الانهيار المدوى للشركات المالية الامريكية العريقة مثل ليمان برازرز وميريل لينش واضطرار الحكومة الامريكية للتدخل لشراء بعض البنوك وضخ الاموال فى البعض الآخر مع الانخفاض الحاد والمتسارع فى بورصة المال فى وول ستريت جعل الكثير من الكتاب والمحللين يهرعون لاعلان وفاة الرأسمالية وسقوط الامبراطورية الامريكية . ولكن الهرولة فى الفكر لاتؤدى سوى الى الشطط فى الاستنتاج ومن الحكمة امام احداث جسام كهذه ان نجهد فى الفحص الدقيق مع الاستعانة بالتجارب التاريخية للاستفادة من دروسها حتى يمكننا فهم مايجرى اما اعيننا فهما لاتلوثه العقائد المسيطرة على الفكر ولا العواطف والأهواء المسيطرة على النوازع والغرائز.
فهل مايجرى امام اعيننا اليوم يعنى وفاة الراسمالية وبداية الانهيار للامبراطورية الامريكية؟
بخصوص التساؤل عن إنهيار الامبراطورية فقد تناولت هذا الموضوع الهام فى مقال مفصل نشر هنا فى اكتوبر 2007 بعنوان: “هل بدأ انهيار الامبراطورية الامريكية؟” ولن اعيد هنا ما قدمته من استنتاجات يمكن للقارئ ان يعود للمقال لقراءتها. ولكننى ساركز هنا على التساؤل حول وفاة الرأسمالية وسقوط النظام الإقتصادى الرأسمالى الغربى.
ثروة الامم
رغم ان بذور الرأسمالية كانت موجودة بصورة او اخرى منذ بدأ الانسان يمارس التجارة حتى فى شكلها البدائى فى المجتمعات الزراعية والبحرية منذ فجر التاريخ الا ان بزوغ الرأسمالية كنظام متطور متكامل لم يحدث الا فى بريطانيا فى فترة تحولاتها الكبرى من التظام الاقطاعى الى النظام الصناعى. ثم وجدت الرأسمالية اطارها الفكرى المتكامل بعد ذلك فى العمل-
العلامة الفارقة: “ثروة الامم” –The Wealth of Nations- للمفكر الاقتصادى الامريكى آدم سميث، واللافت حقا ان كتابه هذا ظهر عام 1776 وهو نفس عام اعلان استقلال أمريكا، ومن هنا ارتطبت الراسمالية فى شكلها الأكمل –نظريا وعلميا- نظاما ومنهجا – بالولايات المتحدة الامريكية التى وجدت فيها عقيدتها الاقتصادية وفلسفتها الثقافية. والواقع ان الرأسمالية ليست نظاما اقتصاديا فقط ولكنها –بالتالى وبالضرورة- نظام اجتماعى وثقافى شامل هو الذى يقوم بعملية الخلق المتبادل مع النظام الاقتصادى فكل منهما يؤثر فى الآخر ويشكله ليمنحنا فى النهاية ما اطلق عليه تعبير “الحلم الامريكى”.
وقد استطاع آدم سميث ان يقدم تنظيرا بارعا للرأسمالية منحها ركائزها الفكرية الاساسية منذ ذلك التاريخ والى اليوم اى طوال التاريخ الامريكى كجمهورية مستقلة. واهم ماجاء به آدم سميث فكرتان عبقريتان. الاولى هى ان الامم تخلق ثرواتها عندما تمنح كل فرد من افرادها فرصة ان يحقق رغباته مدفوعا بنزعته الى تحقيق مصلحته الشخصية. فالمبدأ الاول فى عقيدة آدم سميث والرأسمالية هو ان الانسان مدفوع الى تحقيق مصلحته الشخصية وان هذه النزعة هى القيمة الاساسية لديه والدافع الاول لكل تصرفاته وافكاره. وآدم سميث لايقول هنا ان هذا هو مايجب على الفرد أن يفعله وانما فقط يشخص مايراه واقعا وهو ان تحقيق المصلحة الذاتية هى الدافع الاساسى للإنسان فى حياته. فهو ليس مبشرا ولانبيا يقدم لنا مجموعه من المبادئ او الوصايا التى علينا اتباعها ولكنه يقدم نفسه كعالم فى مختبر كيميائى عثر بعد بحث عملى طويل على المحرك الاول للفرد فى المجتمع فقام بعزل هذا المحرك وتوصيفه وتسميته وتقديمه لنا.
اما الفكرة الاساسية الاخرى التى قدمها آدم سميث فهى ان “يد السوق الخفية” هى اليد المثلى المنوط بها ضبط ايقاع السوق التى يحقق فيها الفرد مصلحته ورغباته الشخصية بأن يشترى مايرغب فيه من ناحية ويخلق ويقدم للسوق مايبتكره ويصنعه هو من منتج او عمل او خدمة ليشتريها من يرغبها من ناحية اخرى. وعلى هذا فتقوم الرأسمالية على مبدأ الحرية الفردية وحرية السوق وهما القدمان اللتان تسير بهما الراسمالية قدما.
ولكن هذه الحرية ليست مطلقة فهى تنتهى عند حدود حرية الاخر ويكون بينهما شرط التعاقد الحر. وعلى الدولة ان تقصر دورها على القيام بدور الشرطى المنظم لحركة المرور الحرة ودور القاضى الذى يحكم فى الخلافات بين الفرقاء استنادا على مابينهم من شروط التعاقد ولكن حتى آدم سميث لم يقل ان للرأسمالية حرية كاملة، فقد عرف أضرار احتكار السوق وطالب بمنع الاحتكار. ولكنه بشكل عام كان ضد القوانين التى تحد من حرية السوق وعارض الجمارك المفروضة على السلع المستوردة من الخارج وعارض كافة تدخلات الدولة فى الاقتصاد وأهمها الضرائب المختلفة. البعد الثقافى الاجتماعى لفكرآدم سميث –والرأسمالية- هو مبدأ الحرية الفردية وقدسيتها كقيمة انسانية عليا تستمد شرعيتها من كونها منحة الخالق للانسان.
الحرية والقوة
ومن مبدأ الحرية الفردية نبعت ثقافة القوة فالذى يطلب الحرية الفردية والاستقلال عن الآخرين بما فى ذلك الوالدين –والشباب الامريكى يستقل عن والديه فى سن الثمانية عشر بعد الدراسة الثانوية مباشرة – هو انسان قوى يعتمد على نفسه وعلى قدرته الذاتية. وكان اعظم من عبر عن اقتران الحرية بالقوة فى الثقافة الغربية هو الفيلسوف المبدع فريديريك نيتشه فى عمله العبقرى “هكذا تكلم زرادشت” وكان هذا عملا فكريا يقف مضادا تماما للفكر المسيحى الذى يعلى فضيلة الوداعة والاتضاع ونبذ العنف وعدم الاعتماد على الذات بل انكارها واذلالها والاعتماد على الله بدلا منها.
ورغم ان الرأسمالية فى تطبيقاتها الامريكية اخذت –نظريا ورسميا- الإيمان المسيحى عقيدة والكنيسة الانجيلية مسكنا وقلادة الا انها فى واقع الامر اتخذت من نيتشه وفكرته عن الحرية والقوة منهاجا عمليا فأنتجت نموذج الكاوبوى الذى يمثل القوة والحرية معا اى انها تخذت المسيحية مظهرا والنيتشوية جوهرا. وهكذا بررت لنفسها استمرارها فى تكريس نظام العبودية باستعبادها للإنسان الافريقى الذى جلبته جماعات من افريقيا لاستغلاله كما تستغل الدواب فى المزارع والبيوت الامريكية. واستمر هذا التاريخ المرير اربعة قرون حتى وصلنا الى لحظة تاريخية اصبح فيها الرجل الاسود الذى اتى والده من افريقيا على وشك الدخول الى البيت الابيض ليصبح حاكما لأمريكا فى مفارقة تعجز عنها بعض مسلسلات الدراما المصرية!
العدالة والمساواة
بعد تسعين عاما من ظهور “ثروة الامم” لآدم سميث منظرا للرأسمالية ظهر كتاب “رأس المال” لكارل ماركس فى آوروبا .. منظرا للشيوعية التى ستظل تناطح الراسمالية لعدة عقود بعد ذلك تنتهى بانهيارها مع انهيار الاتحاد السوفياتى قبل نهاية القرن العشرين وقد قدمت الشيوعية فكرا طوباويا خلابا استحوذ على قلوب الملايين من الشباب المتحمس لانه قدم فكر ة مضادة للحرية والقوة وهى فكرة العدالة والمساواة وقد عبرت الشيوعية عن فكرتها هذه فى عبارة بارعة هى “من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته” وهكذا امكنها فى عبارة قصيره تقديم فلسفة مثالية تجسد العدالة الكاملة! ولكن الخلل الاساسى فى هذه العبارة -الآية- هو كيف يمكن حساب قدرة كل شخص وحاجته؟ ومن يقوم بذلك الدور؟ من يتدخل بشكل قسرى لسلب ماينجزه الفرد ويجمعه من ثروة بما يعتبره يزيد عن حاجاته ويمنحه للملايين من المحتاجين غير القادرين؟ وقد أثبت التاريخ مع انهيار الشيوعية حول العالم فشل هذه الفكرة وهذه التجربة التى لم تنتج سوى كسادا اقتصاديا عاما وبيروقراطية متحجرة وقمعا سياسيا للحريات اذ حققت فى النهاية المساواة فى الفقر ودفعت ثمن هذا من حرية الانسان التى وحدها تغذى قدرته على الخلق والابداع والتطور.
تمويل الابداع
فى مقابل ذلك تعرضت الراسمالية لهزة أساسية واحدة فى تاريخها –قبل الهزة الحالية- وهى الكساد العظيم الذى بدأ فى أمريكا عام 1929 وكان رد الفعل التقليدى للرئيس الامريكى هربرت هوفر وقتها هو عدم التدخل من قبل الدولة عملا بمبدأ آدم سميث المقدس فى ان يد السوق الخفية هى الكفيلة والقادرة وحدها على ضبط ايقاع النظام الاقتصادى برمته. وهكذا وقفت الدولة “تتفرج” بينما راحت البنوك والمؤسسات المالية تنهار واحدة وراء الاخرى وهرعت الجماهير تحاصر البنوك مطالبة بسحب اموالها كلها فى وقت واحد واستمر الكساد العظيم عدة سنوات حتى جاء روزفلت فقام بإطلاق عدد كبير من مشاريع الانشاء العامة الهائلة –مثل انشاء شبكة الطرق- الهاى ويى- التى تتمتع بها امريكا اليوم. واعاد باعماله واقواله الثقة فى الفرد وفى السوق فى نفس الوقت.
واليوم مع انهيار عدد من المؤسسات المالية الامريكية نجد الحكومة الامريكية- رغم انها حكومة الحزب الجمهورى الاكثر اخلاصا لفكرة آدم سميث – تقوم بالتدخل بشكل قوى ومباشر بشراء عدد من هذه المؤسسات وضخ الاموال لمساندة الآخرين ولاشك ان ما أدى الى تفاقم الوضع هو فقدان الشعب الامريكى- بنسبة ثلاثة ارباع- ثقته فى قيادة بوش وحكومته قبل ذلك بسبب خداعها فى ملابسات حرب العراق و فشلها المتكرر فى إدارتها للحرب عبر خمس سنوات ونصف. ولكن يؤدى النظام الديمقراطى الى تصحيح المسار دائما بفرضه للتغيير فى القياد ة كل اربع او ثماني سنوات على الاكثر ومع قيادة رئاسية وطاقم عمل جديد يتسلم الزمام مع مطلع عام 2009 يتوقع الخبراء إنحسار الكساد فى خلال عام أو عامين وعودة الرأسمالية الى تمويل الابداع الاقتصادى والحضارى المعاصر.
