا إلى عوامل مختلفة: منها أن الكثيرين من التجار الهنود الأثرياء الذين كانوا يقيمون في مسقط انتقلوا مع السلطان سيد سعيد إلى زنجبار، ولا سيما وان الأخير كان يتمتع بعلاقات جيدة مع حكومة الهند البريطانية التي كانت تعتبر هؤلاء من رعاياها، ناهيك عن أنه كان يحرص على إرضاء الهنود ورعايتهم بدليل تعيينه لشخص يدعى “جيرام شيفاجي” على رأس سلطة الجمارك والمكوس في زنجبار. ومنها أن حكومة الهند البريطانية أجبرت الكثيرين من رعاياها مع أواخر القرن التاسع عشرعلى الذهاب إلى إفريقيا وتحديدا إلى أربع بلدان: أولها أوغندا، وذلك من اجل العمل في بناء سكك الحديد التي لم يكن الأفارقة لديهم سابق خبرة فيه. وهكذا جاء إلى أوغندا تحت ضغط الفاقة والمجاعة نحو 32 ألف هندي، ماتت غالبتهم العظمى بالأمراض والأوبئة، فيما تمكن نحو سبعة آلاف فقط من البقاء و الاستيطان. وثانيها جنوب أفريقيا، وذلك للعمل في مزارع السكر في منطقة “كوازولو” بمقاطعة ناتال. وثالثها ورابعها كينيا وزامبيا، وذلك من اجل رفد الجهاز البيروقراطي المدني بالكفاءات البشرية غير المتوفرة.
سخط إفريقي
وفي جميع هذه الحالات، استدعت عوامل مثل تقديم خدمات خاصة لهنود المهجر التحاق أعداد أخرى كبيرة من الهنود بمن سبقوهم إلى أوغندا وجنوب أفريقيا وكينيا وزامبيا. وكان من تداعيات ذلك أن سيطر الهنود (معظمهم من البنجاب وكوجرات) على تجارة التجزئة في عموم شرق أفريقيا، الأمر الذي منحهم وضعا اجتماعيا واقتصاديا مريحا مقارنة بأبناء البلاد الأصليين، وبالتالي تسبب في سخط الشارع الإفريقي ضدهم وتعامله معهم بعنصرية، خصوصا وان هذه الأقلية كان من السهل التعرف عليها من خلال لون بشرتها أو ألوان وأشكال الملابس أو روائح مطابخها أو ثقافتها وفنونها الموسيقية أو لهجاتها الدارجة. ولعل أفضل دليل على صحة ما نقول هو أن أفارقة كثر هللوا للخطوات الارتجالية الحمقاء التي اتخذها دكتاتور أوغندا الأسبق عيدي أمين في عام 1971 ، أي حينما أمر أكثر من 80 ألف آسيويا من رعاياه بترك البلاد فورا دون أمتعتهم أو تصفية ممتلكاتهم. ومما لا شك فيه أن هذه التطورات كانت دافعا لمراجعة آسيويين كثر لحساباتهم وبالتالي اتخاذهم لقرار البحث عن أوطان جديدة قبل “وقوع الفأس في الرأس”.
وطبقا لأحد الإحصائيات المنشورة، انخفض عدد الآسيويين في القارة السمراء من 345 ألفا في عام 1968 إلى مجرد 85 ألفا في عام 1984، موزعين كما يلي: 40 ألفا في كينيا ، 20 ألفا في تنزانيا، ثلاثة آلاف في زامبيا، وألف شخص في كل من مالاوي وأوغندا.
منطقة غير طاهرة
والأمر اللافت للنظر هنا أن معظم المهاجرين الأوائل إلى إفريقيا من شبه القارة الهندية كانوا من المسلمين ومن الطائفة الاثنى عشرية، وكانوا في الغالب الأعم مصحوبين بزوجاتهم وأطفالهم، فيما كان الهندوس مترددين في الهجرة تحت ضغط التعاليم الدينية الخرافية التي كانت تعتبر أفريقيا منطقة غير طاهرة لسكن الزوجات وتربية الأبناء، وأنه من الأفضل للزوجة أن تبقى في بلدها لتربية أولادها، حتى وان استدعى الأمر اغتراب الزوج لسنوات طويلة. وهكذا كان الهندوس الذين ذهبوا إلى إفريقيا لاحقا يترددون على وطنهم الأم باستمرار للزواج أو الزيارة، بينما كان المسلمون مستقرين يديرون تجارة بسيطة أو ينشطون في أعمال يدوية.
السلطان سيد برغش
ويقال أن سلطان زنجبار سيد برغش آل بوسعيدي، تنبه للأمر من منطلقات اجتماعية أو من منطلق حرصه على ألا يختل التركيبة الدينية والمذهبية في زنجبار، فشجع رعاياه الهندوس على الإتيان بزوجاتهم، بل أرسل سفينة خاصة إلى عرض البحر لتحية أول زوجة هندوسية تصل إلى البلاد، ولمنحها مكافأة بلغت 250 شلنا. ومن أساليب التشجيع الأخرى التي تبناها السلطان برغش: تحويل قلعة زنجبار القديمة إلى سكن لزوجات التجار الهندوس مع تزويدها بشبكة مياه تعمل بالصنابير الفضية كي لا يحتجن للخروج والاحتكاك بالعامة.
