سعد كيوان- “الشفّاف- بيروت
يبدو أن رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان حسم أمره وقرر خوض معركة الانتخابات النيابية المقررة في الربيع المقبل، عبر السعي الى تشجيع قيام “كتلة نيابية مستقلة” مقربة من العهد. وما يرجح هذا التوجه قوله أمس، أمام وفد من هيئة خريجي كلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، أن هناك “حاجة الى كتلة نيابية وطنية ترجح المصلحة الوطنية”، مضيفا (أو مستدركا؟) “تكون الى جانب الوطن، وليس الى جانب رئيس الجمهورية”. ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يتكلم فيها سليمان عن مثل هذا الاحتمال، فقد سبق ولمح الى ذلك خلال استقباله، قبل أكثر من شهر، وفدا من نقابة المحررين، الا أن كلامه هذه المرة جاء أكثر وضوحا ومباشرا. فهل ان هذه “الجرعات” التمهيدية والمتدرجة تعكس خيار سليمان الجدي والنهائي في الدخول من الباب الواسع الى الساحة السياسية والنيابية، و”التموضع” في وسط اللعبة بين فريقي الصراع، أي الأكثرية الممثلة ب”قوى 14 آذار” والأقلية المصطفة ضمن 8 آذار؟ وما هي الخلفيات التي تقف وراء هذا التوجه؟ وعلى ماذا، وعلى من يراهن؟
يعمل سليمان جاهدا، منذ انتخابه (25 ايار الماضي)، وتحديدا في الشهرين الأخيرين، الى تثبيت التهدئة التي نتجت عن “اتفاق الدوحة” (21 ايار 2008)، والى تعزيز الأمن، واطلاق الحوار مجددا، عبر تعميم وتشجيع رقعة التفاهمات و”المصالحات” بين القوى السياسية، وداخل الطوائف ومذاهبها، التي لا تزال في جانب منها عصية حتى الآن… واستطرادا باتجاه تحسين العلاقة مع سوريا.
فكانت أول زياره له الى دمشق، في 13 آب الماضي، التي يبدو انه نتج عنها الاتفاق على اقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين وتبادل السفارات. كما يبدو أنه تم “وضع اليد” على الملف الأمني، الذي يسعى النظام السوري الى توظيفه لصالحه في أكثر من اتجاه، محاولا استدراج عطف الأوروبيين والاميركيين في معركته ضد الأرهاب من جهة، وابقائه مفتوحا كوسيلة ابتزاز بهدف الحفاظ على نفوذه في لبنان.
ولكن سليمان يدرك تماما ان ملف العلاقة مع سوريا مرتبط وثيق الارتباط بمواقف الأطراف اللبنانية، وتحديدا “قوى 8 آذار” – المتحالف منها مع النظام السوري أوالتابع له – ومدى تأثير دمشق على ارادة وخيارات هذه القوى، التي عادت تسلك مجددا طريق الشام، باستدعاء من بشار الأسد الذي بدأ يعد العدة للانتخابات النيابية المقبلة. فاذا كان “اتفاق الدوحة” والانفتاح الفرنسي على دمشق، وتحديدا – وعلى وجه الخصوص – اطلاق المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل، قد ساهم في فك عزلة النظام، الا ان بشار اضطر بالمقابل الى تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل “حكومة وحدة وطنية”، واقرار قانون انتخاب، والتسليم باقامة علاقات دبلوماسية، والتزامه تطبيق القرار 1701 كما أعلن مؤخرا في معرض تبريره للحشود العسكرية على حدود لبنان الشمالية و…
ولكن، النظام السوري ليس في وارد تقديم كل هذه “التنازلات” مجانا، والتخلي عن نفوذه ودوره في لبنان. وهو، كعادته، يلعب دوما أكثر من ورقة، وعلى أكثر من طاولة. فلديه الآن ورقة الملف الأمني، ويحضر ورقة الانتخابات، ويتهيء ليلعب الورقتين على طاولتي المسرح الداخلي اللبناني، والمسرح الأقليمي. فيما يبدو ان حلفاءه اللبنانيين والمرتبطين به بدأوا بتمهيد الأرض له عبر عرقلة “المصالحات”، ووضع العصي في دواليب طاولة الحوار، العزيز على قلب رئيس الجمهورية، والذي يصر عليه في احاديثه ورحلاته الى الخارج.
وعشية العودة الى طاولة الحوار، المقررة في 5 تشرين الثاني المقبل، يرتفع صوت “قوى 8 آذار” مطالبة بتوسيع الطاولة ودائرة المشاركين، لكي تضم شخصيات غير ممثلة في المجلس النيابي – وهو المعيار الذي اعتمده نبيه بري، أحد أركان 8 آذار الأساسيين، عندما دعا للمرة الأولى، في 2 آذار 2006، الى طاولة حوار، وباشرافه. من بين هذه الشخصيات سليمان فرنجيه، عمر كرامي، طلال ارسلان وأسامه سعد، وجميع هؤلاء مرتبطين بشكل أو بآخر بالنظام السوري.
وتفيد المعلومات ان بري عبر خلال لقائه أمس الأول رئيس الجمهورية عن رغبته (هو؟) في أن يتم توسيع طاولة الحوار، وأنه على الأرجح قد تشاور مسبقا في هذا الأمر مع “حزب الله”، المايسترو الفعلي لحركة 8 آذار في السياسة، وعلى الأرض. يقابل ذلك، عنترية سليمان فرنجيه وتصلبه في رفض أية “مصالحة” مع سمير جعجع، الذي حشره في الزاوية عندما وافق على مشاركة ميشال عون في اللقاء: “اما مصالحة بشروطنا أو ستين سنة عليها…”. ناهيك عن فولكلور عون وديماغوجيته، وتهجمه المستمر على رئيس الحكومة فؤاد السنيورة (شد العصب المسيحي في مواجهة السنة!). وآخر حلقة في هذا الفولكلور، “فقاعة” عصام ابو جمرا الذي انسحب من جلسة مجلس الوزراء الأخيرة احتجاجا على عدم اعطائه مكتبا داخل سراي القصر الحكومي… عدا عن الوعود بمقاعد انتخابية بدأت تمنن بها دمشق على بعض من زارها مؤخرا، ومن ضمنهم “الحزب الشيوعي” لصاحبه خالد حداده!
فهل يقلب هؤلاء طاولة الحوار؟ وكيف يقرأ سليمان هذه المواقف، وهل يعتبر انها تستهدفه بشكل مباشر؟ أم أنها في سياق المواجهة بين الفريقين فقط؟
يعتمد سليمان اسلوبا هادئا في مقاربته للأمور، يشوبه شيئا من “الالتباس” الذي يحمل أكثر من رسالة غير مباشرة. أسلوب من “يمشي بين النقاط” محاولا تحقيق توافق على الحد الأدنى، وحشر الآخر، من دون الوقوع في المنزلقات. وقد حرص أمس على التأكيد أن “المناخ السياسي تحسن بشكل ملحوظ، وكذلك المناخ الاقتصادي، والتحسن السياسي والاقتصادي يساعد على تحصين الأمن”.
ثم تكلم عن الديموقراطية التي تكمن، ليس فقط في الانتخابات التي أكد أنه ستجري في موعدها، وانما أيضا الاعتراف بنتائج هذه الانتخابات. فهل كان يؤشر هنا الى ما جرى بعد انتخابات 2005 والتشكيك بها من قبل الأقلية التي شلت البلد وأغلقت المجلس وعطلت الحياة البرلمانية؟
وبعد هذا التمهيد أثنى على “المصالحات” التي تمت، معربا بعكس التوقعات عن تفاءله بتحقيق “المصالحة المسيحية”، أي المارونية، التي اجتازت برأيه “مسافات كبيرة اذ أن الجزء الأكبر متصالح مع بعضه البعض”، مؤكدا في المقابل أن “موقع رئاسة الدولة على علاقة جيدة مع الجميع…”.
ثم دخل في صلب الموضوع، ملاقيا المطالبة بتوسيع طاولة الحوار ب”عدد قليل ومحدود”، وانما مشروط ب”موافقة الجميع” عليه. وألحق ذلك بكلام تحذيري، من نوع “أن الحوار ليس مضيعة للوقت”. وعند سؤاله عما اذا كان يسعى لأن تكون لدية كتلة نيابية في المجلس المقبل، أجاب سليمان: “أنا رئيس توافقي لكل البلاد، وهذا لا يمنع قيام مستقلين ليس بالضرورة أن يكونوا أصدقاء للعهد بل اصدقاء للوطن، بمعى أصدقاء للمصلحة الوطنية”، ثم أضاف بشكل أوضح: “أنا لست بحاجة الى كتلة نيابية، أنا بحاجة الى كتلة وطنية ترجح المصلحة الوطنية وتكون الى جانب الوطن، وليس الى جانب رئيس الجمهورية”.
ومن يجسد مصالح هذا الوطن؟
من دون الغوص في مفهوم الوطن، وعلى ماذا يقوم، ومن يمثله ويجسده، لا شك ان سليمان يدرك ان المحطة الأساسية والمفصلية في مسار عهده هي الانتخابات النيابية المقبلة، التي سينتج عنها مجلس جديد يستمر طيلة فترة حكمه، لغاية ربيع 2013. أما الانتخابات التي ستليها فهو سيشرف عليها فقط قبل سنة من رحيله. لذلك، أراد توصيل الرسالة، والتحضير بهدوء لخلط أوراق المعركة الانتخابية، التي لا يمكن الا ان تكون على حساب فريق 8 آذار، اذا أحسن ادارتها، خصوصا في دوائر جبل لبنان. والأهم من ذلك، أن يحسن “فريق 14 آذار” توحيد صفوفه، وحسم ترشيحاته، وتوحيد خطابه السياسي!
ولا شك ان سليمان مدرك، كما يؤكد المقربون منه، ما معنى الكلام الذي صدر على لسان أكثر من مسؤول سوري، بما فيهم الأسد نفسه، ان “فريقنا سيربح الانتخابات المقبلة في لبنان”. فهل يمكن ان يقبل، أو أن “يحمل”، أكثرية سورية الولاء والقرار؟
في موازاة العلاقة مع رئيس الجمهورية، وما يقال عن نية سوريا تسهيل مهمة سليمان، خصوصا في مجال التعاون والتنسيق الأمني الذي يبدو حيويا لدمشق في هذه المرحلة، الا ان النظام السوري ليس في وارد التخلي، أو التراجع عما له من نفوذ في لبنان. فكيف اذا كان هذا سيعني كسب الأكثرية مجددا الانتخابات، في مرحلة جديدة مقبلة عنوانها الأساسي، على الأرجح، التفاوض المباشر مع اسرائيل بموازاة ملف ايران النووي المفتوح على كل الاحتمالات؟
تشير المعطيات المتوافرة الى ان الحكم في سوريا:
أولا، يضغط بشكل مباشر من أجل توسيع طاولة الحوار، لدرجة تخريبها اذا اضطر الأمر. فهو غير مرتاح لتركيبة السلطة الحالية، ولا الى وجود السنيورة على رأس الحكومة.
ثانيا، يريد منع وضع استراتيجة دفاعية جديدة، يصر عليها سليمان، تجبر “حزب الله” وضع نفسه وسلاحه بتصرف الجيش والشرعية، ما يؤدي الى اضعاف موقفه التفاوضي مع اسرائيل.
ثالثا، يشدد على ضرورة انتزاع الأغلبية النيابية بشتى الطرق، ولو بـ”مصالحات” موقتة، وباتفاقات جزئية هنا وهناك مع الأكثرية، بهدف ضمان التحكم ايضا بالعلاقة مع لبنان والابقاء على المجلس الأعلى اللبناني-السوري، الذي يرأسه نصري خوري، اللبناني الجنسية والسوري الولاء، وهو الآتي من صفوف الحزب القومي السوري. وكذلك الابقاء على “معاهدة الأخوة والصداقة” والاتفاقات المجحفة بحق لبنان.
رابعا، يريد التحوط لقرب انطلاق عمل المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، اذ ان فرنسا واروربا ترفض تقديم أية ضمانات لحماية النظام السوري من الملاحقة والمحاسبة.
فهل ان سليمان مستعد لأن يصبح أسيرا في “قفص” ما تخطط له سوريا عبر حلفائها في لبنان؟
s.kiwan@hotmail.com