لايعنى هذا ان الرأسمالية الامريكية والعالمية بعد هذه الازمة ستظل على نفس شكلها ومواصفاتها التى كانت عليها قبلها. فهى لم تظل كما هى بعد الكساد العظيم وانما قام روزفلت ومن بعده من رؤساء بإدخال عدد من آليات التنظيم والمراقبة والتأمين على الودائع وتسهيلات التسليف وغيرها من القيود والقوانين بما أدى الى تفادى وقوع هزة مماثلة عبر حوالى ثلاثة ارباع القرن حتى وقعت الهزه الحالية. ولايوجد نظام فى العالم يبقى كما هو دون دورات من التغيير والتطوير.
فالمدهش حقا ليس هو كيف حدثت هذه الصدمة الهائلة اليوم بل كيف لم تحدث سوى صدمتين هائلتين فقط واحدة عام 1929 والاخرى عام 2008 على مدى قرنين واكثر من الرأسمالية الامريكية! ان هذا إنجاز فى حد ذاته.
نهاية العقائد الجامدة
ان ماحدث للرأسمالية منذ الكساد العظيم وحتى الهزة الحالية هو انها راحت تأخذ من النظام الاشتراكى – بموضوعية وبلا انغلاق ايدلوجى مميت- اكثر الافكار فائدة فقدمت آليات الضمان الاجتماعى والتأمينات العمالية ووسعت من الخدمات العامة، بما اصبح اقتصادها اليوم يعرف بالاقتصاد المختلط Mixed Economy اى ذلك المبنى على الفكر الراسمالى المطعم بأليات اشتراكية واجتماعية تقوم بها الدولة بالتدخل المحدود. وفى المقابل نجد ان الصين اليوم تحقق نجاحا متسارعا تحت نظام شمولى مطعم بالكثير من آليات السوق الراسمالية فقد رأت كيف استطاعت الراسمالية ان تحقق على مدى تاريخها القليل نسبيا كافة ماقدمته الحضارة الغربية من انجازات حديثة فى العلوم والطب والهندسة والفضاء وثورة المعلومات والرفاهية الانسانية واستنتجت الصين انها لن تستطيع تحقيق اى من هذا سوى باقتباس آليات السوق الحر فى إطار ثقافتها المحلية المميزة.
ان الدرس الأهم هنا هو ان الأيديولوجيات والعقائد الجامدة –سواء كانت لآدم سميث ام لكارل ماركس او غيرهما- لاتستطيع البقاء اذا ما انغلقت على نفسها وتصورت انها نهاية التاريخ (كما قال فوكوياما عن الليبرالية الغربية بمنهج فكرى مختل) او تصورت انها كاملة الاوصاف لاتحتاج الى مراجعة دورية لضبط ايقاعها مع ايقاع العصر، كما توهمت الشيوعية، وكما يدعى المتشددون دينيا الذين لايريدون الإقامة سوى فى عصر السلف. وهذه آفة مجتمعاتنا العربية اليوم – التى ستظل بهذا تابعة ومفعولا بها ليس لها من دور سوى مشاهدة ما يدور حولها فى العالم وانتظار الفرج!
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك
أحزان آدم سميث: لا تسرعوا بإعلان وفاة الرأسمالية!
As always you look at things very deep and get to the bottom of it, you control your bias in an excellent way.
أحزان آدم سميث: لا تسرعوا بإعلان وفاة الرأسمالية!
I apologize for an error I made in the article regarding the nationality of Adam Smith. The line about him should read: “آدم سميث باحث اقتصادي أسكتلندي” و ليس أمريكيا٠
Francois