جنوب افريقيون من اصل صيني
وتمثل جنوب أفريقيا حالة خاصة لجهة رعاياها الآسيويين. فهم أولا لا ينحصرون في القادمين من شبه القارة الهندية (يبلغ عددهم اليوم نحو 1.2 مليون نسمة أو نسبة 2% من إجمالي السكان) ، وإنما بينهم عدد معتبر من الصينيين. وقد يبدو لأول وهلة غريبا أن يعرف المرء معلومة تفيد بوجود جنوب أفريقيين من أصل صيني، لكن هذا هو الواقع الذي يعود سببه إلى قدوم عشرات الآلاف من الصينيين إلى هذا البلد في أواسط القرن التاسع عشر للعمل في مناجم الفحم في ناتال أو مناجم الذهب بالقرب من جوهانسبورغ. وفي أوائل الثمانينات، أشارت الإحصائيات الرسمية إلى وجود أكثر من عشرة آلاف مواطن من اصل صيني، وهو العدد الذي يقال أنه أرتفع مع بداية الألفية الجديدة إلى مائة ألف، علما بأن هناك من يدعي أن الهزات السياسية وحالة اللااستقرار التي شهدتها البلاد بعد زعامة نيلسون مانديلا، أفضت إلى هجرة اسر صينية عديدة إلى كندا، وتحديدا إلى مقاطعة اونتاريو.
مواطن ابيض فخري
ومن المهم هنا التذكير بأن وجود هؤلاء الصينيين (معظمهم من أصول تعود إلى مناطق في البر الصيني وبينهم بعض الآتين من تايوان) خلق مأزقا للنظام العنصري البائد في جنوب أفريقيا لجهة كيفية تصنيفهم، لا سيما وأن هذا النظام كان لا يعترف بالصين الشعبية و تربطه علاقات تجارية قوية مع تايوان. فعمدت الحكومة العنصرية إلى وضع الصينيين المنحدرين من البر الصيني في خانة المواطنين الملونين، فيما منحت أولئك المواطنين المنحدرين من تايوان أو اليابان أو كوريا الجنوبية صفة ” مواطن ابيض فخري”. والجدير بالذكر أن المنحدرين من كوريا الجنوبية جاؤوا إلى جنوب أفريقيا في عام 1903 تراودهم أحلام الثراء السريع بفضل ما كانت الحكومة تدفعه من أجور مرتفعة حينذاك للعاملين في المناجم. واليوم لم يبق من هؤلاء سوى أقل من أربعة آلاف شخص موزعين ما بين جوهانسبورغ وبريتوريا وكيب تاون.
أفغان ملتحون في الأدغال الإفريقية
وكما قلت في مقدمة المقال، فانه ليس بالشيء العجيب أن يكتشف المرء وجود آسيويين يعملون أو يقيمون في القارة السمراء، لكن الأمر العجيب والملفت للنظر هو ما كشفته السلطان الكينية مؤخرا عن قبضها على ستة أشخاص ملتحين يرتدون السراويل والقمصان الأفغانية الطويلة وهم مختفون في الأحراش والأدغال الواقعة بالقرب من العاصمة نيروبي. هذا الخبر والصورة المصاحبة للرجال الست والتي نشرتها الزميلة ” الشرق الأوسط ” في صدر صفحتها الأولى قبل مدة أثار العديد من التساؤلات مثل : ما الذي يا ترى جعل هؤلاء يقطعون آلاف الأميال عبر كهوف أفغانستان أو باكستان ومياه المحيط الهندي وبحر العرب للوصول إلى أدغال أفريقيا؟ وما الذي يا ترى كان يخفيه هؤلاء في جعبتهم، خصوصا وان كينيا تقع على مقربة من الصومال حيث لا دولة ولا مؤسسات ولا جيش نظامي وإنما أشباه إدارات تسيطر عليها مجموعات ميليشاوية أو مجموعات من القراصنة وقطاع الطرق، وبما حولها إلى هدف نموذجي لكل الجماعات الساعية لتنفيذ المخططات الإجرامية والإرهابية في العالم، من بعد أن كانت في ظل الاستعمارين البريطاني والإيطالي دولة يشار إليها بالبنان.
إن السلطات الكينية مطالبة اليوم بالإسراع في نشر نتائج التحقيق مع هؤلاء أو إعلام الدول المجاورة بها، للحيلولة دون وقوع حوادث إرهابية جديدة. ولعل كينيا التي اكتوت بالإرهاب مبكرا يوم أن استهدف تنظيم القاعدة مباني السفارة الأمريكية في نيروبي تعلم أكثر من غيرها أن أجهزتها الأمنية ليست بالكفاءة التي تجعلها تنام قريرة العين، وبالتالي عليها مضاعفة الجهود من خلال التعاون والتنسيق المشترك مع دول حوض البحر الأحمر لاجتثاث بذرة الإرهاب وقطع دابره.
elmadani@batelco.com.bh
*البحرين- باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية